سأُمَنْهِج: "س" – ككائن بشري – وليكن تاريخ ولادته: 13 / شباط / 1956، ولنفترض أنه سيموت يوم: 18 / تموز / 2012. ما هو كم المعارف التي حصلّها أثناء حياته، وما نوعيتها؟
سأفترض افتراضاً لاحقاً للافتراض الأول، يفترض أنَّ "س" –هذا الكائن البشري– كانَ (نجَّاراً)، وبناء عليه، سأحاول تقديم ريبورتاج تقريبي لما عرفه من يوم ولادتـه وحتى يوم موتـه.
ولأنه ريبورتاج تقريبي، فإني لن أدخل في تفصيلات لا تخدم مسار ما أنا بصدده؛ فقط سأعرض لما يمكن أن يفي بالغرض، ولنبدأ من يوم تعلّمه لمهنة النجارة: لا بُدَّ أنهُ تعلَّم النجارة لدى مُعَلِّم، وما لجوؤه إلى هذا المُعلِّم إلا لأنهُ لا يعرف شيئاً عن مهنة النجارة، وعن طريق هذا المُعلّم يُريد أن يُلِمَّ بموضوع النجارة من جميع جوانبه؛ أي أنه يُريد أن يعرف كل شيء لكي يبدأ بشقِّ طريقه لوحده وتأمين مصدرٍ لرزقه!
وفي رحلة تعلّمه لا بد أنهُ تعرَّف على أنواع الخشب، وما يمتاز به كل نوع على حساب الأنواع الأخرى، وأيها أنسب لصنع باب أكثر من الأخرى. ولابد أنه تعرف إلى الآلات التي يتوجب عليه التعامل معها أثناء صناعة باب خشبي أو سرير أو صندوق أو أية قطعة خشبية أخرى.
ولكي يكون هذا الريبورتاج ريبورتاجاً مُحكما، فإني سأتساءل ما هي الأدوات والأشياء التي يجب على النجّار أن يتعامل معها لكي يُتقن حرفته كنجّار يُعتَدُّ بصناعته ويُشار إليها بالبنان؟
سأجتهد فيما يحتاجه النجّار على سبيل التقريب:
محل لفتح المِنجرة وممارسة مهنة النِجارة، وما يستتبع ذلكَ من أدوات مهمة لبدء العمل، من مناشير لقص الخشب وغِراء ومسامير وشاكوش وورق لأخذ قياسات...الخ.
هُنا يستلزمُ الأمر بعض التوضيح: هل يجب على النجّار أن يُلِمَّ بكل شيء حولَ الأشياء التـي يستخدمهـا –مكوناتها الأساسية-حتى يتمكن من إتقان عمله على الوجه الأمثل؛ أي هل يتوجب عليه أن يعرف مكونات الغِراء الأساسية –قبل أن تصبح مادة لاصقة– لكي يتمكن من صناعة باب أو خزانة على الوجـه الأكمل، وهل يجب عليه أن يتعرف على مكونات المنشار –المواد الخام التي شكلّت خميرة هذه المنشار– لكي يُنجز أعماله بشكلٍ طيب؟
هُنا ينفتحُ المِغلاق المعرفي على مصراعيه في وجهِ الذات، ويفضح استعدادَ الكائن البشري للمعرفةِ على الإطلاق. فالمعرفـة بملبوسها الأنطولوجـي قد تُدمِّر حيوات الإنسان وتفتُّ في عضدِ وجوده أساساً. فبالصيغة العيانية للكائن البشري، توضّعاته في الزمن والمكان وإحداثية وجوده بصيغها المعمول بها أزلاً، تستغلقُ المـعرفة بصيغها الإطلاقيـة على هذا الفنـاء الآدمـي. فذاكَ الكَمُّ الهائلُ من المعـارف{1} يستغلق (كَمًّا) على الذات الفرديـة؛ فأيّ ذات ليست لديها القدرة على الإلمام بهذا الكم الهائل من المعارف خلال فترة تواجدها في الزمن والمكان حتى لو أمكنَ لها أن تتواجد في العالَم منذ الأزل وحتى الأبد. فرضاً تواجدت منذ الأزل وحتى الأبد، هل لها القدرة على الإلمام بمعارف حول علم الغابات كمـا هي مُلمة بمعارف حول زراعة البطاطا مثلاً – على أساس أنها تزرع البطاطا وخبيرة في هذا النوع من الزراعات -؟ وهل لها إلمام كُلِّي بكل شيء على الإطلاق؟
Bookmarks