بقلم : اميرة الجلباب
روعة الإنسان في حياة قلبه.. وحياة قلبه في تمام عبوديته لله تعالى.. وإن إنسانا عبّد روحه لغير باريها لم يعد
في قلبه روعة الإنسان!
رأيتها في ذلك اليوم واقفة مع صويحباتها في محطة الانتظار.. ملابسها ضيقة.. شعرها مسترسل.. وقد أرسلت
خصلة منه طويلة على جبينها.. زينتها الصارخة تلفت الأنظار!

همٌّ في القلب يهبط.. وحيرةٌ مؤلمة تغشاه.. حين يرى المرء مسخ الهُوية.. وضياع الانتماء.. وضحية التغريب والتقليد الأعمى..

يقول تعالى: ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [آل عمران : 104 ]
وجاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعونه فلا يستجاب لكم ) رواه الترمذي وقال حديث حسن.

في حقيبتي رسائل لطيفة للدعوة إلى الحجاب..توكلت على الله، وتقدمت نحوهن أحمل الرسالة..( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ
الْفَاتِحِينَ
) ]الأعراف : 89 [
مددت يدي نحو كل واحدة منهن قائلة -بلطف وود-: تفضلي هدية!
تناولت كل واحدة منهن هديتي باستغراب!.. وعندما جاء الدور على تلك الفتاة نظرت إلى ما في يدي وقالت:
«ما هذا؟! ».. عاجَلتها التي بجانبها -وكانت أيضا غير محجبة-: «هذا لأجل ما أنتِ صانعتَه بنفسك! »
فما كان منها إلا أن استدارت بكتفها بعيدا عني ولم تأخذ الرسالة!.. وألقت بخصلة شعرها إلى الخلف وهي تهز رأسها، قائلةً بتعالٍ:
«أنا حرة !! ..»
لم أُصدم كثيرا.. فالإساءة متوقعة!..ولكن ذهني اتجه على الفور إلى شيء آخر..ما هذه الكلمة التي قذفتها في وجهي: «أنا حرة! ..»
وكأنها قنبلة لها دوي، ألقتها في وجداني!.. وأخذ صداها يتردد وعلى أبواب العقيدة والتوحيد يطرق!
سألتُ زميلة لها على انفراد: «أهي مسلمة؟ ،»
قالت: «نعم !»
لحظات من الصمت يخالطه التفكير.. هل أنسحِب؟!.. ولكن.. إن لم تكن للحق أنتَ فمن يكون ... والناس في محراب لذات الدنايا عاكفون!
كيف «حرة »؟..
وحق الله تعالى على العباد أن يكونوا عبيدا له، لا أحرارا!.. وحق الله تعالى أحقُ أن يُنصر!
في أثناء ذلك.. جاءت المواصلة التي كنّ ينتظرنها هنَّ لا أنا!.. هناك دائما عربة للسيدات ركِبن فيها .. ولم يكن مما لابد منه بُد!.. فركبتُ خلفهن!
زحام شديد.. ولكني وُفِقتُ لمكان بالقرب منهن.. من أين أبدأ يا ربي.. العون منك!
بدأتُ مع صويحباتها أولا بكلام أشبه بالتعارف.. وأنا أحاول بهدوء وثقة أن ألتقط الخيط الذي أريد!
الحمد لله تقبّلن مني.. واصلتُ معهُن.. وشيئا فشيئا بدأت صاحبتنا تتجاذب معي أطراف الحديث.. سعدتُ بذلك وبادلتها الحديث بود.. لم يمضِ الكثير حتى وجدتها تقول لي - وكأنها تريد أن تعتذر-:
«هل أنتِ متضايقة مني؟ »
قلتُ لها -وكأني نسيتُ كل شيء-: «ولِمَ؟ »
قالت: «لأني لم آخذ منكِ الورقة! »
تأكدتُ أن الطريق قد أصبح مفتوحا الآن، فقلت -على مَهَل-:
«لا، لم أتضايق منك لأنك لم تأخذي مني الورقة ولكن الذي ضايقني هو قولك: «أنا حرة !!»
هذا الذي أحزنني..
***
قد يتبنى الإنسان فكرة ما، دون تحليل أو دراسة أو تفكّر، ويعيش بها، ثم تنمو الفكرة داخله وتتغلغل، وقد يستغرق في تبنيها العمر كله دون أن يتوقف لحظة عندها ليتأمل!.. هل هي تتفق مع عقيدته؟ وهل تتسق مع مبادئه؟ ولمّا كانت الكلمة سبيلا لوصف فكرته، وعقيدته، وكشف سريرته،
كانت لهذه الكلمة في ميزان الشرع وزنا ثقيلا، وشأنا خطيرا، ومِن ثَمَّ استحق بعضها أن يهوي بصاحبها سبعين خريفا!
إن هذه الكلمة «أنا حرة! »
من أخطر ما قد يُقابل به الإنسان شرع ربه إذا ما خُوطِب به.. لكن ثَمَّ شبهة.. إذ ربما يلقيها أحدهم كردة فعل على شخص من يُخاطبه، وهو يعني بها أنه حر من موقفِه منك، ومن نصيحتك، ولسان حاله: «لا دخل لكَ بي، وليس لكَ عليَّ سلطان حتى تأمرني وتنهاني !»
وهذا خطأ من وجهين:
أولا: أن الذي يأمر وينهى هو الله عز وجل، وليس الشخص الذي تقدَّم بالنصيحة.
ثانيا: أن هذه النصيحة ليست تطفلا، أو تدخلا فيما لا يعني، أو تعديا على حريات الآخرين -كما يعتبرها البعض- بل هي دعوة إلى الله تعالى، أي من صميم الإسلام، وسبب لخيرية الأمة! أو ربما يُلقيها آخر، وهو يتبنى هذا التصور السطحي لمعنى الحرية، الحرية التامة، المنطلقة، التي لا تُحدُّ ولا تُقيد إلا بقيد وحيد هو القيد الاجتماعي! والذي لا يُعد كذلك حاكما عليها إلا بالقدر الذي لا تصِل فيه إلى لون من إزعاج الآخرين، أو التعدّي على حقوقهم، بصورة ما محسوسة، ومحدودة!.. أما غير ذلك فلا! إذ يبرز هنا سؤال طبيعي.. ألا يُعد تبرج المرأة في الطرقات لونا من ألوان
إزعاج الآخرين في مشاعرهم، ونوعا من أنواع الأذى لأبصارهم، والتعدي عليهم في معتقداتهم، والاستهانة بها؟!
أوَليس من حدود الحرية ألا تتعدى هي على حقوق الآخرين، ومِن ذلك حقهم في السلامة مِن الإثم، وحقهم في طهارة القلب، وحقهم في أن تكُف عنهم نداء الجسد، فتمضي في سبيلها دون أن تُبعثر عطرها وزينتها، أو تنشر خطيئتها في نفوس المحيطين بها! ألا ينبغي أن تراعي حقهم في نفوس طاهرة مستكنّة، وأبصار سالمة مطمئنة!
لا شك أن هذا التصور الساذج -الآنف الذكر-لمعنى الحرية يتنافى مع المنهج الرباني، الذي يُعد المنهج الوحيد القائم في الأرض الذي يُفسر الحرية
عامة، وحرية المرأة خاصة، تفسيرا صحيحا قائما على منظومة كاملة من الوعي والفهم للإنسان والحياة، وحُسن التصور للعلاقة ما بين هذه الحياة والحياة الآخرة ومتطلبات كل منهما.

مكمن الخطر!

فما هو مكمن الخطر في هذه الكلمة؟
إن اعتقاد الإنسان أنه حر مع شرع الله تعالى اعتقادا جازما.. لا يعني فقط رفضه لصفة العبودية واستنكافه منها، بل يعني أيضا منازَعَته لله سبحانه في بعض معاني ربوبيته! فإذا كان توحيد الربوبية يعني إفراد الرب عز وجل بأفعاله، مثل الخلق والرزق والتدبير، فهو يعني كذلك تفرده سبحانه بحق الأمر والنهي والتشريع، والمِلك والمُلك التام لكل ما في الكون.. ولما كان في ادعاء الإنسان أنه «حر »، الحرية المطلقة، ادعاء بأنه يملك نفسه مِلكا تاما، ويملك السلطان المطلق عليها، كان ذلك منازعَة للرب سبحانه في معنى من معاني الربوبية، وهو معنى المِلك والمُلك التام!
وهو معنى انفرد به الرب سبحانه لا يُشاركه فيه أحد، فضلا عن أن يعتدي عليه أو ينازعه فيه أحد! والمنازعة في هذا المقام من جهتين:
الأولى: من جهة «المُلك »، وذلك لمّا اعتقد العبد أنه ليس للشرع سلطان عليه، وليس له أن يُلزمه بشيء، فلا فرض ولا واجب، وأنه له الحق أن يقبل أو يرد منه ما يشاء.
الثانية: من جهة «المِلك »، وذلك لما اعتقد العبد أنه يملك روحه وعقله وجسده مِلكا تاما يتصرف فيه كيف يشاء.
أما من جهة «المُلك »، فإن الذي تفرد بالخلق أول مرة هو من يستحق المُلك على الحقيقة، وهو «المَلِك » الذي له حق الأمر والنهي والتشريع، والسيادة على كل ما في الكون.. ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ]الأعراف : 54 [.
فإذا كان يعتقد العبد أنه حر مع أوامر «المَلِك » ونواهيه، يأخذ منها ما يشاء ويدع ما يشاء، وأن له أن يُشرِّع لنفسه ما لم يأذن له به، وليس للشرع أن يلزمه بشيء؛ فهو منازع للرب سبحانه في تفرده بهذا الحق.. قال تعالى: ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله ) ]الشورى : 21 [.
وأما من جهة «المِلك »، فنحن وإن كنا نملك أجسادنا وذواتنا وصفاتنا ظاهرا، إلا أنها في الحقيقة مِلك لله تعالى، أما مِلكنا لها فهو مِلك نسبيّ، ينقصه العموم والشمول، وينقصه كذلك التصرف المطلق!
ورغم أن هذه القضية تبدو بديهية لأول وهلة؛ إلا أنها تغيب عن كثير من الأذهان في واقع الناس بشكل مذهل! قضية أن الذي يملك على الحقيقة هو الله، وأنه تعالى لو شاء لاسترد ودائعه منا في أية لحظة لا يحول عنها شيء، هي قضية مسلَّمة وغائبة في آن واحد! إذ كيف يدعي شخص أنه حر، ويفعل في جسده وأملاكه ما يشاء بينما مِلكه لهذا كله مِلك نسبي، مؤقت، غير كامل، نسبي ينقصه العموم والشمول، مؤقت بأجل محدود لا قبل ولا بعد، وقاصر غير كامل ينقصه التصرف المطلق الذي لا يملكه قدرا ولا شرعا.
فإن كان مثلا يملك أن يتصرف في شكله الخارجي التصرف المباح أو الممكن، إلا أنه لا يملك شرعا الحق في أن يهلك نفسه، أو يحرق جلده، أويزهق روحه، كما لا يملك قدرا أن يوقف عرقا ينبض أو خلية تتجدد، أو يمنع ما قد يجده نقص يوما من قوة سمعه أو بصره، أو ضعُف من قوته وحركته، أو ذاكرته!.. أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ ؟
فمن ادعى أنه حر وأنه يملك ذلك كله؛ فقد غالط نفسه، وكذب، وجعل من نفسه ربا من دون الله تعالى، بينما هو عبدٌ مملوك لم يعدو قدره، مِلك لله تعالى بكل ذراته وكيانه، لا ينبغي أن يتصرف فيما وُهب له إلا بإذن مالكه الوهاب. ( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
)  ]يس: 83 [
ولذلك من مظاهر الشرك في الربوبية أن يعتقد الإنسان أنه يملك نفسه، وهذا من أخطر مظاهر الشرك في قضية المِلك والمُلك أن يظن الإنسان نفسه حرا ويقول:
«أنا حر ،»
فيظن أنه حرا مع أوامر الله سبحانه وتعالى، إن شاء قَبِلَهَا وإن شاء ردَّها فليس للإنسان مِلك حقيقي، ولا مُلك تام، مهما كان شأنه.. وهل كان يملك الإنسان من أمره شيئا أيام نشأته الأولى حين كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة؟.. هل كان بالفعل حرا في لحظات الفقر التام تلك؟.. فكيف أعلن اليوم أنه قد أصبح حرا؟! وهل سيكون حرا في لحظاته الأخيرة عند الموت؟.. ( قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ]آل عمران : 168 [ قال الله عز وجل: ( فَلَوْ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ]الواقعة : 86 - 87 [.
وهي لحظة الفقر وظهور عدم الملك، فلو أن الإنسان غير مُحاسب، وأنه يملك نفسه وروحه، فليُعِد لهذا الميت روحه التي يرغب في استمرارها في جسمه، فهذهقضية عظيمة الخطر في حياة الإنسان، ولذلك لو تصرف الإنسان في أي جزء مما أعطاه الله على أنه مالك ولا سلطان عليه فقد خرج من معنى توحيد الربوبية، ولو اعتقد الإنسان أن شيئا من ماله أو جسمه أو حياته ليس لله عليه فيه سلطان ولا يملكه الله، فقد خرج من ملة الإسلام.. ولاشك أن الكلام عن نوع الاعتقاد، ولا يُسقَط الحكم على المعين إلا بضوابطه المعروفة.
فهل تحررت حقا -من أعلنت أنها «حرة »- من ملكه لها ومُلكه عليها؟.. وهل انفردت بالفعل عن ملكوته، وخرجت عن حيز مُلكه وجبروته؟.. ولكن إلى أين؟! إن تصرف الإنسان وسلوكه الخارجي ليس مبنيا على فراغ؛ ولكنه مبني على نوع من الاعتقادالداخلي، وإن السلوك المبني على اعتقاد الإنسان أنه «مالك » وأنه «حر »، مبني على اعتقاد باطل، وهذا الاعتقاد هو منبع الخلل في السلوك والعمل!..
لذا لزم تصحيح العقيدة أولا! قد لا يعلم من يستنكف عن العبودية لله تعالى ويستكبر، وهي عبودية واحدة، عادلة، رحيمة، أنه قد تكبّل بعبوديات شتى، ظالمة، مهلكة، وأنه قد تكبَّل بما هو أشد وأضيق ( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ]يوسف : 39 [
فإن رضي العبد بالعبودية للرب الواحد الحق، واستسلم له، كان حرا من كل قيود الأرض، وفاز بشرف الحرية المطلقة من كل العبوديات الأخرى..
فهل أنتِ «حُرَّة !؟ »