بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وبعد...

هذه أقرب لأن تكون خاطرة عن أن تكون مقالة..
لا يخفى عليكم أن السؤال العاطفي من أكبر السؤالات الإلحادية انتشارًا واصطيادًا لضعاف الإيمان..
الإنسان الذي يرثى لحاله لا يكون باليقين بصحة موقفه كذلك الذي يرثى لحال الآخرين..
إن ملاحظة الشر والعناء من حولك والتألم لذلك هي عاطفة شفافة وراقية، لذلك يشعر من يقوم بذلك بأنه على صواب تمامًا في ظنه.. وبأن مشكلة الآخرين الذين لا يوافقونه أنهم أكثر دورانًا حول الذات من أن يلاحظوا هذا..!

ولكن السؤال العاطفي الذي يتعلق بالحياة الدنيا ليس ما أنوي التحدث عنه..
ولكن سؤال أكبر منه وأكثر تأثيرًا وهو ما يتعلق بالآخرة..!

أمة كاملة على غير دين الإسلام يولدون ويعيشون دينهم ودنياهم ثم يموتون ليكونوا من أصحاب النار مخلدين فيها يستنشقون من دخانها وتلتهمهم نيرانها أبد الدهر..!
يفكر العاطفيّ ويقول: لا أستطيع أن أتخيل هذا..
يحزن عليهم، ويرثي لهم..

ثم أن هناك من يتوقف عند هذه المرحلة..
وهناك من تقوده الظنون الخائبة، وأكاذيب الإنسانية الشفافة إلى التكذيب بالدين الذي يقول هذا، فيسقط في براثن الإلحاد أو الربوبية.. لينضم بنفسه إلى هؤلاء الذين كان يشفق عليهم..!

وأنا هنا لا أخاطب من وصل إلى الإلحاد أو الربوبية، ولكن أخاطب المسلم المتشكك، والذي تقوى هذه الشبهة في نظره..

لاحظتُ آيتين من كتاب الله عزوجل لهما ارتباط وثيق بهذا المعنى..
أما الأولى: "الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ"..
المؤمن المصدّق لله عزوجل ولكتابه العزيز، يعلم حقًا معنى هذه الآية..
الله عزوجل قد أخبر الخبر الصادق اليقيني أنه قد حرّم الظلم على نفسه في الدنيا والآخرة وفي كل حين، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه روى عن ربه عزوجل أنه قال: "يا عِبَادِي إني حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فلا تَظَالَمُوا"..
ولكن يوم القيامة اختصه الله عزوجل بالتأكيد على هذا: "لا ظُلْمَ الْيَوْمَ" ، للإجابة على السؤال العاطفي.. أن أهل النار لن يظلموا، وأنهم بأنفسهم سيشهدون بهذا: "وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" فحتى الكفار سيدخلون في هذا التحميد، فيحمدون الله عزوجل على عدله لهم، وعدم تعذيبهم بما لم يقترفوه..
فإن الله عزوجل لن يعذب إلا من قامت عليه الحجج الثلاثة:
1) الفطرة والميثاق: وهذه دخل فيها كل بنو آدم..
2) العقل: لذا خرج المجنون من هذا العذاب..
3) الرسالة: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا" ..

ولكنك من الممكن أن تؤمن بهذا ولكن لا يبلغ هذا عقلك.. كيف لا يكون الخلود في جهنم ظلمًا لأهل النار..؟! مهما كان حجم ذنبهم، ألن يأتي يوم يكفي لهم كي يدفعوا ثمن هذا..؟
من الممكن أن أرد عليك بأن الكافر ينوي البقاء على كفره أبد الدهر لو عاشه، وأنه لو عاد إلى الدنيا حتى لعاد إلى الكفر..
من الممكن أن أجيبك بهذا، ثم لا يزال عقلك عاجزًا عن أن يستوعب..

هنا تأتي الآية الثانية لتخبرك أن: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْم"..
لو ظننت أن عقلك الصغير هذا كافٍ لاستيعاب كل حِكَمِ أفعال الإله عزوجل، فقد ظننت سوءًا وخطلًا..!
فالحل فيما لا تقدر على فهمه بشكل كامل ألا تقفُ وتتبع وتطارد ما ليس لك به علم..
بل إن هذا مما لم تكلف به لأنه ليس في وسعك: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"..
لا يكلفك الله بمعرفة الحكمة من هذا الفعل أو ذاك، ولكنه يكلفك بأن تؤمن بصدق وقوعه، وأما حكمة ذلك وكيفيته فهو ما ليس في وسعك..
وكذا في غيرها من السؤالات الوجوديّة الأخرى التي لم يطلع الله عليها أحدًا من عباده، والتي يكفي اتباع محاولات الإجابة عنها إلى مقاربة دخول أبواب الضلال..!
وأشهر الأسئلة من هذا النوع سؤال القدر [والذي هو مرتبط بشكل ما بالسؤال العاطفي الذي ذكرتُه في البداية] :
- كيف يكون للإنسان إرادة حرة واختيار، ومع ذلك لا يمكن أن تتعارض مع مشيئة الله عزوجل..؟؟ الإجابة: لا نعلم، ولسنا مكلفين بأن نعلم..


إذن..
ما علاقة هذا الكلام بعنوان المقال..؟
الفكرة أني وجدتُ الرُقيّ الأمثل في تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع السؤال العاطفي..
لم يعترض على ربه، لم يستشكل قضائه..
برغم أنه كان أعلم الناس بحقيقة النار وأهوالها وعذابها..
وبرغم أنه كان أكمل البشر، وأكمل البشر هو أكملهم حسًّا ورقةً وعاطفةً وحنانًا..
وبرغم أن أباه وأمه كانا من أهل النار أيضًا..!
ففي صحيح مسلم عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي قال: "فِي النَّارِ"، فلما قفى دعاه، فقال "إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ" .. وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي".. وبرغم أنهما كانا من أهل الفترة ولكن الله عزوجل قد أوحى إليه أنهما لا يؤمنان إذا امتُحِنَا يوم القيامة.. كما رجح بعض أهل العلم..

برغم كل هذا كان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم هو التعامل الأمثل الذي أراده الله عزوجل منّا: الهم لدعوتهم، والحرص عليهم: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ" - "إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ" واحتمال الأذى منهم في سبيل هدايتهم، وبذل النفيس والغالي في سبيل إيصال دعوة ربه، وحزن نفسه عليهم حتى كاد يهلك: "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا"..!
وكان في قلبه الحزن العميق عليهم.. حزن من يشفق على أناس، أن يتألموا في دار العذاب التي يعلمها جيدًا أبد الدهر.. حزن قد تكلم عنه الله عزوجل، ولطِفَ فيه بنبيه صلى الله عليه وسلم: "لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ" - "وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ" - "وَمَن كَفَرَ فَلا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا" ..

الفرق بين طريقة تعاملنا مع السؤال العاطفي بيننا وبين النبي صلى الله عليه وسلم، هو الفرق بين من يقفُ ما ليس له به علم، وبين من هو وقّافٌ عند حدود الله..
بين من يكلف نفسه ما لا تطيق، وبين من يعلم حجم نفسه وعقله البشريين جيدًا..
بين من يخاطر بإيمانه لأجل حزنه على غيره، وبين من يحزن على غيره فيحرص على هداهم ويزيد بهذا الحزن إيمانه..