الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه
أما بعد :
فقد جنح بعض الكتاب الإسلاميين ك( محمد أسد ) الذي كان يهودياً نمساوياً وأسلم إلى اعتبار الدجال الوارد في الأحاديث رمزاً للحضارة الغربية ، ودعم وجهة نظره بأنها تمتلك قوى عجيبة ومبهرة وتخرج بالناس عن أديانهم إلى تعظيم المادة فقط ، وأن عورها هو كونها مادة بلا روح فهذا تعظم المادة وتغض من شأن الروح فتسميها عاطفة أو أي شيء آخر
ومال لمثل هذا التفسير الدكتور صبر الدمرداش في كتابه ( للكون إله ) مع كونه لم يصرح إلا أنه أعاد عبارات محمد أسد
ولا يخفى أن مثل هذا التفسير مرفوض على طريقة أهل الحديث السائرين على الأثر ، إلا أنني أرى أن الأمر ليس خطأً مائة بالمائة ، بل هناك علاقة فعلية بين الدجال والحضارة المادية
وبيان ذلك أن أحاديث أشراط الساعة تفيد بأن هناك ميلاً للدنيا عظيم سيكون في أهل الإيمان فضلاً عن غيرهم وأشارت إلى انتشار الزنا والربا والعقوق والنفاق وغيرها من الأمور التي تقارن الحضارة المادية ، والتي يستلزم لكثرتها ضعف التدين في المجتمعات
فالذي يظهر أن ما يحصل الآن يعطي فكرةً عما سيحصل في زمن الدجال
ولك أن تتصور أن رجلاً كالحسن البصري يرى فتوحات المسلمين تملأ الآفاق والمجتمع الإسلامي على درجة عالية من تطبيق شرع الله ، ويسمع بأن هناك رجلاً سيأتي في آخر الزمان يظهر للناس بعض الخوارق ويدعي الألوهية فيصدقه كثيرون ويتبعونه
لعله يختلج في صدره سؤال ( كيف يفعلون هذا )؟
ولكننا اليوم حينما نرى من انبهار كثير من الناس بالحضارة الغربية والذي أوصلهم هذا الانبهار إلى مكابرة الفطرة في العديد من المسائل وتقليد القوم حتى فيما يفيد شيئاً بل هو ضار ، يفهم جيداً ما سيحصل إذا خرج الدجال
وذلك الحديث الذي فيه أن الرجل يأتي للدجال ويظن أن معه قوة لمجادلته فما يلبث الرجل حتى يؤمن به ، يعكس حال كثيرين تجاه الحضارة الغربية وكيف أنهم ذهبوا إلى هناك وبعضهم يزعم الدعوة أو يزعم الهروب من ضغوطات معينة مع ذم شديد للبلدان الغربية فما لبث حتى صار يصدر الكتب في تأييد المسلك العلماني على استحياء أو صراحة ومحاولة إباحة كل محرم يرى أنه يتعارض مع هذه الحضارة
والحديث الآخر الذي يتكلم عن شاب يقسمه الدجال إلى نصفين ثم يعيده فيقول له ما ازددت بك إلا يقيناً أنت الدجال الذي حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحكي حالاً تقارب إلى حد ما حال من جاءته الحضارة المادية بكليها وكلكلها وصار أهلها والمتأثرون بها يقولون له ( ما نفعكم دينكم أنتم ضعفاء ) فيقول : ( هذا هو الوهن الذي اخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم وتسلط الكفار علينا في آخر الزمان ما ازددت فيكم إلا يقينا )
وكل من تبع الغرب على عوره وما عنده في باب الخلاق لمجرد أنه يملك أسباب القوة المادية ، فلا يبعد أبداً أن يتبع الدجال لمثل هذا الاعتبار أفرأيت ما في الأمر من العبرة ؟
ومن أكثر الأخبار التي أرهبتني في شأن الدجال
ما روى نعيم بن حماد في الفتن حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير الليثي قال يخرج الدجال فيتبعه ناس يقولون نحن نشهد أنه كافر وإنما نتبعه لنأكل
من طعامه ونرعى من الشجر فإذا نزل غضب الله نزل عليهم جميعا
وهذا حال أناس كثير مع الحضارة الغربية والله المستعان
فالحضارة الغربية ليست هي الدجال ولكنها تمهيد كما لا ينازع في ذلك أحد وتعطي لذوي البصيرة فكرة عما سيحصل
وشأن الآيات العشر الأول من سورة الكهف عجيب وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهن يعصمن من الدجال وفي كل آية قيمة لو تأملها المرء لوجد سبباً للعصمة من الفتنة
فقوله تعالى : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) فهذا بيان أن الهداية في الفتن لا تطلب إلا من هذا الكتاب الذي لا عوج فيه
وقوله تعالى : ( قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ) وفي هذا أن من أسباب الثبات أمام الفتن تذكر الثواب والعقاء
وقوله تعالى : ( مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ) فيه أن هذا الثواب يختلف عن أي نعيم يعرفه البشر بديمومته
وقوله تعالى : ( وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًاً ) فيه الإشارة إلى أن من أعظم أسباب الضلال الكلام في صفات الله بالجهل وقياس الخالق على المخلوق وأتباع الدجال يعبدون إلهاً بشرياً ، وذكر قول النصارى هنا لأنه من أعظم ما افتري به على رب العالمين ، وأقبح من مقالتهم وأبعد قول من يقول ( من خلق الله )
ولعل أتباع الدجال سيشوشون على النصارى بقولهم ( الإله الذي صلب أو صلب ابنه أي إله هذا )؟ ويقارنونه بدجالهم
وقوله تعالى : ( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لآبائهم كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ) فيه التنبيه إلى أن دعاوى هؤلاء الناس في صفات الله لا تستند إلى العلم ولا إلى بينة صحيحة فلا قياس صحيح ولا نص فالخالق لا يقاس على المخلوق والنصوص الواردة في الكتب تناقض هذا المعنى ، وفي الآيتين المذكورتين إشارة خفية مع الحديث إلى أن أتباع الدجال سيصدر منهم السب في حق رب العالمين
وقوله تعالى : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) فيه من أعظم القواعد للنجاة من الفتن عدم المبالغة في محاولة هداية المعاندين والوقوف عليهم كثيراً وإطالة التحسر عليهم فإنهم إنما أهلكوا أنفسهم بأنفسهم فالنصح أولاً ثم الانشغال بالنفس والإقبال عليها وسؤال الله لهم الهداية ، فكم من إنسان بالغ في ذلك حتى أشغلوه عن نفع نفسه أو غمسوه في بعض ضلالتهم
وقوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) هنا يبين لك سبب ضلال كثير من الناس مع وضوح الحق وهو افتتانهم بالدنيا ونظرهم للدين على أنه قيود يمنعهم من الاستمتاع بالدنيا كما يريدون وهذه فتنتهم ، فمثل هذا المحاجة معه لا تنفع لأن الأمر جاء من علة قلبية وشهوة لا سوء فهم ، والزينة التي على الأرض من أمضى أسلحة الدجال لإغواء الخلق
وقوله تعالى : ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) ومما يعين على عدم الافتتان بهذه الفتنة التفطن إلى أن مآل كل هذا إلى الخراب ومآل الإنسان إلى الموت ، وهذا يظهر ويتأكد في التفكر بأحوال الماضين والحضارات القديمة ، بل التفكر بأرض محضرة بعد هبوب عاصفة عليها أو مرور قطيع جائع عليها
وقوله تعالى : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا) وهنا ذكر الله أناساً ليسوا بأنبياء وفي هذا أعظم تسلية لأن الدجال يأتي على قوم ليس فيهم نبي وإذا نزل عيسى تكون نهايته ، وفي قصتهم إشارة إلى الغربة التي سيجدها أهل الدين في آخر الزمان والتي ذكرت في الأحاديث ، وكما أنجى الله هؤلاء ونصرهم قادر على أن يفعل في الأزمنة المستقبلة
وقوله تعالى : ( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ) فيه أنهم بذلوا سبباً دنيوياً في الهروب من الفتنة مع التوكل الله وسؤاله الرحمة ، وهذا حال وسط بين حال المعجب بعمله وحال الذي لا يعمل يزعم أنه متوكل ولا نجاة من الفتن إلا ببذل الأسباب مع التوكل وقد ورد في الخبر ( من سمع بالدجال فلينأى عنه ) يعني ليبتعد
فهذه الأمور من استحضرها في كل فتنة عصم ، ولهذا أمرنا بالاستعاذة من فتنة الدجال في آخر كل صلاة فمن عصم من الدجال الأكبر عصم من الدجاجلة الأصاغر
هذا والله أعلم
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
Bookmarks