يؤمن أهل السنة والجماعة بكل ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما ثبت آمنوا به وسلموا، والشرط الوحيد عندهم هو أن يصح ذلك فقط، وأن يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ثبت شيء من الأمور الغيبية في الكتاب أو السنة آمن به أهل السنة والجماعة ، كما كان يؤمن به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من القرون المفضلة، قبل ظهور أهل البدع والضلال، إذاً لا يوجد عندهم أي شرط في أي شيء إلا أن يثبت ذلك ويصح بالشروط المعروفة، أي: أن يصح السند إذا كان حديثاً ولا يكون فيه شذوذ ولا نكارة، وغيرها من شروط الحديث الصحيح التي يذكرها الأئمة المعروفون في ذلك، فإذا أثبتوا أمراً من الأمور فإن كان ذلك الخبر عن أحوال يوم القيامة، أو الجنة أو النار، أو من صفات الله عز وجل، فكل ما جاء وصح نؤمن به.
ولا نعرضه على عقل ولا على رأي، ولا نقول هذا يخالف العقول، أو يخالف البراهين أو القواطع العقلية، ولا نقول: لا نؤمن به حتى تثبت سلامته من المعارضة العقلية أو نحو ذلك، ولا نقول أيضاً كما يقول الطرف الآخر، فالطرف الأول هم الذين يعارضون بالعقل وهم المتكلمون، والطرف الآخر هم الصوفية وأمثالهم الذين يقولون: ثبت بطريق الكشف، أو ثبت بطريق الذوق أن هذا لا ينبغي، أو أن هذا لا يجوز، وأن ذلك لا يصح أو ما أشبه ذلك، كما تقول الصوفية مثلاً في الحكم لأبوي النبي صلى الله عليه وسلم بأنهما في الجنة، ويردون الأحاديث الصحيحة في ذلك، ويقولون: هذا لا يليق وقد ثبت عن أرباب المعرفة وأرباب الكشف والذوق أنهم في الجنة ، هذا كلام لا يقبل عند أهل السنة والجماعة لأن العبرة عندهم هي: أن يصح الدليل هذا هو الشرط في أي حكم وفي أي أمر من الأمور، ولهذا أهل السنة والجماعة لا يفصِّلون في الأبواب، ولا يفّرقون فيجعلون أبواباً عقلية، وأبواباً سمعية، فكل ذلك عندهم شيء واحد، كله إذا ثبت به الدليل وصح به النقل آمنوا به وسلمت له عقولهم، وأيقنوا به في قلوبهم دون أي معارضة ولا أي تردد.
هذا بإيجاز مذهب أهل السنة والجماعة وأما غيرهم فإنهم في مثل هذا الباب -في باب السمعيات- إما أن يردوا ذلك مطلقاً، ويقولون: إن العقل يعارضها، كما نقل عن المعتزلة ومن اتبعهم من الروافض: أنهم ينكرون عذاب القبر أو ينكرون الميزان أو ينكرون الصراط ومنهم أيضاً من أنكر الإسراء والمعراج الذي هو موضوعنا وأخذوا يقولون: لا يعقل ذلك، وقال بعض المعتزلة نؤمن بالإسراء ولا نؤمن بالمعراج، أي يقولون: الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم العودة هذا ممكن أن يقع عقلاً؛ لكن الصعود والعروج إلى السموات السبع، هذا يحيله العقل فلا يؤمنون به.
أما في عصرنا هذا فكثير من المساكين سلكوا هذا المسلك فقالوا بإحالة كل خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العقل فإن وافقه يأخذون به وإن لم يوافقه يردّوه وهناك من قال بتأويله حتى قيل أن احدهم قال أن هناك احاديث موضوعه في صحيح البخاري وقد إستدل على ذلك بأن هذه الأحاديث لا يقبلها العقل مثل حديث أن ملك الموت جَاءَ إِلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام فلطمه ففقأ عينه، وقَالَ: هذا الحديث لا يقبله العقل إذاً هو موضوع، حتى لو كَانَ الذي رواه الإمام البخاري ولا كلام في سنده ..
ولو طبقنا هذه القاعدة فكم سيبقى عندنا من أحاديث؟ كل إنسان يمكن أن ينفي ما شاء، فإذاً نَحْنُ بهذه الحالة لسنا عبيداً لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وإنما نَحْنُ أنداد -عياذاً بالله- فالعبد شأنه أن يطيع سيده وأن يصدقه، لكن إذا كَانَ يقول: هذا أقبله وهذا لا أقبله فهذا ندُُ لله. إذاً فما الحاجة إِلَى أن يبعث الله الأَنْبِيَاء والرسل ما دام أنهم لا يأتونا بشيء إلا ونعرضه عَلَى العقل فإن أقره آمنا به وإن لم يقره رفضناه، فيشتغل النَّاس بكلام الرسل نفياً وإثباتاً ودراسة وتمحيصاً.
ولشيخ الإسلام إبن تيميه كلام نفيس في الرد على هؤلاء موجزه : أن من قال أؤمن بما جَاءَ وبما ثبت لأن عقلي يسلم به، ولا أقر ولا أومن بكذا لأن عقلي يرده ولا يسلم به، فهذا قد رد النَّاس إِلَى أمر غير منضبط، فمثلاً أنا قرأت حديثاً ولا أدري هل تقبله عقول هَؤُلاءِ أو لا تقبله؟ وأيضاً قد أقرأ هذا الحديث وفيه كلام، فيأتي أحدهم ويقول: أنا عقلي يقبل ذلك، ويأتي آخر ويقول: أنا والله عقلي لا يقبل ذلك، فبأي شيء نؤمن والأمر غير منضبط.
فطريقة العقلانيين او العصرانيين في التعامل مع النصوص وخاصةً تلك التي تتحدّث عن الأمور الغيبيه للأسف الشديد طريقه إنهزاميه متأثره بشكل واضح بأفكار الغرب والمستشرقين الذين تناولوا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم , ويمكن أن نرى ذلك على سبيل المثال فيما قاله الأستاذ محمد حسنين هيكل عن حادثة الإسراء والمعراج :
إن الإسراء والمعراج، هو استجماعة نفسية وروحية، حصلت ولا تحصل إلا لمن بلغ درجة عالية من الروحانية، فكأنه استجمع في نفسه الوجود منذ أول الوجود إِلَى آخره.
وإذا جئت تنظر في معاني ألفاظ هذه الكلمات لا تجد تحتها أي معنى، ولا تجد لها أي قيمة، إلا أن المقصود هو أن يجرد الإسراء والمعراج عن كونه آية جعلها الله لهذا النبي مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد رد عليه الشيخ مُحَمَّد الغزالي ، وأنكر عليه ذلك، لكن الشيخ نفسه فيه نوع من التأثر بالمنهج العصري، فلهذا جَاءَ في كلامه أيضاً ما يلمح بأن من الممكن أن يفسر الإسراء والمعراج تفسيراً مادياً أو شبه مادي، لأنه يقول: إن كلمة البراق مشتقة من البرق.
يقول: فكأن الحديث يشير إِلَى أن سرعة البراق مشتقة من البرق؛ لأنه كما جَاءَ في الحديث -يضع حافره عند منتهى طرفه من سرعته- وكأنه يسير بسرعة الضوء وفي ذلك دليل عَلَى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتطى القوة الكهربائية في عروجه إِلَى السماء، وهذا نفس الشيء مع أنه رد عَلَى أولئك، لكنه قريب مما قالوا.
فإذا إستنكرت عقولنا وقوع الإسراء والمعراج فما الفارق بيننا وبين كفار قريش الذين سخروا وضحكوا من النبي صلى الله عليه وسلم , حتى أبو جهل إستوثق من النبي عليه الصلاة والسلام فقَالَ: أتحدث القوم بما أخبرتني به؟
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم، فلم يشأ أن ينفره حتى أخذ منه وعداً بأن يحدث القوم حتى يجمع قريشاً، فإذا حدثهم يكون التكذيب والسخرية والضحك بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جماعياً، فانطلق في قريش يقول: يا معشر قريش قد جاءكم مُحَمَّد بالداهية الدهياء، فجاءوا واجتمعوا وَقَالُوا: ماذا لديك يا محمد؟
فقَالَ: إنه قد أسري بي إِلَى بيت المقدس، وعرج بي إِلَى السماء.
فسخروا وضحكوا وأنكروا وَقَالُوا: إن الراكب منا ليضرب في الأرض مسيرة شهر ليذهب إِلَى بيت المقدس، ثُمَّ مسيرة شهر ليعود، وتزعم يا مُحَمَّد أنك تذهب إليه في ليلة.
أليست هذه نفسها هي مبررات رفض هؤلاء العقلانيين لوقوع الإسراء والمعراج كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم ..
هل يظن هؤلاء أنهم أفضل وأعقل من أبوبكر الصديق رضي الله عنه عندما ردّ على من أبلغه بالأمر "إن قال فقد صدق" او كما قال ..
ألم يكن الأولى إن كان ما يدّعون صحيحاً أن يذهب أبوبكر مثلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستوضح منه إن كان يقصد ما قال , وكذلك سائر ما حدّث به رسول الله صلى الله عليه وسلم من امور الغيبيات والتي آمن بها الصحابه رضوان الله عليهم كما هي ..
وهذا هو منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم وما ينبغي أن يكون منهجنا أيضاً فلا نخوض في هذه الأمور بمجرد الآراء، إنما يجب علينا أن نسلم ونؤمن بما جَاءَ عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ والبراق هي دابة كما جاءت صفتها في الحديث فنؤمن بها كما جاءت، وعليها ركب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صعد إِلَى السماء بكيفية لا تدركها عقولنا، وليس من شأننا أن نفكر لماذا لا تدركها عقولنا؟ أو هل تدركها أو لا؟ نَحْنُ عبيد مأمورون بأن نصدق، وأن نسلم بما جاء.
والله أعلم ..
_____________________________________________
من شرح الطحاويه للدكتور سفر الحوالي ..
Bookmarks