الحمد لله و صلى الله على محمد بن عبد الله و آله و صحبه،
كثيرا ما يرد على المنتدى سؤال في مسألة عدم استجابة الدعاء و يكون ذلك سببا عند البعض في سوء الظن بربّه و حصول الشك .. كأن المظنون بالله أن يستجيب كل دعوة من كل أحد في كل حين بمجرد أن يدعو و أقل ما في هذا المسلك أنه تألٍّ على الله و جهل بحكمته و ما تقتضيه من تأخير الإستجابة أو عدمها. فليس بالضرورة أن يكون الداعي قد دعى بما يوافق الحكمة لصالحه أو لصالح غيره .. فالله تعالى هو أحكم الحاكمين و هو الحكيم العليم فقد يستعجل الانسان بدعائه حصول ما يحسبه خيرا و يكون شرا و قد يستعجل به دفع ما يحسبه شرا و يكون خيرا له كما قال تعالى : (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
فعلى هذا الأساس يجب أن نفهم حكمة الله تعالى و تصريفه في استجابة الدعاء أو عدمها أو تأخيرها.
و بالنظر في سير الأنبياء عليهم السلام نجد كيف أنهم كانوا يحملون الدعاء على محمل الرجاء و إحسان الظن بالله و ليس على محمل اليقين بأن ما سألوه هو الأوفق و الأحكم و الأسلم فقد كانوا في كل أمرهم متوكلين على الله مستخيرين الله مفوّضين إليه لأن علم الله بالخير و الشر مطلق بخلاف العباد فإنهم لا يعلمون حقائق الأمور و لا مآلاتها. فلذلك كانت دعوات الأنبياء على الرجاء.
نعلم ذلك من حال الأنبياء عليهم السلام فقد كانوا مكثرين في الدعاء لا يفترون عنه لكن يظهر في بعض الأحيان أن الله أحاط بعلمه و حكمته بما لم يحيطوا به فلم يستجب دعائهم، و كأمثلة على ذلك : أن الله لم يستجب لنوح عليه السلام في إبنه و لم يستجب لإبراهيم عليه السلام دعائه لكل ذريته في قوله : ( قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين)
و لم يستجب لأيوب عليه السلام إلا بعد مرور 18 عاما على بلائه كما صح في الحديث.
و قد مات للنبي صلى الله عليه و سلم أولاده الثلاثة من الذكور و هم القاسم و عبد الله و إبراهيم، و من المعلوم أن النبي صلى الله عليه و سلم كنا كثير الدعاء لأهله و ولده و الاستعاذة لهم و مع ذلك ابتلاه الله فيهم بلاءً شديدا فماتوا .. سنة الله في العباد.
و قال البخاري رحمه الله " حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ إِلَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }
وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَزَلَتْ { لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ إِلَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }
وقال الله تعالى له في المنافقين : (استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)
و من ذلك حديث مسلم رحمه الله : " سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا ".
قال الشيخ عبد الكريم الخضير - حفظه الله - في " شرح الموطأ " :
''فلا يلزم من كل دعوة يدعو بها النبي -عليه الصلاة والسلام- أو غيره من الأنبياء أن تجاب، إنما المضمون دعوة بخلاف غيره، فغير الأنبياء جميع دعواتهم على الرجاء، فالمضمون للأنبياء دعوة مستجابة، وما عدا ذلك على الرجاء، وهم أولى الناس بإجابة الدعاء؛ لأنهم لا يدعون إلا مع توافر الأسباب، ومع انتفاء الموانع، فإذا توافرت الأسباب وانتفت الموانع ترتب الأثر، لكن لا يلزم من ذلك أن يجاب بنفس ما دعا به''.اهـ
و في جواب لمركز الفتوى على موقع إسلام ويب على سؤال :
هل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يرد ولا يستجاب أحيانا، كما جاء مثلا في قوله تعالى: استغفر لهم أو لا تستغفرلهم؟.
كان الجواب :
فإن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب على سبيل العموم والإجمال، وقد لا يستجاب له في مسألة بعينها، فقد روى مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها.
قال الحافظ في الفتح: وأما الدعوات الخاصة ـ يعني بالأنبياء ـ فمنها ما يستجاب ومنها ما لا يستجاب.
وجاء في تفسير السراج المنير للشربيني: وإجابة دعاء الأنبياء غالبة لا لازمة، فقد يتخلف لقضاء اللّه تعالى بخلافه كما في دعاء إبراهيم عليه السلام في حق أبيه، وكما في دعاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها.
ولكن الإجابة ليست محصورة في نفس مطلب الداعي، بل تكون بأحد ثلاثة أمور، كما ورد في الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها. رواه أحمد وغيره، وقال الأناؤوط: إسناده جيد.
والله أعلم.
Bookmarks