إنه ذات الإيقاع... ذاته دون أدنى تغير... معزوفة عذبة لمن عنده أذن موسيقية.. ولكنك تأسف أنه كان في هذه المناسبة... تسمع فناجين القهوة تقبل صحونها بشكل شبه متناسق لكأن الحاضرين يقدمون عرضا عسكريا... هذه أول فرقة من الأوركسترا... تتقاسم الدور مع صوت الكعوب العالية التي تطرق الأرض حتى تكاد تسمع صراخها... ثم يعلو الإيقاع بين حين وآخر عندما يقوم أحد الحاضرين فيقول " البقية بحياتك" وينصرف... لا أدري ماذا يعني بكلامه... أصلا هو لا يدري ذلك... أفيريد الخلود؟... دعك من هذا عزيزي القارئ...وهمسات سرية هنا وهناك قد تنزلق على اثرها ضحكة من أحد الحاضرين يحاول كبتها لا لأنه يخشى تعكير صفو الموسيقى ولكن لأنها شاذة في هذا الجو الأسود...

نعم... جو أسود... تشارك في سواده عوامل عديدة... لا أريد أن أخبرك عن الثياب فأنت تعلم ذلك... ولكن هناك الغيوم التي تتبخر من صفحة السجائر... حتى الشمس في سن يأسها... لكأنها تحيض حيضتها الأخيرة عند إحمرار الغروب... أما الجدران... فهي سوداء... مع أن الوالدة المفجوعة كانت تحرص ليل نهار على تنظيفها... فوجدت الجدران في هذين اليومين متنفسا ترتاح به من الحمام اليومي... وحدها ثريا صغيرة في كبد السقف تكافح هذا الجو الداكن... فتضخ ضوءها حتى اصيبت بالقصور القلبي...

ثم أطلت نجوم مضيئة... لفتت إليها جميع الأنظار... ليس لأنها مضيئة براقة ولكن لأنها على كتف ضابط الشرطة... دخل ومعه شخصان خلفه... أقل إضاءة من صاحبهما... مع أصوات اللاسلكي... خشششش... حتى انسحبت الفناجين من المقطوعة... وتسمرت الكعوب في مكانها استحياء من الجزمة العسكرية...

فقال الضابط وقد نسي نفسه حتى خالها تصرخ في عناصره: " البقية بحياتك يا فندم... نحن نأسف لما جرى... نعرف أن موقفك صعب.. ولا شيء يعوض عن ابنك... ولكن الحكومة كانت تقوم بواجبها... وحدث ما حدث... ابنك شهيد الوطن"

الوالد المفجوع... ماذا يقول... حاول أن يختار الكلمات... كانت تتصارع وتتسارع... ايرد بالحسنى أم ينفجر؟... تم تمديد الوقت إلى اشواط إضافية... ثم ركلات ترجيح... ولم يعرف بعد ماذا ينطق... حتى الفيفا ليس لديها قانون إذا استمرت الركلات كل هذه الفترة... فإذا بالضابط يقول: " هل تسمح بأن نتكلم على إنفراد"

قام الوالد واختلى به في غرفة محاذية... وبعد محادثة بسيطة قال الضابط: " الآن سأنصرف... ووضحت لك الأمور... إياك أن تلجأ إلى القضاء... وإلا!"

هذه الحادثة حدثت مرارا في البلاد العربية... ولا ننسى أن نقول أن الشرطة خدمة الشعب...

انها الديكتاتورية في ثوب الديمقراطية المزعومة