القرآن الكريم كتاب أدبي وعقيدي في نفس الوقت وبنفس الدرجة، وتوجد وحدة أدبية لكل سورة قرآنية، وداخل هذه الوحدة الأدبية يتوافر التجانس والربط الطبيعي بين عشرات المواضيع في السورة الواحدة، وربما مئات المواضيع في نفس السورة كما في السور الطويلة.
ووحدة السورة عبارة عن سلسلة من الحروف والصوتيات البلاغية الأدبية تُخفي داخلها مواضيع متنوعة وأفكار مختلفة تُقدم مجموعة من الحلول للمشكلتين الخالدتين ألا وهما " المعرفة " و " السلوك ".
هذه المواضيع المعروضة تمتاز بالإيجاز العجيب، والنقاء في التعبير، والتركيز الشديد في النفس، وجميع العلوم والفنون الإسلامية تستمد على الدوام من هذا المصدر قواعدها ومبادئها، وكان القرآن خلقًا للغة جديدة ولأُسلوب جديد فهو نظام أكثر تماسكًا من النثر، وأقل نظمًا من الشعر، في موسيقى خالدة تعلو المواضيع المطروحة تلو المواضيع في نفس السورة، بهيبة وجلال بلا تأرجح ولا اضطراب.

وفي وقت نزول القرآن كانت بعض المواضيع تتزايد بمعزل عن مواضيع أُخرى، وتُكوِّن تدريجيًا وحدات مُستقلة بعد أن تنضم إليها آيات أُخرى نزلت بعدها، وأن بعضها كانت تُضاف هنا، والأُخرى تتداخل مع غيرها هناك، بحسب أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يتلقاه بدوره من الروح القدس.

وعندما نُريد أن نُقدر جمال لوحة مرسومة لا ينبغي أن نحصر نظرتنا في جزء ضيق مها حيث لا نجد إلا ألوانًا متنوعة تتجاور أو تتنافر أحيانًا، بل يجب أن نرجع قليلاً إلى الوراء ليتسع مجال الرؤية وتحيط بالكل في نظرة شاملة، تستطيع وحدها أن تلاحظ التناسق بين الأجزاء والتوافق في التركيب، فبمثل هذه النظرة ينبغي دراسة كل سورة من سور القرآن الكريم لنُقدِّر أبعادها الحقيقية، فهناك تخطيط حقيقي واضح ومُحدد يتكون من ديباجة وموضوع وخاتمة، فتوضح الإفتتاحية الأولى من السورة الموضوع الذي ستعالجه في خطوطه الرئيسية ، ثم يتبع ذلك التدرج في عرض الموضوع بنظام لا يتداخل فيه جزء مع جزء آخر، وإنما يحتل كل جزء المكان المناسب له في جملة السورة، وأخيرًا تأتي الخاتمة التي تقابل الديباجة.
فإذا أخذنا في اعتبارنا التواريخ التي لا حصر لها - تواريخ نزول آيات القرآن الكريم- والتفتيت المتناهي في نزول الآيات، ولاحظنا أن هذا الوحي كان بوجهٍ عام مرتبطًا بظروف ومناسبات خاصة، فإن ذلك يدعونا إلى التساؤل عن الوقت الذي تمت فيه عملية تنظيم كل سورة على شكل وحدة مستقلة، وهذا التساؤل يضعنا أمام نقطة محيرة: فسواءًا افترضنا أن هذا الترتيب كان قبل أو بعد اكتمال نزول القرآن، فقد كان ينبغي أن يتبع إما الترتيب التاريخي للنزول، وإما الترتيب المنطقي البسيط المبني على تجانس الموضوعات، إلا أن السور القرآنية تتنوع موضوعاتها ولا تخضع لأيٍ من الفرضين أو الترتيبين السابقين، مما يدعونا إلى ترجيح وجود تصميم مُعقد يكون قد وُضع في وقت سابق لنزول القرآن على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن سرعان ما نميل إلى الإنصراف عن هذا الإفتراض بسرعة لأننا نرى مدى الجرأة والإستحالة التي ينطوي عليها وضع نظام سابق حسب ترتيب تحكمي بين فقرات حديث سوف يطلب إلقاؤه أو إظهاره على مدى عشرين عامًا، وبما يتناسب مع عديد من الملابسات والظروف التي تستدعي هذا الحديث والتي لا يمكن توقعها أو التنبؤ بها، غير أن السُنة تؤكد لنا هذا الإفتراض الغريب وتؤيده، فالواقع أنه فور نزول الوحي على الرسول-صلى الله عليه وسلم-كان كل جزء منه صغيرًا أو كبيرًا يوضع في السور التي لم تكن قد اكتملت بعد وفي مكان محدد من السورة، وفي موضع رقمي من آياتها وفي ترتيب لم يكن دائمًا هو الترتيب التاريخي.

وبمجرد وضع الآية أو الآيات في موضع ما بقيت فيه إلى الأبد، دون أن يطرأ عليها تحويل أو تصحيح، من هذا نقول أنه لابد كان هناك تصميم لكل سورة، فضلاً عن تصميم أو خطة عامة للقرآن في جملته بمقتضى كلٍ منهما، كأن كل وحي جديد يوضع في مكانه توًا بين آيات هذه السورة أو تلك من السور المفتوحة.
وكأن القرآن كان قطعًا متفرقة ومرقمة من بناء قديم، كان يُراد إعادة بناؤه في مكان آخر على نفس هيئته السابقة، وإلا فكيف يمكن تفسير هذا الترتيب الفوري والمنهجي في آنٍ واحد، فيما يتعلق بكثير من السور؟
ولكن أي ضمان تاريخي يستطيع أن يتحصل عليه الإنسان عند وضع مثل هذه الخطة إزاء الأحداث المستقبلة، ومتطلباتها التشريعية، والحلول المنشودة لها، فضلاً عن الشكل اللغوي الذي يجب أن تُقدم به هذه الحلول، وتوافقها الأُسلوبي مع هذه السورة بدلاً من تلك؟
وكيف يمكن مجرد تجميع وتقريب هذه القطع المبعثرة بعضها من بعض بدون تعديل أو لحام أو وصلات- رغم تنوعها الطبيعي وتفرقها التاريخي-أن يجعل منها وحدة عضوية متجانسة يتوافر فيها ما نرجوه من التماسك والجمال؟ ألا يصدر مثل هذا المشروع، وقد بلغ هذا المبلغ من الطموح، إلا عن حلم خيالي، أو عن قوة فوق قدرة البشر؟
ألا نستنتج ان اكتمال هذه الخطة وتحققها بالصورة المرجوة، يتطلب تدخلاً من قوة عظمى ، تتوفر فيها القدرة على إقامة هذا التنسيق المنشود؟
فإذا كانت السورة القرآنية من نتاج هذه الظروف، تكون وحدتها المنطقية الأدبية في نظرنا معجزة المعجزات، والواقع الأكثر إعجازًا أنه قد يصعب في بعض السور التمييز بين الفكرة الرئيسية والأفكار الثانوية والنواة المركزية للسورة، وقد نجهل حتى الظروف التي استدعت التجميع بين هذه المواضيع لشدة الحبكة النهائية في السورة كبناء متكامل موضوع في زمن سابق على نزول القرآن، فالأجزاء التي ستتجاور مُجهزة مقدمًا بطريقة معينة بحيث يتزاوج بعضها مع بعض، كل هذا مع تنوع الموضوعات واختلاف البعد الزماني الذي يفصل بين كل موضوع وآخر، إن هذا التطور إذن كان متفقًا مع خطة تربوية وتشريعية موضوعة في وقت سابق، في إجمالها وفي تفصيلها، بمعرفة مُنزل الوحي سبحانه وتعالى على هيئة إطارات محددة بنوازل معينة لتشكيل وحدات متكاملة من تخطيط مزدوج نهائي لا يمكن أن يصدر عن علم بشر.

المصدر: مدخل إلى القرآن الكريم، د.محمد عبد الله دراز -بتصرف-.