مركزية الفلسفة اليونانية مجرد وهم عِرقي
-هذا المقال من وحي كتاب" في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة"، د. الطيب بوعزة، مركز نماء للبحوث والدراسات.-

بعد التأسيس الحداثي للحضارة الغربية منذ قرابة القرنين من الزمان وفي لحظة النهوض بدأ الوعي الأوربي يبحث عن قراءة أورو- مركزية للتاريخ والفكر والحضارة، لتمديد سيادته على التاريخ ماضيه وحاضره فاستلهم التراث الإغريقي اليوناني، وانطلقت الكتابة التاريخية على أساس وصل النهضة الأوربية بالتراث الإغريقي، وأصبح الحديث حول المركزية الأوربية للفكر والثقافة والفلسفة قديمًا وحديثًا هو مقصد المثقفين الغربيين، ولم تعد لبقية الأعراق قيمة أو إنتاج أو ابتكار وإنما تقليد أوربا، فبدا الغرب وحده في الساحة سامقًا بارزًا مُهيمنًا.
وكان هاجس كل مفكري النهضة هو المحافظة على المركزية الأوربية، وتقطيع أوصال الثقافات الأخرى حتى تبدو بالنسبة للإغريق كشظايا بلا قيمة، وكأنه لم تولد بقية حضارات العالم إلا من رحم الثقافة الإغريقية القديمة.
وكأن التاريخ الأوربي تاريخ نقي من الأخلاط والمؤثرات الخارجية.
وفي تلك الأثناء – أوائل القرن التاسع عشر- بدت حاجة المشروع الإستعماري الأوربي إلى نظرية تبرره، فزادت الحاجة إلى هذه الرؤية المركزية، وهنا انتشرت فكرة سمو العرق الآري، التي ستبررها لاحقًا بيولوجية داروين والقول بالبقاء للأصلح والصراع من أجل البقاء وتباين الأعراق البشرية، واستحقاق الرجل الأبيض الأوربي قيادة العالم وتحضيره، وظهرت مصطلحات عبء الرجل الأبيض، والعبء الحضاري.
وظهر هيجل الذي قال بصراحة" ما هو شرقي يجب استبعاده من تاريخ الفلسفة."
المصدر: هيجل؛ محاضرات في تاريخ الفلسفة، ترجمة د. خليل أحمد، ص199
فقد كان هيجل مسكونًا بعقيدة المركزية الأوربية واستعلاء الأنا الغربي.
ومع الوقت أصبحت قضية التفاضل العرقي والمركزية الأوربية هي خطاب النخبة طوال عصر النهضة.

وظل الحال على ذلك عقودًا طويلة ولم تنكسر هذه النظرة الاستعلائية إلا بتدمير ثلث أوربا وإعادتها عقود إلى الوراء في حربين عالميتين كان مبررهما الوحيد هو النزاع العرقي وسيادة الأصلح .
وبعد الحربين العالميتين عاد فيلسوف الإلحاد برتراند راسل يُغذي العقل الأوربي بما يبرر استعلائه، فكتب الجزء الأول من كتابه "تاريخ الفلسفة" مُخصصًا لتمجيد الغرب وأسماه حكمة الغرب، فجعل كل فكر وفلسفة إغريقية من أصل إغريقي وكل همجية إغريقية نابعة من تأثرهم بغيرهم.
المصدر: برتراند راسل؛ حكمة الغرب، ص25

لكن هل بالفعل الفلسفة خلق يوناني خالص؟
هل العرق الآري هو العرق الأوحد الذي يُنتج فكر وفلسفة ؟
هل عقمت بقية الأعراق عن توليد فلسفة ؟
هل العقلية التوليدية هي حصرية للعرق الآري والباقي يأخذ ويُقلد؟

في البداية؛ لابد أن نعلم أن حضارة الإغريق بدأت في القرن العاشر قبل الميلاد، في حين أن الشرق أنتج حضارة منذ أربعين قرن قبل الميلاد.
والذي لا جدال فيه أن بلاد الإغريق وعرة التضاريس مما عكس جغرافية بحرية تتلاقح مع غيرها من الحضارات المحيطة، فهذا السياق الجغرافي كان يفرض عليها الإنخراط في هجرات واحتكاكات وصدامات وحروب فضلاً عن علاقات تجارية متبادلة، الأمر الذي يستلزم تجاوز القراءة الأورو- مركزية للتاريخ.

بل إن ديوجين اللايرسي صاحب أقدم متن تأريخي للفسفة يعترف قائلاً أن" الفلسفة نشأت عند البرابرة؛ هكذا كتب أرسطو في بحثه عن السحر، وسوتيون في الكتاب الثالث والعشرين من ميراث الفلسفة."
المصدر: Diogene de laerte vies et dovtrines des philosophes p.1

وأفلاطون نفسه يعترف أن مصطلح فلسفة الذي يتكون من مقطعين" فيلو-صوفيا" ليس من أصل محلي.
المصدر: المحاورة مع أقراطيلوس، تاريخ الفلسفة اليونانية ، مصطفى النشار، 1-31

وقد أجمع فلاسفة اليونان أنهم تتلمذوا على حضارات الشرق، وأيونيا مهد الفلسفة الإغريقية كان يمتزج بها عشرة أعراق على الأقل، كما يقول المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت.
المصدر: طرابيشي؛ نظرية العقل، ص88
في مقابل إسبرطة أنقى الأعراق الآرية لم تُنتج فلسفة ولا فكر ولا شيء ذو قيمة.
ولذا السؤال المطروح دومًا: لماذا لم ينبجس الفكر والفلسفة إلا في المناطق المتصلة بالشرق، والمختلطة به عرقيًا؟
ولماذا ظل العرق الآري النقي عاجزًا عن إنتاج فكر أو حضارة؟ وأثينا لم تظهر بها الفلسفة قبل القرن الرابع قبل الميلاد، أي بفارق قرنين كاملين عن مناطق الإختلاط العرقي كأيونيا.

وإذا عُدنا إلى أوائل فلاسفة اليونان ف" طاليس" أول فلاسفة اليونان لم يكن آريًا بل كان فينيقيًا.؟
طاليس بن إكسامياس، فينيقي، حسب هيرودوت. وهو أول من حمل لقب الحكيم.
وأنكسماندرس وأمكسمانس كانا من أصول فينيقية.
وعندما ذهب فيثاغورس ليتتلمذ على يد طاليس أمره طاليس أن يذهب إلى مصر وبقي فيها 22 عامًا يتعلم .
المصدر: Jean Philippe Omotunde, L`origine negro-africaine du savoir p.51

ولذا يقول إيزوقراط أن " فيثاغورس تتلمذ على يد المصريين، فكان أول من أدخل الفلسفة إلى اليونان."
المصدر: Ibid, p.56
وطاليس لم يتعلم إلا في مصر
المصدر: Ibid, p.57
ويورد هيرودوت الكثير من الطقوس التي كان يخضع لها فيثاغور لكي يستحق الإنتماء للمدرسة المصرية.

بل إن معبد دلفي الإغريقي الذي يقوم بتدريس الفلسفة السقراطية قام الغوغاء الإغريق بإحراقه، وتبرع أحمس ملك مصر بإعادة بناؤه.

ويمكننا أن نستخلص مما سبق ما استخلصه مفكر فلسفي كبير مثل جورج. جي. إم. جيمس حين قال أن" الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة."
المصدر: جورج. جي. إم. جيمس" التراث المسروق"، ترجمة: شوقي خليل، ص25
وأن لغة اليونان هي لغة الفينيقيين، حيث استعاروا حروفهم، وأطلقوا عليها حروف الفونيقيا phoinikeia
المصدر: هيرودوت، التواريخ، ص77

لكن الواقع أنه لا توجد ثقافة حصرية بأُمة من الأُمم، ولا فكر خالص لعرق من الأعراق، لكن الذي يجتهد ويُبدع يُمكن أن يُنتج والذي يستفيد ويتحصل على العلوم من غيره يختصر الكثير من الجهد والوقت لبناء معرفته الذاتية المستقلة، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها.