خرافة الهيومانية بديلاً عن الدين
نسف أُسطورة الإنسانية اللادينية !


هل يمكن أن تحل الهيومانية Humanism – الإنسانية – بديلاً عن الدين ؟
هل يمكن أن يحيا الجنس البشري بلا دين ؟
هل يمكن التأسيس للقيمة والمعرفة والغاية والأخلاق في غياب الإله ؟
لقد عاش الجنس البشري آلاف السنين تحت تأثير الدين، واستطاع الدين أن يوفر جميع أوجه الحياة الأخلاقية والقانونية والعقائدية وحتى اللغة، ومن ثَم فمن حقنا أن نتساءل عما إذا كان من الممكن إنتاج جيل ملحد إلحادًا كاملاً ؟ لكي تنجح هذه المحاولة لابد من التنشئة في عزلة تامة عن كل دين وعن كل فن وعن كل دراما للوجود الإنساني، وإلغاء كل ما يمكن أن يَستحضر النشء أمامه من رؤيا لعالم آخر، وبالتالي إلغاء جميع الأعمال الفنية التي تُصور صراع الإنسان في العالم وتطلعه لعالم أفضل، لأن كل هذه الأمور ستؤدي إلى شعور الإنسان بالإغتراب في هذا العالم، وهو شعور ميتافيزيقي روحاني بحت .
في الواقع هذا أمر صعب في الوقت الراهن لأن الملحدين يعيشون في ظلال الدين، ويمكننا أن نزعم أن كل أخلاق الملحد هي مجرد تأثر بالدين ومبادئه الأخلاقية الأساسية، بطريقة صامتة غير محسوسة ولكنها ثابتة، فقد تربى الملحد في ظلال الدين عشرات السنين وهو في نقده للدين يتأثر بأخلاق من ينتقدهم، - إن جوهر الإنسان في أخلاقياته وليس في طبيعته المادية هذه حقيقة ثابتة-.
إن أخلاق الملحد هي عطية الدين هكذا علينا أن نزعم إلى أن ينشأ مجتمع إلحادي كامل.

لكن بعيدًا عن زعمنا، سنحاول أن نتصور تصورًا إبستمولوجيًا – معرفيًا- مجرد صورة مبسطة للقيمة والأخلاق من منظور مادي إلحادي مُجرد بناءًا على رؤية الملحدين أنفسهم .
أثبت فلاديميير لينين – مؤسس الدولة البلشفية الملحدة- أن الأخلاق خدعة ميتافيزيقية، وقرَّر فريدريك إنجلز– أبو النظرية الماركسية – في كتابه "أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة"؛ أن النظام الأُسري نظام برجوازي، وأن شيوع النساء وإلغاء منظومة الزواج هو الحل الأقرب لروح الإلحاد المادي.

لكن لماذا لا نكون أكثر تفاؤلاً وأكثر تنزلاً، ونفترض أنه تم التأسيس للمجتمع الإلحادي الكامل بناءًا على أخلاق مثالية!، أخلاق كاملة كالتي نادى بها الدين، أخلاق أصلية واضحة وراسخة في الذهن البشري!
لكن في هذه اللحظة على دعاة الإلحاد أن يطلبوا من الناس مزيدًا من المثالية والتضحية، ربما أكثر مما طلب أي نبي من قومه بإسم الدين، فليس ثَمة إغراءات ماورائية، وليس ثمة تطلع أُخروي يبرر التضحية والإلتزام بالمُثُل العليا التي هي جوهر القضية الأخلاقية! وكما يقول المفكر الإنجليزي جون لوك " إذا كان كُل أمل الإنسان قاصرًا على هذا العالم، وإذا كنا نستمتع بالحيـاة هنا في هذه الدنيـا فحسب، فليس غريبًا ولا مجافيًا للمنطق أن نبحث عن السعادة ولو على حساب الآباء والأبنـاء."
إنها معضلة وأي معضلة؛
لكن سنتنزل مرةً أُخرى ونتصور أنه تم التاسيس للمجتمع الإلحادي الكامل، ونتصور أن هؤلاء الملحدين قرروا التضحية وتبني نموذج أخلاقي، إمعانًا في تحدي مجتمع المؤمنين، وقرروا أن يتركوا الشر والظلم، وقرروا أن يلتزموا بالأخلاق المثالية، هنا ستظهر المعضلة التي بلا حل، فداخل العالم الإلحادي لا يوجد معنى مادي للشر أو الظلم، فالشر أو الظلم هو وضع الشيء في غير محله، ومحل الأحداث في عالم الإلحاد المادي، هو نفس المحل الذي تحدده القوانين الفيزيائية، و بما أنه لا توجد ذرة تخالف تلك القوانين، إذن كل حدث في الكون المادي قد وُضع في محله المادي، ولذلك المفترض ألا يوجد في المجتمع الإلحادي ولا في الكون المادي ظلم أو شر.

فالإنسان مُستَوعب تماما في الطبيعة، قوانين الطبيعة هي قوانينه، تسري عليه الحتمية المادية الفيزيائية بمنتهى الأداتية المعرفية، فلا يمكن الاستقلال برؤية متجاوزة أو مغايرة لما تفرضه المادة، وإلا لاعتبرنا أن للإنسان أصل آخر ومقدمة أُخرى وانهار الإلحاد.

أيضًا العقل مادة مُتلقية طبيعية لا تتجاوز هذا الإطار، والحالة النفسية الحاكمة في النموذج الإلحادي هي حالةً نفسيةً للمادة وليس للروح، وبالتالي لا يمكنُها أن تُخَطِّئ حالةً ماديةً أخرى,فحتى تناطحُ الذراتِ هو تصرفٌ لا خطأ فيه ما دام موافقًا للقوانين الفيزيائيةِ الصحيحة.

وطبقًا لهذه الرؤية الإلحادية المادية الحتمية فإنه في المرحلة التالية سيتنازل الإنسان عن مركزيته، فالإنسان من منظور مادي إلحادي ليس هو المركز بل المركز هو الطبيعة المادية وقوانينها وحتمياتها، وبالتالي سيحل محل مركزية الإنسان مركزية الطبيعة باعتبارها المُطلق الأول، وهذا يعني انهيار المشروع الهيوماني ( مشروع الإيمان بالإنسان ) وبذا يُصفَّى الإنسان على حد تعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري لحساب الطبيعة، وسيتم استيعابه تمامًا ويسقط في هيمنة المادية الحتمية، ويصبح أي حديث عن الإنسان أو قيمه أو مركزيته هو حديث ملوث ميتافيزيقيًا، ويتحول الإنسان إلى حيوان مادي مجرد ويعود للصراع الدارويني الذي دخل به التاريخ

وفي هذا الإطار المادي التجريدي يصبح الحديث عن الهيومانية لغو فارغ، وتتحول الشعارات إلى سخافة لا معنى لها، فما معنى حماية المعاقين أو المرضى الوراثيين أو تقديم يد العون لهم ؟
إن محاولة من هذا القبيل تأتي ضد الإنتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح، وإذا كانت الرؤية الداروينية هي الرؤية الصحيحة وكانت حتمياتها هي الأصل الثابت فلن يستوعب الإنسان أصلاً فكرة حماية المعاق أو تقديم يد العون للضعفاء، بل إن تعقيم المعاقين – منعهم من الإنجاب- هو الحل الدارويني الأمثل والأوحد.

أيضًا في الإطار المادي الحتمي الإلحادي كيف تتم المناداة بمفهوم الإنسانية الهيومانية، في عالم يحكمه البقاء للأصلح؟ بل إن أية محاولة لمعاندة هذا الإطار المادي هي محاولة فاشلة؛ لأنها تأتي ضد التطور وضد قوانين الحتمية المادية التي تسري على الوجود.

يقول الدارويني جيمس هِلْ James J. Hill " إن الثروات تُحدَد تبعاً لقانون البقاء للأقوى ." -1-

ويقول تايل Tille " من الخطأ الشديد مجرد محاولة منع الفقر أو الإفلاس أو مساعدة الضعفاء أو محدودي الإنتاج .. مجرد مساعدة هؤلاء خطأ جوهري في النظرية الدروينية، لأنه يتعارض أساساً مع الإنتخاب الطبيعي natural selection وهو جوهر الداروينية ." -2-

وطبقا لهربرت سبنسر Herbert Spencer فإن " فكرة وسائل الوقاية الصحية وتدخل الدولة في الحماية الصحية لمواطنيها وتلقيحهم تعارض أبسط بديهيات الإنتخاب الطبيعي، وكذلك مساندة الضعفاء أو محاولة حماية المرضى والحرص على بقائهم."!!-3-

هذه هي الصورة التي يتيحها الإلحاد المادي، إنها المعادلة المستحيلة .. يستحيل أن يتم التأسيس للأخلاق داخل المنظومة المادية، لا يوجد داخل العالم المادي الهيوماني ما يُفرح الإنسان أو يسليه، أو يؤسس لقيَّمه أو يؤسس لمبادئه أو يؤسس لأخلاقياته، يستحيل أن يوجد داخل المنظومة المادية ما يجعل الإنسان إنسانًا .

فالأخلاق والقيمة تمثلان ثغرة في النظام الطبيعي، فالأخلاق ثغرة معرفية كبرى في النسق الكوني، ولذا لا يمكن إخضاعها لقوانين الطبيعة وحتميات ماركس التاريخية، أو حتميات داروين العضوية أو حتميات دوركايم الإجتماعية، هذا الاختلاف بين الأخلاق والطبيعة يُعبِّر عن نفسه في الاختلاف بين المؤشِّر في العلوم الطبيعية والمؤشِّر في العلوم الإنسانية.
فالأخلاق تسير عكس الطبيعة أو بمعنى أدق لا علاقة لها بالطبيعة، فالأخلاق ثغرة في الزمان فهي نتاج خلق والله خلقها كاملة لأن الله لا ينتج ولا يشيد وإنما يخلق، وهذا يؤكد أصالة ظهور الإنسان .
فالأخلاق عقليا غير مربحة بل ضارة بل هي أكبر عبء على صاحبها وقد تساءل ماندفيل Bernard mandeville أستاذ علم الأخلاق الإنجليزي ما أهمية الأخلاق لتقدم المجتمع والتطور الحضاري ؟ وأجاب ببساطة : لا شيء بل لعلها تكون ضارة .

ولذا فالأخلاق لم تتم البرهنة عليها عقليًا إلى الآن، والأخلاق والدين هما أقدم الأفكار الإنسانية تُرًا وقد ظهرا سويًا مع الإنسان كل هذا يؤكد أصالة الظهور الإنساني وغائية الأخلاق التي يحملها، إنها اللحظة التي صنعت عصرًا جديدًا.

إن الإنسان يتحرك في الحياة وهو يعلم يقينًا أنه ليس مُفصل على طراز داروين، ولذا يرفض باستمرار إلحاح العلم المتزايد على أن الجنس الأبيض أفضل من الأسود، أو أن إبادة المعاقين والضعفاء خيرٌ للجنس البشري، أو أن الإنسان حيوان مادي، وهذا يؤكد أن الإنسان لا يستطيع أن يرفض التكليف الإلهي بداخله، وأن الإلحاد لا يصلح لتحليل ظاهرة الوجود الإنساني!

وتأتي النزعة الهيومانية الإنسانية الجديدة كتوكيد عجيب على هذا الأمر، فهي تستقي مباديء غير مادية وغير علمية، تؤسس بها لمفاهيم مستقلة عن الوجود المادي، وتؤكد بها أن الإلحاد يرفض أن يكون إلحادًا، وأن الملحد في قمة إلحاده يترفع عن المادية الحتمية، ولذا لنا أن نتساءل: إذا كان الله غير موجود كما تزعمون، فلماذا التمحك في ظلاله؟
لماذا محاولة التأسيس لفلسفة هيومانية ملوثة ميتافيزيقيًا؟
إذا كان الإنسان ابن المادة ومن المادة وإلى المادة، فلماذا الحديث عن سموه أو قيمته أو مركزيته ؟
إن الهيومانية هي توكيد متزايد على أن الإلحاد لا يصلح لتحليل ظاهرة الوجود الإنساني، وأن الإلحاد شيء والإنسان الروح والجسد شيء آخر تمامًا.

لقد حاول كهنة المادية الإلحادية الغربية بعيدًا عن هذه الرؤى الميتافيزيقية، تحليل ظاهرة الوجود الإنساني، فوجدوا أن الإنسان لا يعدوا كائن طفيلي لا يوجد ما يُميزه، ولذا فقد ظهرت دعوات تعميمية تُنادي بإلغاء التفرقة بين البشر والحيوانات والحشرات، بل والنبات، ومحاكمة كل من يتعرض للفيروسات أو دودة الأرض، لأنه بيولوجيًا لا فرق بين الإنسان ودودة الأرض فكلاهما على نفس الدرجة من التطور النوعي.

يقول كريستوفر مانيز christopher manes " لا يوجد مستند لرؤية البشر ككائن أرقي من غيره." -4-
وفي سويسرا ظهرت قوانين عدم إذلال النباتات. -5-
ويقول بيتر سنجر الأُستاذ بجامعة برينستون princeton university " حياة رضيع ليست أغلى داروينيًا من حياة شبمانزي أو خنزير." -6-
و يقول الدارويني الأمريكي james lee " يجب تقليل عدد البشر قدر الإمكان، يجب إيقاف الزواج وقتل الرُضع" وقد اتخذ هذا الدارويني وسائل حقيقية لقتل البشر باعتبارهم طاعون، وحيوان طفيلي فاسد، وفي سبتمبر 2010قُتل جيمس لي حين اتجه إلى موقع قناة ديسكفوري وأخذ ثلاث رهائن وكان معه بعض القنابل، إلا أن الشرطة لم تمهله وأردته قتيلاً، قبل أن يُنفذ مخططه الدارويني.-7-

يقول فرانسيس فوكوياما في كتابه الأشهر نهـاية التاريخ: "حقوق الانسان لها مشكلة فلسفية عميقة إذ لابد أولاً أن نفهم الإنسان قبل أن نبحث في حقوقه، نفهم طبيعة الإنسان، فالعلوم الطبيعية الحديثة تشير إلى أنه ليس ثمة فارق بين الانسان والطبيعة، وعندما نوسع في المساواة التي تنكر وجود أي اختلافات بين البشر فيمكن أن يشمل ذلك إنكار وجود اختلافات هامة بين الانسان والقردة العليا، وتنشأ عن ذلك أسئلة لا حصر لها، إذ كيف يكون قتل البشر غير مشروع، في حين قتل هذه الحيوانات ليس كذلك، وسنصل حتمًا في مرحلة ما إلى السؤال التالي: ولماذا لا تتمتع الطفيليات المعوية والفيروسات بحقوق مساوية لحقوق الإنسان ؟
إن عدم اهتمام الناس بهذه المساواة يوضح أنهم لا يزالون يؤمنون بمفهوم ما عن تفوق قدر الانسان، وحتى حماة الطبيعة وحماة الحيوانات، هم فقط يدافعون عن الحيوانات لأنهم يحبون بقائها معنا، ومجرد إفنائها لا سبيل لتعويضه مع ضياع فوائد ربما تُكتشف منها مستقبلاً، فحتى حماة الحيوانات هم للإفادة منها وليس من أجلها وهذا عكس حقوق الحيوان، إن مفهوم التوسع في المساواة أدى إلى حيرتنا الراهنة، إننا لو كنا نؤمن حقًا أن الانسان مجرد كائن في سلسلة حيوانية يخضع لقوانين الطبيعة ليست له قيم متجاوزة، هنا كان لابد أن تتساوى الكائنات جميعًا في الحقوق، وسيتعرض ساعتها المفهوم المساواتي للبشر للهجوم من أعلى ومن أسفل، ولا يسمح لنا هذا المأزق الفكري الذي أوقعتنا فيه النسبية الحديثة بأن نرد على هذا الهجوم أو ذاك، وبالتالي لا يسمح لنا بالدفاع عن الحقوق المساواتية – فإما طبقية متفحشة أو مساواتية مستحيلة -." -8-

إنه تحليل مدهش وحقيقي للمأزق الهيوماني، فإن فرانسيس فوكوياما يرى أن المساواة مستحيلة داخل المجتمع المادي، حيث يتحول الإنسان داخل هذا النموذج إلى كائن قانع بسعادته غير قادر على الإحساس بالخجل عاجز عن الإرتقاء فوق مستوى احتياجاته وبالتالي فإن الإنسان لم يعد إنسانًا. -9-
أليس الإنسان الكامل في هذه الصيغة هو كائن فج جدير بالإحتقار- والكلام لفرانسيس فوكوياما-، كائن عاطل عن الإجتهاد والطموح - وهنا تضيع ملحمة الوجود الانساني و دراما الحياة الانسانية .. لقد مات الانسان في النموذج المادي. -10-
بل إن فرانسيس فوكوياما يصف الملحد في هذه المرحلة بالكلب، يقول فوكوياما أنه : داخل ذلك العالم سيصبح الناس حيوانات من جديد كما كانوا قبل المعركة الدامية التي بدأ بها التاريخ، إن الكلب يقنع بالنوم في ضوء الشمس طوال اليوم شرط أن يُطعموه وذلك لأنه راضٍ بما هو عليه ولن يقلقه أن غيره من الكلاب حالها أفضل من حاله، أو أن مستقبله ككلب قد جُمد أو أن كلابًا في بقعة نائية من العالم تصادف المذلة والهوان .-11-

و يتنبأ فوكوياما في صفحة 274 من كتابه أن حياة مجتمع مادي إلحادي هيوماني كامل هي حياة بلا فنون ولا أدب ولا دراما ولا كفاءة، وقليلون سيتصدرون للخدمة العامة وستكون الحِرف مبتذلة وغير متطورة، وفي مرحلة ما سيكون هذا المجتمع عاجزًا عن الدفاع عن نفسه في وجه الحضارات الأُخرى حيث الحضارات الأخرى أصحابها على استعداد لهجر الراحة والأمن ويخاطرون بحياتهم من أجل القيمة .

وإذا كانت الهيومانية تسعى للتأسيس لفلسفتها في إطار العلم بعيدًا عن الدين، فماذا لو أثبت العلم أن العِرق الأبيض أفضل بيولوجيًا من الأسود؟ وأنهم في مرتبة أعلى في سلم التطور، هل سيتم الفصل العنصري بين البيض والسود داخل المجتمع الإلحادي الهيوماني؟ أم ستتم معاندة العلم والبيولوجيا ومعاندة الإنتخاب الطبيعي وإقرار المساواة بين البيض والسود، وساعتها ستكون أكبر خيانة للتطور وأكبر ضربة للماديين؟
بالمناسبة : هناك آلاف الأبحاث التي أثبتت تفوق الجنس الأبيض على الجنس الأسود ماديًا وبيولوجيًا، منها قديمًا أبحاث عالِم الإنسـانيـات الشهير صموئيل مورتن Samuel Morton وأبحاث لويس أجاسي louis agassiz الذي كان يقول بأن البيض ليسوا سفاحين حين أبادوا الهنود الحمر، ولكنهم يتبعون قضية حتمية في تشكل الأعراق، فهذه هي حتمية العلم، وحديثا ظهر كتاب قوس الجرس bell curve أكثر الكتب مبيعًا في السبعينـات، وهو الكتاب الذي يتحدث عن أنه لا فائدة من تعليم السود أو تحصينهم من الأمراض، لأنهم أضعف عقلاً وأفقر ذهنـًا من البيض ولابد من إنفاق المـال في أُمـور أكثر فائدة .

ماذا لو أثبت العلم تفوق الرجل على المرأة ماديًا؟ وأن الرجل في مرتبة أعلى بيولوجيًا من المرأة، هل ستتم المساواة بين الجنسين داخل المجتمع الإلحادي، أم سيكون هذا مطلب غير علمي غير عقلاني عبثي ميتافيزيقي يقف في وجه التطور وحتميات الطبيعة ؟
بالمناسبة: المرأة طبقًا لأدبيات التطور لها تصنيف في السلسلة الحيوانية مستقل تمامًا عن تصنيف الرجل، فالمرأة تندرج تحت تصنيف Homo parietalis بينما الرجل تحت تصنيف Homo frontalis فدراسة حجم الجمجمة في القرن التاسع عشر أثبتت وجود فرق جوهري في حجم المخ لصالح الرجل بمقدار 12- 19 % وكتب كارل بروكا brucca يقول أن مخ المرأة أضعف بكثير من مخ الرجل.
فحجم المخ الخاص بالمرأة يكاد يطابق ذلك الخاص بالغوريلا، والمرأة تأتي في المرحلة السفلى من مراحل تطور الإنسان .-12-
ويرى داروين أن المرأة لا تصلح إلا لمهام المنزل، وإضفاء البهجة على البيت،- فالمرأة في البيت أفضل من الكلب- .-13-

هذه هي الرؤية الإلحادية الهيومانية للإنسان بصورتها الحقيقية، فالإلحاد حرَّر أتباعه من أية أعباء أخلاقية، وإذا لم يتم تبني هذه الرؤية في المنظومة الهيومانية فهذا يعني انهيار الأساس الذي بُنيت عليه الهيومانية، وبالتالي استقاء عناصر غير مادية من خارج المنظومة الهيومانية، سيكون اعترافًا بعدم صلاحيتها كمنظومة فكرية مستقلة لتفسير المغزى الوجودي !

إن الأمر الذي لا يجب أن نغفله هنا؛ هو أن الحروب العالمية كانت دائماً نتاج المجتمعات الأرستوقراطية الملحدة، والإلحاد هو الذي زوّد الإمبريالية الغربية بإطار نظري لإبادة الملايين بإسم العرقية المادية، والبيولوجية الداروينية، ولن تتجاوز الهيومانية هذه الرؤية مهما تظاهرت بخلاف ذلك، وعلى الهيومانية أن تتبنى بمنتهى الهدوء اليد الخفية عن آدم سميث، والمنفعة عن بنتام، ووسائل الإنتاج عند ماركس، والجنس عند فرويد، وإرادة القوة عند نيتشه، وقانون البقاء عند داروين، والطفرة الحيوية عند برجسون، والروح المطلقة عند هيجل، وإلا فالهيومانية ستُعتبر تمرد على المادية الحتمية. -14-

هذا هو الإلحاد الهيوماني عند التطبيق، وهذا هو أصل معركته وشعارها ودثارها، وفي هذا السبيل قامت حربان عالميتان أُبيد فيهما قرابة 120 مليون نسمة، وكانت حروب من الدموية بحيث أرجعت كلاً من المنتصر والمهزوم ثلث قرن إلى الوراء، فالحربان العالميتان اللتان أبادتا حوالي 5% من سكان العالم كانتا نزاع إلحادي- إلحادي، وقام الفلاسفة بوضع مبولة في وسط باريس بدلاً من تمثال الجندي المجهول كنايةً عن نهاية الحضارة.

وقد اعتبر الليبرالي الشهير - رئيس الولايات المتحدة السابق - جون كوينسي آدمز John Quincy Adams أن حرب البيض ضد الهنود الحمر هو قانون الطبيعة، ولهذا القانون تطبيقاته الواسعة جداً ."-15-
فاستئصال طبقة كاملة من الناس، وتفريغ قارتين كاملتين من البشر- تفريغ الأمركتين من الهنود الحمر- ما كان ليحدث لولا الرؤية المادية للوجود الإنساني، وقد اعتبر الليبراليون الأوائل أن إبادة الهنود الحمر نوع من الدفاع الشرعي، ونتيجةً لذلك: تقلّص عدد الهنود الحمر من 10 مليون الى 200 الف نسمة خلال سنوات قليلة ولذا يقول سيمون بوليفار Simón Bolívar محرر أمريكا اللاتينية: "يبدو ان الولايات المتحدة تسعى لتعذيب وتقييد القارة باسم الحرية". -16-

وليست إبادة الملايين في أرخبيل الكولاج The Gulag Archipelago على يد الملحد لينين والملحد ستالين، إلا من خلال مبرّر إلحادي شيوعي، وليست إبادة 22% من سكان كمبوديا إلا بمبرر إلحادي على يد بول بوت pol pot ، وليست إقامة الحرب العالمية الثانية كلها إلا بمبرر قومي مادي عِرقي ألماني على يد أدولف هتلر، وليست الثورة الثقافية في الصين التي راح ضحيتها 22 مليون نسمة إلا بمبرر إلحاد ماوي Mao zedong ، فالحرب في الإلحاد غاية في ذاتها، والمكاسب المادية وتفريغ القارات من البشر، وتطهير الأعراق ليست كلها إلا إفرازات داروينية مادية، ورؤى عِرقية طبيعية، وهذه الرؤى هي التصور المستقبلي للهيومانية حال التطبيق!

يقول ريتشارد فيكارت Richard Weikart " لقد نجحت الداروينية أو تأويلاتها الطبيعية، في قلب ميزان الأخلاق رأساً على عقب، ووفرت الأساس العلمي لهتلر وأتباعه، لإقناع أنفسهم ومن تعاون معهم، بأن أبشع الجرائم العالمية، كانت بالحقيقة فضيلة أخلاقية مشكورة." -17-

لكن الإنسان له روح خاصة مستقلة عن جميع المخلوقات؛ فهو ليس مُفصّلاً على طراز داروين، ولم يوجد من أجل الصراع، إنما وُجد لعبادة الله من إقامة الحق أيـا كان مَن اتبع الحق سواء كان أبيض أو أسود ، أما العقل الإلحادي المادي الهيوماني فقد قام بتفكيك البـشر بصـرامة بالغة ليس فيها موطنٌ للمشاعر الإنسانيّة، والقِيَم الروحيّة.

إن البحث عن السعادة على الأرض من منظور إلحادي هو شكل من أشكال الغرور الإنساني، وهو يعني القول بمركزية الإنسان، وأن له مكانًا خاصًا في الكون وبداهة لا يمكن القول بوجود غائية إنسانية مستقلة عن الغائية الطبيعية أو المادية .
ولا يأتي الإيمان بمركزية الإنسان وقيمته وسموه إلا بالإيمان بمُطلق أعلى يتجاوز المادة، فالمساواة بين البشر هي مسألة دينية بحتة، فإذا لم يكن الله موجودًا، فالناس بجلاء وبلا أمل غير متساوين، وتأسيسًا على الدين فقط يستطيع الضعفاء المطالبة بالمساواة.
ولذا يقول الدكتور المسيري رحمه الله أن الإله هو التركيب اللانهائي المفارق لحدود المُعطى النهائي، هو النقطة التي يتطلع إليها الانسان ويحقق التجاوز من خلالها، ومن ثًم بغيابه يتحول العالم إلى مادة طبيعية صماء، خاضعة لقوانين الحركة والصيرورة التي يمكن حصرها وإحاطتها والتحكم فيها، وينضوي الإنسان تحت نفس النمط، إذ بغياب الإله يتحول الإنسان إلى كم مادي يمكن أدلجته وقولبته في إطار مجموعة من المعادلات الرياضية الميته، وفي هذه اللحظة تموت الروح ويتبعها موت الإنسان، فالإيمـان بالإنسان وقيمته ومركزيته وسموه هو إيمـان يتجـاوز حركة المادة وديناميكيتهـا ... فعندما يُقرر الإنسان أن ينسى الإله في هذه اللحظة بالذات يكون قد نسي نفسه { نسوا الله فأنساهم أنفسهم } ﴿١٩﴾ سورة الحشر.

فالإنسان كائن أقدامه مغروسة في الوحل وعيونه شاخصة للنجوم .
كائن ميتافيزيقي يسأل أسئلة نهائية عن معنى الكون .
أقصى مُتعة لا تكفي إنسان يعلم أن وُلد ليموت .
بدون وجود إله تفقد كل الكائنات حدودها وحيزها وتنشأ إشكاليات في النظام المعرفي والأخلاقي، وتفقد الأشياء حدودها وهويتها ويَصعُب التمييز بينهما، كما تَختفي التفرقة بين الخير والشر، وتختفي الإرادة والمقدرة على التجاوز وتسود الواحدية والحتمية، وقد اختصر رئيس التشيك فاكيلاف هافل هذه الإشكالية الكبرى فقال عبارته الرائعة " حينما أعلنت الإنسانية أنها حاكم العالم الأعلى، في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بُعده الإنساني " فالفلسفة الهيومانية ضحت أول ما ضحت بالإنسان.
ومنذ اللحظة التي هبط فيها الإنسان من السماء منذ المقدمة السماوية لا يستطيع الإنسان أن يختار أن يكون حيوان بريء أو يكون إنسان مُخير، لم يكن بإمكانه أن يختار بين أن يكون حيوان أو إنسان إنما اختياره الوحيد أن يكون إنسان أو لا إنسان {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} ﴿٧٢﴾ سورة الأحزاب
فالإنسان هو المركز والطبيعة هي الهامش .
هذا هو الإنسان وهذه هي طبيعته الحقيقية، وعلى الهيومانية أن تتقبله في هذا الإطار، وأن تستمد قيم معرفية متجاوزة، وأن تتجاهل الرؤية المادية الإلحادية الداروينية كتحليل لظاهرة وجوده، وهذا يعني أنها لن تصبح هيومانية وإنما دينًا جديدًا وفي هذه اللحظة تفقد أهم سماتها وخصائصها، وينهار المشروع الهيوماني ككل .



----------------------------
1- Martin, James J. Hill pp 414-15
2- Williams, Raymond. 2000. Social Darwinism. In Herbert Spencer's Critical Assessment. John Offer.
3- Social Status, p.414-415
4- christopher manes , the green rage
There is no basis for seeing humans as more advanced or developed than any other species
5- http://planetsave.com/2008/10/18/swi...ion-of-plants/
6- http://www.lifesitenews.com/news/pri...sabled-infants
7- http://abcnews.go.com/US/gunman-ente...ry?id=11535128
8- المصدر : فرانسيس فوكوياما .. نهـاية التاريخ وخاتم البشر ..ترجمة : حسين أحمد أمين .. الطبعة الأولى 1993 مركز الأهرام للترجمة والنشرص 259 والكلام له بالحرف إلا ما بين - - .
9- المصدر السابق ص 17
10- المصدر السابق ص18 إلا ما بين - -.
11- المصدر السابق ص271
12- Gould, The Mismeasure of Man, p.105
13- Charles Darwin, The Autobiography of Charles Darwin 1809-1882, New York pp. 232-233
14- العلمانية الجزئية العلمانية الشاملة د. عبد الوهاب المسيري دار الشروق طبعة 2002 المجلد الأول ص240
15- Robert Remini, John Quincy Adams (2002)
16- ناعوم تشومسكي الايديولوجية والاقتصاد ص6
17- Richard Weikart .. from Darwin to Hitler.. p.215
* مقالي بمجلة براهين العدد الثاني