بسم الله الرحمن الرحيم
من اروع ما طالعت رد منهجى على كتاب الشخصية المحمدية المنسوب للرصافى
و هو رد بديع منيع يعلمنا كيف نفكر تفكيرا سويا و نكتشف المغالطات
بسم الله الرحمن الرحيم
من اروع ما طالعت رد منهجى على كتاب الشخصية المحمدية المنسوب للرصافى
و هو رد بديع منيع يعلمنا كيف نفكر تفكيرا سويا و نكتشف المغالطات
يرى الكاتب، معروف الرصافي، أنَّ الغاية التي يرمي إليها محمد من الدعوة إلى توحيد الله الذي لا شريك له، هي إحداث نهضة عربية دينية اجتماعية سياسية: عربيةَ المبدأ، عالمية المنتهى( ). واستدلَّ على ذلك بما جاء في سيرة ابن هشام وفي السيرة الحلبية، وما ادِّعاءُ محمد الرسالة والوحي، وما التشدُّدُ على قومه في موضوع الشرك بالله إلاَّ لتوحيدهم وتكوين قوَّة منهم، قادرة على تحقيق غايته. ولـمَّا كانت الوحدة الدينية مجرَّدة وغير كافية لإنهاضهم، جعل لها من المرغِّبات المادية والمعنوية، واعتمد في دعوته على المكوِّنات الأساسية لشخصيته، مثل: الذكاء، وقوة الخيال، وعمق التفكير، بالإضافة إلى ما تلقَّاه من أهل الكتاب، وما اكتسبه أثناء أسفاره الكثيرة، وما تعلَّمه أيضا من الأعجميِّ من المعاني التي كان يركِّبها ويصوغها بلسان عربي مبين( )، على أنَّها وحي من الله.
وعلى الرغم من التكذيب الواضح للرسالة المحمدية يصرِّح الكاتب بأنَّ محمدا صادق في كلِّ ما قاله، ليس لأنَّ أقواله مطابقة للواقع، بل لأنـَّه كان مصلحا لا يريد إلاَّ المصلحة العامَّة. وما الصدق إلاَّ موافقة المصلحة العامَّة وإن خالف الواقع، والكذب هو ما خالف المصلحة العامة وإن وافق الواقع( ).
ومن خلال دراستنا التحليلية النقدية توصَّلنا إلى اكتشاف نقائص كثيرة في مواقف الكاتب، من أبرزها ما يلي:
أ.التناقضات.
ب.المغالطات.
ج. الأحكام المسبقة
د. مسألة تحتاج إلى توضيح.
يتبع باذنه تعالى
متابع أخي القلم الحر ..
إن عرفتَ أنك مُخلط ، مُخبط ، مهملٌ لحدود الله ، فأرحنا منك ؛ فبعد قليل ينكشف البهرج ، وَيَنْكَبُّ الزغلُ ، ولا يحيقُ المكرُ السيء إلا بأهلِهِ .
[ الذهبي ، تذكرة الحفاظ 1 / 4 ].
قال من قد سلف : ( لا ترد على أحد جواباً حتى تفهم كلامه ، فإن ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره ، و يؤكد الجهل عليك ، و لكن افهم عنه ، فإذا فهمته فأجبه ولا تعجل بالجواب قبل الاستفهام ، ولا تستح أن تستفهم إذا لم تفهم فإن الجواب قبل الفهم حُمُق ) . [ جامع بيان العلم و فضله 1/148 ].
شكرا لمروركم الكريم
متابعة باذن الله
كن مع الله ولا تبالي..
مرحبا بك
أ. التناقضات:
من خلال التحليل النقديِّ لصفحات كتاب الشخصية المحمدية، أو اللغز المقدس، ظهرت تناقضات كثيرة، سنكتفي بعرض بعضها كعينة:
التناقض الأول
حول صفات الشخصية المحمدية
وصف الكاتب الرسول بمجموعة من الصفات المميزة لشخصيته، أهمها:
1. «محمد بن عبد الله عظيم عظماء البشر»( ).
2. «أعظم رجل عرفه التاريخ»( ).
3. «أنَّ تلك الشخصية العظمى التي يمثِّلها شخص محمد بن عبد الله في بني آدم قد اجتمع فيها من عناصر الكمال البشريِّ ما لم يعرف التاريخ اجتماعه في أحد قبله»( ).
إنَّ ما يجمع بين هذه الصفات الثلاثة للشخصية المحمدية، كما يصفها الكاتب، هي صفة الكمال البشريِّ، الذي لم يعرف التاريخ شخصا اتصف به قبله. ولا يجادل أحد في أنَّ صفة الصدق هي من أهمِّ صفات - أو مكونات - الكمال البشريِّ، بالإضافة إلى صفة الأمانة، وصفة العدل. وهي صفات عُرف بها محمد ، وشهد له بها من عرفه، حتى أعداؤه.
لنقارن هذه المجموعة من الصفات بمجموعة أخرى ذكرها الكاتب نفسه، وهي:
1. «اخترع محمد كلمة التوحيد»( ).
2. «تفـنَّن بآياته القرآنية ما شاء الخيال أن يتفنن في وصف الجنة»( ).
3. «كان يطلب الملك والسلطان لقريش من وراء دعوته الدينية»( ).
ما يجمع بين عناصر هذه المجموعة الثانية هو صفة الكذب؛ لأنـَّه اخترع كلمة التوحيد، واخترع القرآن بقوَّة خياله، وقال: هو وحي من الله، ولم يوح إليه شيء: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إليَّ ولم يوح إليه شيء".»( ).
إذن، من يدَّعي الوحي وهو في الحقيقة لم يوح إليه شيء فهو كاذب، وأكبر ظالم، وخائن للأمانة. فإذا كان الكمال البشري من صفاته: الصدق، والعدل، والأمانة. وهي صفات مناقضة للكذب، والظلم، والخيانة. فكيف يكون محمد بن عبد الله صادقا وعادلا وأمينا، ثم كاذبا وظالما وخائنا في آن واحد؟
هل يمكن للباحث عن الحقيقة أن يقع في هذا التناقض!
رائع ما شاء الله تبارك الله
استمر أخي
موقف الكاتب من بعض المصادر
إنَّ الاستعمال المفرط الملحوظ لبعض المصادر، والاعتماد عليها بصورة غير نقدية، في إصدار أحكام قطعية وُثوقِية، في مسائل دقيقة وحسَّاسة في آن واحد، أمر يحتاج إلى عملية تحليلية موضوعية.
فعلى سبيل المثال، وقعت الإشارة في الهوامش إلى السيرة الحلبية مائة مرَّة تقريبا، تليها سيرة ابن هشام.
أمَّا المصادر والمراجع الأخرى المختصَّة في هذا الموضوع مثل: كتب التفسير، وكتب الحديث المشهورة، فلم يعتمد عليها إلاَّ قليلا.
إنَّ هذه الملاحظة تدفعنا إلى طرح السؤال حول القيمة العلمية الحقيقية لهذا الصنف من المصادر المعتمد عليها بصورة تكاد تكون كلية.
والغريب في هذا الموضوع أنَّ الكاتب نفسه تساءل عن القيمة العلمية للمصدرين المذكورين، وأجاب بما يلي:
1. «الذي يتعلق بسيرة محمد فإنه إنَّما كتب ودُوِّن في الصحف على عهد أبي جعفر المنصور، الخليفة الثاني من العباسيين، والذي كتبه هو محمد بن إسحاق، صاحب المغازي والأخبار، ومنه أخذ من جاء بعده من الرواة وكُتَّاب السير، فكلهم فيما كتبوا عيال عليه.... فمحمد بن إسحاق لم يُدون ما دونه من أخبار السير المحمدية إلاَّ بعد أن مرَّ عليها من الزمن ما يزيد على مائة سنة، وقد كانت هذه الأخبار في هذه المدة كلِّها تنقلها الرواة، وتلوكها ألسنتهم، فكانت... ملعبَ أهوائهم، ومسرح تحزُّباتهم المذهبية والسياسية، حتى وقع فيها من الزيادة والنقص ما وقع، وجرى فيها من التغيير والتبديل ما جرى... وتجد في الأمر الواحد روايتين، إحداهما تقول بالنفي والأخرى بالإثبات... ويُستثنى من ذلك القرآن، فإنـَّه جُمع في عهد الخليفة الأول أبي بكر، وكُتب في المصاحف في عهد الخليفة عثمان»( ).
2. «الرواية لا تفيد العلم»( ).
3. «لا شكَّ أنَّ الخبر إذا تداولته الرواة، وطال سيره بينهم من فم إلى أذن، وطال عليه الأمد في سيره وانتقاله بينهم، كان عُرضة للتغيير والتبديل، بسبب ما يكون في الرواة من سوء فهم، ومن ضعف حفظ، ومن ضيق وعي، وبسبب ما يعتريهم من ذهول ونسيان»( ).
لقد أجاب الكاتب من خلال هذه النصوص بعبارات دقيقة وواضحة، عن القيمة العلمية للروايات المدوَّنة في كتب السيَر، والتي بنى عليها أحكامه عن الشخصية المحمدية في كلِّ جوانبها، وهذا يدفعنا إلى طرح السؤال الآتي: لماذا اعتمد الكاتب على المصادر المذكورة، وهو يعلم علم اليقين أنَّها لا تفيد العلم؟
لا وجود لإجابة موضوعية لهذا السؤال، وبالتالي فالتناقض واضح بين الاعتماد المفرط على الروايات في إصدار الأحكام وبين نفي القيمة العلمية عنها.
فهل التناقض هو الوسيلة المناسبة للوصول إلى الحقيقة؟!
حياكم الله اخى بن حيان
التناقض الثالث
حول موقف الكاتب من الشرك بالله
يتحدد موقف الكاتب من الشرك بالله من خلال مجموعة من المقدِّمات منها:
1. الشرك بالله جعل الناس منقسمين إلى أكثرية عابدة لأقلية معبودة، وهو نوع من السقوط الإنساني من طور أعلى إلى طور أدنى، ومن مضارِّه شقاء العابد ونعيم المعبود( ).
2. القضاء على الشرك بالله يستلزم التوحيد، أي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أي الرُقيَّ الإنساني من طور أدنى إلى طور أعلى، أو التحرُّر من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق، وهي عبودية شريفة، وفائدتها لا تكون إلاَّ لهم( )، "إنَّ الله غني عن العالمين"
3. للناس في عبوديتهم لله فائدتان:
أ. التحرُّر من المضارِّ المترتبة عن العبودية لغير الله.
ب. اتجاه النفس في جميع أحوالها إلى الأصل الذي تفرَّعت منه، والذي هو مرجعها في المنتهى( ): "وإليه ترجعون"( ).
إنَّ هذه المقدمات التقريرية تثبتها الوقائع التاريخية ولا جدال حولها، ونستطيع التعبير عنها بالصيغتين اللزوميتين التاليتين:
- الشرك بالله مضار اجتماعية وسياسية ونفسية.
- التوحيد (نفي الشرك) فواد اجتماعية وسياسية ونفسية.
لو تمسَّك الكاتب بما تقدَّم لكان موقفه من الشرك بالله واضحا، لكنَّ انتقاله المفاجئ إلى مقدِّمات جدلية إشكالية، جعل موقفه من الشرك بالله غامضا، ولتوضيح ذلك سنعرض عيِّنة من المقِّدمات الجدلية، منها:
1. مهما كانت العبودية لله شريفة فإنَّ هناك مرتبة أعلى منها، وهي مرتبة الفناء في الحقيقة اللانهائية، التي هي ذات الله، وعنوان هذه المرتبة (لا موجود إلا الله)، وهي المعبَّر عنها عند فلاسفة الإسلام بـوحدة الوجود( ).
إنَّ الطابع الجدليَّ الإشكاليَّ لهذه المقدمة لا يحتاج إلى توضيح، فهي محلُّ جدل بين المتكلمين والفلاسفة والمتصوِّفة، انقسموا حولها إلى فرق ومذاهب شتى، كفَّر بعضهم بعضا؛ لأنـَّها قد تؤدِّي إلى دعوى الحلول أو الاتحاد، كما قد تؤدِّي إلى الشرك بالله.
2. لقد عبَّر محمد عن وحدة الوجود في القرآن بقوله: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن"( ). هذه المقدمة مبنية على تفسير خاصٍّ للآية القرآنية الكريمة، يجعلها تدعم مبدأ وحدة الوجود، وهي مقدِّمة ذات طابع جدلي؛ لأنَّ هذا التفسير غير مقبول من قبل بعض المفسرين على الأقل.
3. إنَّ الغاية التي يرمي إليها محمد من الدعوة إلى توحيد الله... هي إحداث نهضة عربية دينية اجتماعية سياسية( ).
ويستنتج الكاتب هذه المقدمة من بعض الروايات المدونة في كتب السيرة المحمدية، ومن المعلوم أنَّ هذه الروايات لا تفيد العلم
فسه، وبالتالي فهي مقدمة جدلية.
4. إذا علمتَ ما يريد محمد من وراء دعوة قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، علمتَ سبب تشديده عليهم إنكار الشرك بالله( ).
هذه المقدِّمة تجعل محاربة الشرك بالله وسيلة لخدمة الغاية السياسية والاجتماعية، وليست غايةً (إرجاع النفس الإنسانية إلى أصلها الذي تفرَّعت منه، وتحريرها من عبودية المخلوق) ( )، وطابعها الجدلي واضح لا يحتاج إلى شرح أو تحليل.
وبناءً على هذه المقدمات الجدلية يستنتج الكاتب نتيجة غريبة مناقضة لموقفه السابق من الشرك بالله، وما يترتب عنه من الأضرار المادية والمعنوية، إذ يقول: «إنَّ الشرك بالله لا يضرُّ الناس شيئا، كما أنـَّه لا يضرُّ الناس مضرَّة مادية، وإن كان عبثا مُزريا بهم»( ). وهو تناقض صريح، إذ ينفي ما تقرَّر سابقا بالنسبة إلى الشرك بالله.
إنَّ الوقوع في هذا التناقض ناتج عن الانتقال من مقدِّمات تقريرية إلى مقدِّمات جدلية.
التناقض الرابع
موقف الكاتب من الرسالة المحمدية
يتضح موقف الكاتب من الرسالة المحمدية من خلال المقدمات الآتية:
1. كلُّ الروايات المدونة في كتب السيرة المحمدية تعرَّضت للتحريف وللزيادة والنقصان، ويُستثنى القرآن الكريم من ذلك( ).
هذه المقدِّمة تثبت سلامة القرآن الكريم من التحريف، وتنفي الاعتماد على كتب السيرة بسبب التحريف الذي تعرَّضت له.
2. «كان محمد واسع الخيال قويَّه جدا... فإذا تفكر في أمرٍ تخيَّله وتصوَّره، وأخذ يصوِّره للعيان حتى يكون كأنه يراه بعينيه، ويسمعه بأذنيه، ويلمسه بيديه»( ).
3. «وأعظم دليل على سعة خياله وقوَّته ما جاء في القرآن... من وصف الجنة وجهنم... ولا ريب أنَّ الجنة التي وصفها محمد بأوصافها الباهرة المعلومة إنَّما هي من بنات خياله الواسع»( ).
. «ومن الدليل على قوَّة خياله ...ما جاء في الأخبار عن بدء الوحي من رؤيته جبريل في أفق السماء»( ).
5. يرى الكاتب أنَّ محمدا لم ير جبريل في أفق السماء، بل في ذهنه ونفسه، وسمع منه ما كان يفكر فيه( ).
إنَّ هذه المقدمات تنفي - صراحةً - الوحي من الله إلى الرسول بواسطة جبريل، أو بأيِّ طريقة أخرى. وتُرجِع ما جاء في القرآن الكريم إلى قوَّة خيال محمد .
ويستدل الكاتب على صدق مقدِّماته ببعض الأمثلة على سعة خيال محمد وقوته، منها على سبيل المثال: وصف الجنة وجهنم، وتخيل جبريل عليه السلام...
ويعتبر الكاتبُ هذه الأمثلة أدلة على قوة خيال محمد وسعته، فهو يرى المثال دليلا، وهذا مرفوض لغويا ومنطقيا.
فمن الناحية اللغوية: المثالُ هو توضيح شيء بما هو معروف، أمَّا الدليل فهو ما يبرهن به على المطلوب.
ومن الناحية المنطقية: فالمثال لا يثبت شيئا ولا ينفيه، ولا يوصف بالصدق أو الكذب، أمَّا الدليل فيُثبت أو ينفي شيئا عن شيء، بواسطة الطرق والقواعد المنهجية المناسبة، ويوصف إمَّا بالصدق أو الكذب.
ويمكن أن يُستعمل المثال لتوضيح الدليل، ولا يمكن منطقيا أن ينوب عنه أو يحلَّ محلَّه أبدا، لأنهما مقولتان من نمطين مختلفين.
المثال من نمط الفهم، والدليل من نمط منطقي.
والنتيجة هي: لا وجود لدليل على أنَّ القرآن الكريم هو من خيال محمد
إنَّ ما قدَّمه الكاتب هو أمثلة توضيحية فقط، لِما افترضه من قبل بالنسبة إلى قوة الخيال؛ ولكنَّه لم يثبت شيئا في النهاية. وبدلا من القول إنَّ محمدا كاذب، انتقل إلى تعريف خاصٍّ للصدق والكذب، وهو أنَّ الصدق ليس ما وافق الواقع( )، بل الصدق هو ما وافق المصلحة العامَّة وإن خالف الواقع. والكذب هو ما خالف المصلحة العامَّة وإن وافق الواقع( ).
وفي نظر الكاتب إنَّ محمدا صادق في كلِّ ما أخبر به، ليس بمعنى أنَّ أقواله وأخباره مطابقة للواقع بمفهوم الصدق المنطقي والعلمي، بل بمفهوم الصدق الموافق للمصلحة العامَّة؛ لأنَّ محمدا لم يكن يقصد إلاَّ المصلحة العامَّة من وراء دعوته إلى توحيد الله. والنتيجة هي أنَّ الكذب المبرَّر بالمصلحة العامَّة يكون صدقا، أي أنَّ القضية الواحدة تكون كاذبة بمخالفتها للواقع، وصادقة بموافقتها للمصلحة العامَّة.
ولا بدَّ من طرح السؤال الآتي:
كيف يمكن التحقُّق من موافقة القضية للمصلحة العامَّة أو عدم موافقتها لها؟
فلا يمكن التحقق من مطابقة القضية للمصلحة العامَّة ما لم تكن محقَّقة في الواقع، وإلاَّ بقيت فرضا ذهنيا غير محقَّق. إذن التحقُّق عن طريق المطابقة أو عدم المطابقة مع الواقع لا مفرَّ منه، وإلاَّ وقعنا في تناقض لا يقبله العقل السليم.
إنَّ تبرير الكذب بالمصلحة العامَّة لا يحوِّله إلى صدق بأيِّ حال من الأحوال؛ لأنَّ المبرر والصدق مقولتان تنتميان إلى نمطين مختلفين:
فالمبرر من نمط سيكولوجي اجتماعي لا يرقى إلى مستوى الكلية (universality) فهو يخضع لعادات وتقاليد ومصالح الأفراد والمجتمعات.
أمَّا الصدق فهو من نمط منطقي كلي (universal) أي ينتمي إلى القاسم المشترك بين كلِّ أفراد الإنسانية المتميزين بالعقل، ويقاس الصدق بعلاقته مع الواقع المشترك بين جميع أفراد الإنسانية.
إنَّ الانتقال من نمط إلى آخر يؤدِّي إلى ما يعرف في المنطق المعاصر بالنقائض (antinomies) وهي أخطر من التناقض؛ لأنَّ حلَّها يستلزم تقنيات منطقية متطورة جدًّا.
وفي الختام اتَّضح موقف الكاتب من الرسالة المحمدية، وقد انطوى على تناقضات ونقائض اكتفينا بعرض وتحليل بعضها، وسننتقل إلى الصنف الثاني من النقائص التي أشرنا إليها في الملخص وهي المغالطات المنطقية:
ب. المغالطات المنطقية:
إنَّ المنهج التحليليَّ النقديَّ الذي سلكناه كشف لنا مجموعة أخرى من النقائص المنطقية، وهي ما يعرف بالمغالطات المنطقية، وسنكتفي بعرض عيِّنة وتحليلها لتوضيح ذلك.
أ. مغالطة العكس غير المشروع، أو العكس المستوي:
1. بالنسبة إلى الصدق والمصلحة العامَّة: لا يجادل عاقل في أنَّ للصدق نتائج وفوائد تعود بالخير والمنفعة على المصلحة العامَّة. أمَّا الذي يجب توضيحه هنا، هو أنَّ المصلحة العامَّة مهما كانت مفضَّلة فهناك درجة أعلى منها، وهي درجة القيمة (Value) فالصدق قيمة أخلاقية توجِّه السلوك الإنسانيَّ وتقوِّمه، وكذلك هو قيمة منطقية توجِّه التفكير وتقوِّمه، وهذه القيمة المزدوجة هي التي تعطي للصدق محتواه الحقيقيِّ، وتحرِّره من النزعة النفعية البراغماتية الضيقة المبنية على المغالطة الآتية:
«إذا كان الصدق محقِّقا للمصلحة العامَّة فكلُّ ما يحقِّق المصلحة العامَّة صدق»( )، وهو عكس غير مشروع منطقيا وتاريخيا. فمن الناحية المنطقية القضية الكلية لا تُعكس إلى قضية كلية إلاَّ إذا كانت كلية سالبة، أمَّا من الناحية التاريخية فقد استُخدمت المصلحة كمبرِّر لاستعمار الشعوب ونهب خيراتها، وتحويلها إلى عبيد.
. بالنسبة إلى الفضائل والمصلحة العامَّة: يتبنَّى الكاتب موقف النزعة النفعية، وهو الموقف الذي يجعل الفضائل مشروطة بتحقيق المصلحة العامَّة. فبالإضافة إلى أنَّ المصلحة العامَّة ليست واضحة، وقد تُستخدم كمبرِّر للرذيلة، فالنزعة النفعية لا تعرِّفنا بطبيعة الفضيلة، بل بنتائجها، ممَّا يؤدِّي إلى تكرار المغالطة السابقة، أي: «كلُّ فضيلة تحقِّق المصلحة العامَّة، وكلُّ ما يحقِّق المصلحة العامَّة فهو فضيلة»( ). واجتنابا للوقوع في هذه المغالطة يجب تحديد مفهوم الفضيلة أولا، ثم ما ينتج عنها بحكم طبيعتها، وهذا الفصل بين الفضيلة وما ينتج عنها من منفعة ومصلحة عامَّة، هو تحرير للفضيلة كقيمة أخلاقية إنسانية، أي أنَّ المصلحة العامَّة ليست شرطا للفضيلة، وبعبارة منطقية نقول:
إذا كانت الفضيلة بطبيعتها تحقِّق المصلحة العامَّة، فليس كلُّ ما يحقِّق المصلحة العامَّة فضيلة.
ويمكن إضافة سبب رئيسٍ لذلك وهو أنَّ المصلحة العامَّة نسبية، وهذه النسبية قد تجعل مصلحة الأقوى فضيلة مبرَّرة ومفروضة بالقوَّة، كما حدث في الماضي، ويحدث الآن في مناطق كثيرة من العالم.
ب. مغالطة الخروج عن الموضوع: يسلِّم الكاتب بأنَّ القرآن الكريم مستثنى من التغييرات والزيادات والتحريفات التي تعرَّضت لها الروايات المدوَّنة في الكتب التي تناولت السيرة المحمدية( ).
تُعتبر هذه المسلَّمة، من الناحية المنهجية، أهمَّ خطوة في حلِّ اللغز المقدَّس( ). بما أنَّ الكاتب يتعامل مع القرآن الكريم كما يتعامل مع أيِّ نصٍّ تراثيٍّ، ومن هنا يجب التقيُّد بالمنهجية المتَّبعة في تحقيق النصوص والمخطوطات التراثية، وتتميَّز هذه المنهجية بخطوتين أساسيتين هما:
أولا- التحقَّق من صحَّة النصِّ، ومطابقته للنصِّ الأصليِّ.
ثانيا- التحقَّق من صحَّة المصدر المنسوب إليه.
بما أنَّ الكاتب يسلِّم بصحَّة الخطوة الأولى التي هي شرط أساسيٌّ للانتقال إلى الخطوة الثانية المتعلِّقة بصحَّة المصدر المنسوب إليه أو عدمها، فالسؤال الأساسيُّ الذي يتركَّز حوله البحث هو الآتي:
أنسبة القرآن الكريم إلى الله عزَّ وجلَّ هي نسبة صحيحة؟ أم أنَّ القرآن الكريم من إنتاج قوَّة خيال محمَّد ، كما يرى الكاتب؟
فمن المعلوم لدى المحقِّقين في النصوص التراثية أنَّ التحليل النقديَّ لتلك النصوص يجب أن يتناول النصَّ من جميع النواحي: اللغوية، والعلمية، والمنطقية، والتاريخية... وتحليلها ومقارنتها ونقدها نقدا موضوعيا، للوصول إلى نتيجة واضحة تثبت أو تنفي نسبة المصدر. فهل قام الكاتب بإنجاز هذه الخطوة المكمِّلة للخطوة الأولى التي لا جدال حولها؟
لم نعثر، على الأقلِّ، في الصفحات التي درسناها، ما يشير إلى ذلك. فما قام به الكاتب هو خروج حقيقيٌّ عن موضوع البحث، وقد لجأ إلى أسلوب "مغالطة الخروج عن الموضوع". فانطلق من إنكار نسبة القرآن الكريم إلى الله عزَّ وجلَّ، ونسبته إلى قوَّة خيال الرسول ، معتمدا في ذلك على تأويل الروايات المدوَّنة في كتب السيرة المحمَّدية، رغم انتقادها ورفضها كمصدر للعلم( ).
ولم يتناول الكاتب، لا من قريب ولا من بعيد، النصَّ القرآنيَّ بالتحليل والنقد، كما تقتضي المنهجية السليمة التي أشار إليها القرآن الكريم: "أفلا يتدبَّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا"( ).
لم يثبت الكاتب أنَّ القرآن الكريم من عند غير الله بتدبُّره، أي بدراسته دراسة تحليلية نقدية موضوعية تُبرز الاختلافات الموجودة، إن كانت موجودة فعلا، بل خرج كلية عن مناقشة النصِّ القرآني، معتمدا على تأويل بعض الروايات المطعون في صحَّتها. وهذا ما يسمَّى عند المناطقة بمغالطة الخروج عن الموضوع.
ج. مغالطة الدور الفاسد: «كان محمَّد واسع الخيال قويَّه جدًّا»( ). هذا الحكم يحتاج إلى دليل. فما هو الدليل الذي بنى عليه الكاتب حكمه هذا؟.
«وأعظم دليل على سعة خياله وقوَّته ما جاء في القرآن وفي الأحاديث النبوية، من وصف الجنَّة وجهنَّم، ولا حاجة إلى إيراده هنا؛ لأنَّه معلوم مذكور في الكتب»( ).
هذا ليس دليلا، بل هو حكم مسبق على أنَّ ما جاء في القرآن الكريم من وصف الجنَّة وجهنَّم هو من سعة خيال محمَّد وقوَّته، وهذا الحكم يحتاج إلى دليل يثبته وينفي صفة الوحي عنه، ودليل الكاتب هو ما يلي:
«ولا ريب أنَّ الجنَّة التي وصفها محمَّد بأوصافها الباهرة المعلومة هي من بنات خياله الواسع القويِّ»( ).
وهنا يتضح الدور الفاسد الذي وقع فيه الكاتب:
فهو يستدلُّ على صفة الحكم: (محمَّد واسع الخيال قويه جدا) بما جاء في القرآن الكريم من أوصاف الجنَّة وجهنَّم.
ويستدلُّ على أنَّ تلك الأوصاف هي من بنات خياله الواسع القويِّ.
وصورة الدور الفاسد هو كما يلي:
(محمَّد واسع الخيال قويه جدا)؛ لأنَّه وصف الجنَّة بأوصاف باهرة.
(ووصفَ الجنَّة وجهنَّم بأوصاف باهرة)؛ لأنَّه واسع الخيال قويه جدا.
يلاحظ أنَّ الحكم والدليل متطابقان، ولا وجود لدليل يثبت أو ينفي أيَّ شيء. فلم يثبت الكاتب أنَّ محمَّدا كان واسع الخيال قويه جدا كما زعم، ولم ينف صفة الوحي من الله. فكلُّ ما قام به الكاتب هو مغالطة الدور الفاسد.
وسنكتفي بهذه العينة من المغالطات الرئيسة، وننتقل إلى نوع آخر من النقائص في هذا الموضوع صنفناها تحت عنوان: الأحكام المسبقة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
Bookmarks