عبد الباري عطوان

السؤال الذي يتردد على السنة الغالبية الساحقة من ابناء قطاع غزة الذين يعيشون تحت القصف وتطاردهم القنابل الاسرائيلية من كل الاتجاهات هو: لماذا يعيش الاسرائيليون في امن واستقرار ورخاء بينما نعيش نحن في فقر وجوع وقصف واغلاق معابر وانقطاع كهرباء، ومياه ملوثة؟
يقول ابناء القطاع لمن يتصل بهم قلقا مستفسرا عن اوضاعهم: اطمئن نحن بخير سنستشهد واقفين، انتم الذين يجب ان تقلقوا لانكم لا تعرفون “متعة” الصموط بشرف وكرامة ليس في وجه العدوان الاسرائيلي فقط، وانما في وجه هذه الانظمة العربية المتواطئة.
يؤكد ابناء القطاع ايضا انهم يعيشون حياتهم الطبيعية تحت القصف، يذهبون الى محلاتهم التجارية، او الى البحر لصيد سمكة ضالة، او الى الحقل لجني بعض الثمار، وحصد بعض القمح والذرة، تعاني سنابله واكوازه من فقر تربة، وعطش مزمن لماء شحيح.
يقول لي احد ابناء القطاع بلهجة “فلاحية” اصيلة اجابة عن سؤالي حول بيته الذي دمره صاروخ اسرائيلي قبل ثلاثة ايام وساواه بالارض، لا بأس سنعود الى الخيام وسنفترش الارض ونلتحف السماء، تماما مثلما كان يفعل آباؤنا واجدادنا في ايام النكبة الاولى، الحجر يمكن العثور عليه، والبيت يمكن اعادة بناؤه، لكن المهم ان لا تنكسر الكرامة التي هي اعز لدينا من ارواحنا.
يتحدث اليك اهل غزة بتواضع الاقوياء ويقولون ايهما افضل الموت البطيء ام الموت السريع، طالما ان الشهادة باتت حتمية؟ نعم لم تعد الطائرات او الدبابات الاسرائيلية تخيفنا، ولم نعد ننتظر مساعدة من احد، ولا نتطله الى شفقة احد.
***
بهذه الروحية، وهذه المواقف، الغالبية الساحقة من اهل قطاع غزة مع المبادرة المصرية لوقف اطلاق النار، ويتطابق موقفهم مع مواقف جميع فصائل المقاومة الرافضة لها بقوة واباء، ويؤكدون انهم لن يقبلوا العودة الى الوراء والتضحية بكل دماء شهدائهم حتى يخرج نتنياهو منتصرا، فلا عودة مطلقا للوضع المزري السابق مهما كان الثمن.
في الماضي كان هناك تباين في مواقف ابناء القطاع، فأهل حماس وسلطتها الحاكمة غير اهل حركة “فتح”، والموقفان كانا في تضاد في معظم الحالات، الآن ذابت كل هذه الفروقات والخلافات، وانخرط الجميع في “انتفاضة الصواريخ” في وحدة حال غير مسبوقة، وباتوا جميعا يقفون في الخندق الرافض للمبادرة المصرية التي اعتبرها مذلة ومهينة، ويتحدون الموت ونتنياهو وكل الانظمة العربية الصامتة بل والمشجعة لمجازره على امل الانتهاء من ظاهرة المقاومة التي يمقتونها وتقض مضاجعهم.
السلطات المصرية قدمت هذه المبادرة وعبر وسائل الاعلام بعد الاتفاق على بنودها مع نتنياهو، اعتقادا منها ان فصائل المقاومة التي تخوض حربا تعرف جيدا انها غير متوازنة، ستتلقف هذه “العظمة” باحتفال مهيب، لانها ستوقف آلة القتل الاسرائيلية، ولكنها اخطأت وكعادتها دائما في فهم نفسية وشهامة ورجولة ابناء قطاع غزة وطلائعهم المقاتلة.
واذا صحت الانباء التي تقول ان الرئيس محمود عباس والمجموعة الخانعة المحيطة به، هي التي وضعت خطوطها العريضة، فهذا سبب جوهري آخر لرفضها بقوة اكبر، لان هذا الرجل لا يفهم الشعب الفلسطيني ومشاعره المفعمة بالوطنية، سواء في الضفة او القطاع، فمن يتنازل عن حقه في العودة الى مسقط رأسه في صفد لا يمكن ان يفهم هذا الشعب، او يقدر معنى المقاومة بعد ان فشلت كل رهاناته التفاوضة الاستجدائية.
الرئيس عباس طار الى القاهرة بحثا عن دور بعد ان همشته فصائل المقاومة، وفضحت بصمودها تخاذله وسلطته، ولكنه لن يجد هذا الدور، لانه لا يستحقه، فقد خسر احترام كل المقاومين بما فيها رجال كتائب الاقصى التابعة لحركة “فتح” الذين اظهروا المعجزات في هذا الشهر الفضيل، واوصلوا صواريخهم الى القدس وتل ابيب وحيفا وديمونة و”صفد” وكل المدن الفلسطينية المحتلة التي لم يستطيع الرئيس عباس الوصول اليها كسائح رغم التنسيق الامني وكل التنازلات الاخرى التي قدمها للاسرائيليين.
وعندما نقول انهم حققوا المعجزات فاننا نشير الى عجز اسرائيل وكل اجهزتها وجواسيسها ومخابراتها عن كشف او ضرب منصة اطلاق واحدة، او نفق من انفاق غزة تحت الارض التي تشكل عالما آخر بني بسواعد المؤمنين المقاومين الذين تخرجوا من اكاديميات العزة والكرامة.
المعتدلون والمحللون العقلاء في السلطة واروقتها ومركز ابحاثها، يخطئّون حركات المقاومة لرفضها المبادرة المصرية من منطلق حرص مزور، ويقولون ان نتنياهو سيستغل هذا الرفض لمواصلة العدوان، وحصوله على شرعية وغطاء دولي، وردنا عليهم، متى غاب الغطاء الدولي عن جرائم نتنياهو ومجازره؟ وهل كان هذا “الرفض” موجودا عندما ارسل طائراته الامريكية الصنع لقصف القطاع وقبلها قانا في جنوب لبنان؟ ثم متى التزم الاسرائيليون باتفاقات هدنة مع الفلسطينيين او اللبنانيين.
السلطات المصرية لم تكلف نفسها الاتصال بحركة حماس او اي فصيل فلسطيني آخر مقاوم، ووضعت المسدس في رؤوس قادة هذه الفصائل، وقالت لهم اما ان تقبلوها كاملة دون اي نقاش او نعطي الضوء الاخضر الشرعي لنتنياهو لقتل الآلاف من ابناء القطاع وعليكم تحمل المسؤولية، ونفضت يدها من مبادرتها، ولجأت الى توني بلير مجرم الحرب لعله يعيد صياغتها بطريقة اكثر سوءا.
هل هذا منطق؟ “اشقاء”، هل هذا هو موقف دولة عربية كبرى ونعول عليها وجيشها وشعبها لنصرة المظلومين المحاصرين؟ هل هذه مصر التي تغلق معابرها وحدودها في وجه اشقائها، وتمنع وصول من يريد التضامن معهم في محنتهم من العرب والاجانب؟
لا نعرف ما هو شعور عبد الفتاح السيسي وهو يرى اشلاء اطفال شاطيء غزة الذين قصفتهم الطائرات الاسرائيلية بصواريخها وهم يلعبون الكرة، فهل هؤلاء دروع بشرية؟ او هل تابع مثلنا الطائرات الاسرائيلية من طراز “اف 16″ وهو الرجل العسكري وهي تلقي حممها فوق رؤوس الصائمين في منازلهم المتهالكة؟ فهل تحركت نخوته العسكرية؟
لا نعرف موقف الزعماء العرب وهم يسمعون ويقرأون الانذارات الاسرائيلية لاجلاء مئة الف فلسطيني من منازلهم تمهيدا لقصفها وهل سألوا انفسهم اين يذهب هؤلاء؟ والى اي مكان في قطاع لا تزيد مساحته عن 150 ميلا مربعا حدوده مع العالم الخارجي محكمة الاغلاق؟ ويشكل اكواما من اللحم البشري مكدسة فوق بعضها البعض في اكثر مناطق العالم ازدحاما بالسكان!
ثم اين يذهب الجرحى والاطباء في مستشفى “الوفاء” في غزة استجابة لطلب اسرائيلي بالاخلاء؟ الى المقابر؟ تخيلوا هؤلاء الجرحى المقطعة ارجلهم، والمفتوحة بطونهم، والذين يعيشون على محلول معلق في اسرتهم، تخيلوا هؤلاء يغادرون المستشفى حتى تقصفه الطائرات الاسرائيلية؟
***
ابناء قطاع غزة رفضوا هذه الاوامر “الشيلوكية” الاسرائيلية، وبقوا في منازلهم ومستشفياتهم وفضلوا الشهادة على المغادرة، في واحدة من اروع المواقف المتحدية في تاريخ هذه الامة.
نشعر بالعضب ونحن نرى وبعض الحكومات العربية وغير العربية (تركيا) تتبارى فيما بينها من اجل التوصل الى وقف لاطلاق النار، ويحاول كل طرف افساد مبادرة الطرف الآخر او عرقلتها، لصالح انجاح مبادرته او فرضها بقوة التدمير والقتل الاسرائيلية بدلا من توجيه الانذارات بارسال الجيوش واعلان الحرب اذا لم توقف اسرائيل مجازرها، او حتى اغلاق سفارة اسرائيل فيها كأضعف الايمان.
عزاؤنا وسط هذا الظلام الحالك ان هناك رجالا في قطاع غزة نذروا ارواحهم ودماءهم من اجل نصرة قضايا هذه الامة العادلة، وليهنأ الزعماء العرب في قصورهم، ولتهنأ جيوشهم في ثكناتها الفارهة المكيفة.