حقّاً إنك لن تجد مبرّرا أبدا للشرك و الإلحاد حتى من دون بعثة الرسل .. فالإيمان بالله تعالى و أنه وحده المنعم فطرة فينا. وهذا هو السبب الذي جعلنا نحب الإسلام و القرآن و الرسل عليهم السلام و نستمسك بسبيلهم مخلصين لله الدين.
الإشهاد و الميثاق الذي أخذه الله من بني آدم في عالم الذر هو حجة عليهم باعتباره مخاطبة بدئية بمعلوم من العقل و الفطرة و الدين بالضرورة، كما أنه كان مثيلا للإيحاء كما أوحى الله إلى النحل، و كما أوحى إلى السماء و الأرض أن تأتيا طوعا أو كرها و الله أعلم بحالنا كيف كنا في عالم الذر أو عالم الروح، إنه كذلك حين تعلق الأمر بنا أشبه بعملية زرع و فَطر و جَبْل في عالم الجينات .. فكما زرع الله فينا محبة العدل و الإحسان و زرع فينا العفة و الحياء و كراهية الظلم و الجريمة و الفحشاء فكذلك كنا في عالم الذر مؤمنين بالله و في عالم الفطرة موحدين و بالعقل -بعد أن عقلنا- شاهدين على أن الله وحده القادر على الخلق و التدبير و النفع و الضر و ليس إله من دونه مخلوقا مثلنا لا يملك حتى لنفسه نفعا و لا ضرا إلا ما شاء الله.
و اعتبار الميثاق حجة على الملحد لا يزيد شيئا و لا ينقص شيئا لأنه إن ثبت عنده مقتضى حجج الله العقلية و الفطرية و الرسالية ثبت عنده ذلك بالتضمن .. و إن انتفى انتفى كل ذلك، لكن من المؤكد أن الاحتجاج عليه به وحده بمجرد الإعلام به لا يكفي كحجة عليه بالغة قاطعة تمنع العذر و إلا لاكتفى الله به و رسله و لم ينزل معهم كتبا و لم يرسلهم بالبينات و الآيات. و لذلك أتبع الله تعالى ذكر الميثاق بقوله : { وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } و ذكر في إثر ذلك قصة بلعام فقال :
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ.
فمهما يكن فقد جعل الله الآيات هي الحجة القاطعة لأنها لا تترك مقالاً و بها يتبين الصادق في البحث عن الحقيقة من الكاذب.
يقول ابن عاشور في تفسير آية الميثاق :
والكلام تمثيل حال من أحوال الغيب، من تسلط أمر التكوين الإلهي على ذوات الكائنات وأعراضها عند إرادة تكوينها، لا تبلغ النفوس إلى تصورها بالكُنْه، لأنها وراء المعتاد المألوف، فيراد تقريبها بهذا التمثيل، وحاصل المعنى: أن الله خلق في الإنسان من وقت تكوينه إدراك أدلة الوحدانية، وجعل في فطرة حركة تفكير الإنسان التطلع إلى إدراك ذلك، وتحصيل إدراكه إذا جرد نفسه من العوارض التي تدخل على فطرته فتفسدها.
وجملة: { قالوا بلى } جواب عن الاستفهام التقريري، وفصلت لأنها جاءت على طريقة المحاورة كما تقدم في قوله تعالى: { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها }
في سورة البقرة (30).
وأطلق القول إما حقيقة فذلك قول خارق للعادة، وإمّا مجازاً على دلالة حالهم على أنهم مربوبون لله تعالى، كما أطلق القول على مثله في قوله تعالى: { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [فصلت: 11] أي ظهرت فيهما آثار أمر التكوين.
{أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ }
والمعنى: أن ذلك لمَّا جُعل في الفطرة عند التكوين كانت عقول البشر منساقة إليه، فلا يغفل عنه أحد منهم فيعتذرَ يوم القيامة، إذا سئل عن الإشراك، بعذر الغفلة، فهذا إبطال للاعتذار بالغفلة، ولذلك وقع تقدير حرف نفي أي أنْ لا تقولوا إلخ.
وعُطف عليه الاعتذار بالجهل دون الغفلة بأن يقولوا إننا اتبعنا آباءنا وما ظننا الإشراك إلا حقاً، فلما كان في أصل الفطرة العلمُ بوحدانية الله بطل الاعتذار بالجهل به، وكان الإشراك إما عن عمد وإما عن تقصير، وكلاهما لا ينهض عذراً، وكل هذا إنما يصلح لخطاب المشركين دون بني إسرائيل.
ومعنى: { وكنا ذرية من بعدهم } كنا على دينهم تبعاً لهم لأننا ذرية لهم، وشأن الذرية الاقتداء بالآباء وإقامة عوائدهم فوقع إيجاز في الكلام وأقيم التعليل مقام المعلل.
و { من بعدهم } نعت لذرية لما تؤذن به ذرية من الخلفية والقيام في مقامهم. والاستفهام في { أفتهلكنا } إنكاري، والإهلاك هنا مستعار للعذاب، والمبطلون الآخذون بالباطل، وهو في هذا المقام الإشراك.
وفي هذه الآية دليل على أن الإيمان بالإله الواحد مستقر في فطرة العقل، لو خُلي ونفسه، وتجرد من الشبهات الناشئة فيه من التقصير في النظر، أو الملقاة إليه من أهل الضلالة المستقرة فيهم الضلالة، بقصد أو بغير قصد، ولذلك قال الماتريدي والمعتزلة: أن الإيمان بالإله الواحد واجب بالعقل، ونسب إلى أبي حنيفة وإلى الماوردي وبعضضِ الشافعية من أهل العراق، وعليه أنبتت مؤاخذة أهل الفترة على الإشراك، وقال الأشعري: معرفة الله واجبة بالشرع لا بالعقل تمسكاً بقوله تعالى:
{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً }
[الإسراء: 15] ولعله أرجع مؤاخذة أهل الفترة على الشرك إلى التواتر بمجيء الرسل بالتوحيد.
وجملة: { وكذلك نفصل الآيات } معترضة بين القصتين، والواو اعتراضية، وتسمى واو الاستئناف أي مثل هذا التفصيل نفصل الآيات أي آيات القرآن، وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى:
{ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين }
في سورة الأنعام (55). وتفصيلها بيانها وتجريدها من الإلتباس.
وجملة: { ولعلهم يرجعون } عطف على جملة: { وكذلك نفصل الآيات } فهي في موقع الاعتراض، وهذا إنشاء ترجّي رجوععِ المشركين إلى التوحيد، وقد تقدم القول في تأويل معنى الرجاء بالنسبة إلى صدوره من جانب الله تعالى عنه قوله تعالى:
{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون }
في سورة البقرة (21).
والرجوع مستعار للإقلاع عن الشرك، شُبه الإقلاع عن الحالة التي هم متلبسون بها بترك من حل في غير مقره الموضع الذي هو به ليرجع إلى مقره، وهذا التشبيه يقتضي تشبيه حال الإشراك بموضع الغُربة، لأن الشرك ليس من مقتضى الفطرة فالتلبس به خروج عن أصل الخلقة كخروج المسافر عن موطنه، ويقتضي أيضاً تشبيه حال التوحيد بمحل المرء وحيّه الذي يأوي إليه، وقد تكرر في القرآن إطلاق الرجوع على إقلاع المشركين عن الشرك كقوله:
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براءٌ مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمةً باقيةً في عقبه لعلهم يرجعون }
[الزخرف: 26 ـــ 28] أي يرجعون عن الشرك، وهو تعريض بالعرب، لأنهم المشركون من عقب إبراهيم. اهـ
تفسير ابن عاشور - سورة الأعراف
Bookmarks