تمجيد الملحد للفلسفة والفلاسفة شيء مثير للشفقة

دائمًا ما ينتابني شعور بالغثيان كلما رأيت منشورًا لملحد يضع بجانبه تمثال المفكر Le Penseur - تلك المنحوتة الموجودة في باريس والتي تشير إلى رجل يتأمل بعمق-، أو يضع صورة لأحد الفلاسفة القدامى مكان صورته، ويجهل المسكين أنه يُمجد مَن دمروا فلسفته الإلحادية عبر العصور، فعندما يتحدث الملحد عن الفلاسفة أو يفخر بجهودهم، فهو يُشبه اليهودي الذي يفخر بجهود هتلر وجوبلز.

يا نيافات الملحدين ويا حضرات الشمامسة الصغار، ويا كهنة الإلحاد! إن أصل الفلسفة وقوامها وغايتها هو التأسيس للدين ومحاربة الوثنية في كل مكان، وقد كان فلاسفة هليوبوليس وفلاسفة منف Menphis وفلاسفة الأشمونين يعيشون لقضية الكبرى وهي: محاربة كهنة الوثنية في معابد مصر، وكانت جهود طلاب الفلسفة في تلك الحقبة تدور حول رد الآلهة جميعًا إلى الله الواحد الأحد، وكانت هذه الجهود قبل ظهور أخناتون بحقب طويلة، وقد انتصرت جهود هؤلاء في كثير من الأوقات وتمّ الإعتراف رسميًا بوحدة الإله الخالق في مذهبي عين شمس ومنف قبل إخناتون بكثير على يد فلاسفة منف وهليوبوليس.
المصدر : Wilson-the culture of ancient Egypt p.228 ، ترجمة دكتور عبد العزيز صالح .
وأصبح للتوحيد السيادة الكلية في مصر وصار عقيدة الجميع في الفترة من 1575ق.م. إلى1087 ق.م.

ولا نستبعد بل ونُرجح بشدة أن يكون طلاب الفلسفة هؤلاء هم تلاميذ الأنبياء وأتباعهم، فمن الصعب بمكان تخيل استقلال العقل بفكرة التوحيد - توحيد الله -، بل والدعوة إليها ووجود صدى لها عند جموع الشباب والمثقفين وقيام الثورات من أجل تحقيق ذلك المطلب الأسمى؛ نقول لم يكن ليتحقق كل ذلك دون قبس إلهي ونقولات النبوات وعقيدة مترسخة في العقل القديم تقول بالتوحيد وأنه الأصل، وأن كهنة المعابد خانوا الأمانة فوجبت الثورات المتتالية عليهم والتي لم تتوقف يومًا حتى في عصور الإستعمار الطويلة.

وإذا تركنا مصر واتجهنا شمالًا حيث ياقوتة الفلسفة في كل العصور ودرة الفلاسفة دولة اليونان القديمة، فإن أصل وقوام الفلسفة اليونانية هو تحرير العقل من أسر الوثنية والدعوة للإيمان بالخالق الواحد، وكان هذا هو السبب في الحكم بالإعدام على الفيلسوف أناكساغوراس، واضطراره إلى الرحيل عن أثينا- حتى لا يُنفذ فيه الحكم-، فقد كانت تهمته المباشرة هي الدعوة للتوحيد ونبذ الوثنية.

بل إن الذي لا خلاف عليه بين المؤرخين هو أن غاية كل فلاسفة اليونان هو تصحيح الوثنية الإغريقية وإعادة ضبطها على النمط التوحيدي، وقد تكفل ذلك إصدار أحكام بالإعدام على كثيرين من هؤلاء الفلاسفة بعد نقدهم لوثنية أشعار هوميروس وهيزيود.
المصدر: في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة، د. الطيب بوعزة، ص232

وقد انتقد كزيونفان بشدة وكذلك أفلاطون ومن قبلهما فيثاغورس و....، الصورة الوثنية لآلهة اليونان، وقد كان أفلاطون ينصح بعدم تدريس أشعار هوميروس للأطفال، لما فيها من إخلال بسمو الإلوهية، ولم يعترف أناكساغور وسقراط وأنتيستين وأفلاطون و... إلا بإله واحد رافضين التعدد الوثني.
المصدر: م س نفس الصفحة .

فتنزيه الألوهية وتوحيدها كان المطلب الأسمى لفلاسفة اليونان، فقد كانت الفلسفة رؤية مشغولة بهاجس الوثنية ومحاولة تنقيتها وإعادتها إلى التوحيد الصحيح، وهذا ما ظهر مع نشأة الفلسفة على يد طاليس وأنكسيمندر وأمباذوقليس، فلم تكن الفلسفة لتظهر على يد هؤلاء باصطلاحها المعروف اليوم إلا من أجل نفي الوثنية والدعوة للتوحيد وتنزيه الخالق.

وكانت المدرسة الإيلية التي أسسها الفيلسوف كزينوفان مدرسة توحيدية لتعليم الناس التوحيد الخالص ومحاربة الوثنية بكل صورها، وكان مستند محاكمة وإعدام سقراط هو ما جاء في صك الإتهام أنه " لم يكن يؤمن بالمعتقد الديني للمدينة" فقد كان سقراط داعية التوحيد وتنزيه الله، ولم يخرج أرسطو من أثينا هاربًا إلا للفرار بالعقيدة التوحيدية حين قال كلمته الشهيرة" لا أُريد لأثينا أن ترتكب في حق الفلسفة حماقة أُخرى مثلما ارتكبتها عندما أعدمت سقراط."

إننا هنا لسنا بصدد الدفاع عن الفلسفة أو تبرير وجودها في وجود النص الديني الأنقى والأسلم والأقرب والأحكم والأعلم، لكن أن يتجرد قمص ملحد لتمجيد الفلسفة فهذا يعني غياب العقلاء عن الساحة وانفراد المجاذيب والمساطيل والمخابيل بالحضور.