صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 16 إلى 27 من 27

الموضوع: العقيدة التوحيد

  1. افتراضي

    الفصل الخامس‏:‏ بيان حقيقة كل من الجاهلية - الفسق - الضلال - الردة‏:‏ أقسامها، أحكامها
    1 ـ الجاهليـة
    هي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام؛ من الجهل بالله ورسله، وشرائع الدين، والمفاخرة بالأنساب، والكبر والتجبر، وغير ذلك ‏‏، نِسبةً إلى الجهل الذي هو عدم العلم، أو عدم اتباع العلم، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية‏:‏ ‏(‏فإنَّ من لم يعلم الحق فهو جاهل جهلًا بسيطًا، فإن اعتقد خلافه فهو جاهل جهلًا مركبًا، فإن قال خلاف الحق عالمًا بالحق، أو غير عالم، فهو جاهل أيضًا، فإذا تبيّن ذلك فالناس قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا في جاهلية منسوبة إلى الجهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال، إنما أحدثه لهم جاهل، وإنما يفعله جاهل، وكذلك كل ما يخالف ما جاء به المرسلون، من يهودية ونصرانية، فهو جاهلية، وتلك كانت الجاهلية العامة‏.‏

    فأما بعد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فقد تكون في مصر دون مصر، كما هي في دار الكفار، وقد تكونُ في شخص دون شخص، كالرجل قبل أن يسلمَ فإنه في جاهلية، وإن كان في دار الإسلام، فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة، والجاهلية المقيدة قد توجد في بعض ديار المسلمين، وفي كثير من الأشخاص المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أربع في أمتي من أمر الجاهلية‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ ‏[‏رواه مسلم‏]‏ وقال لأبي ذر‏:‏ ‏(‏إنك امرؤ فيك جاهلية‏)‏ ‏[‏في الصحيحين‏]‏ ونحو ذلك‏)‏ ‏ انتهى‏.‏

    وملخص ذلك‏:‏ أن الجاهلية‏:‏ نسبة إلى الجهل، وهو عدم العلم، وأنها تنقسم إلى قسمين‏:‏

    1 ـ الجاهلية العامة‏:‏ وهي ما كان قبل مبعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقد انتهت ببعثته‏.‏

    2 ـ جاهلية خاصة ببعض الدول، وبعض البلدان، وبعض الأشخاص، وهذه لا تزال باقية، وبهذا يتضح خطأ من يُعمّمونَ الجاهلية في هذا الزمان فيقولون‏:‏ جاهلية هذا القرن أو جاهلية القرن العشرين، وما شابه ذلك، والصواب أن يُقالَ‏:‏ جاهلية بعض أهل هذا القرن، أو غالب أهل هذا القرن؛ وأما التعميم فلا يصحُّ ولا يجوزُ؛ لأنه ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم زالت الجاهلية العامة‏.‏

    2 ـ الفسـق
    الفسق لغة‏:‏ الخروج، والمراد به شرعًا‏:‏ الخروج عن طاعة الله، وهو يشمل الخروج الكلي؛ فيقالُ للكافر‏:‏ فاسق، والخروج الجزئي؛ فيقال للمؤمن المرتكب لكبيرة من كبار الذنوب‏:‏ فاسق‏.‏

    فالفسق فسقان‏:‏ فسق ينقل عن الملة، وهو الكفر، فيسمَّى الكافرُ فاسقًا، فقد ذكر الله إبليسَ فقال‏:‏ ‏{‏فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏الكهف/50‏]‏، وكان ذلك الفسق منه كُفرًا‏.‏

    وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ‏}‏، يريد الكفار، دلَّ على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة/20‏]‏‏.‏

    ويُسمَّى مرتكب الكبيرة من المسلمين‏:‏ فاسقًا، ولم يُخرجهُ فسقُهُ من الإسلام، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏النور/4‏]‏‏.‏

    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ‏}‏ ‏[‏البقرة/196‏]‏‏.‏

    وقال العلماء في تفسير الفسوق هنا‏:‏ هو المعاصي ‏‏.‏

    3 ـ الضـلال
    الضلال‏:‏ العدول عن الطريق المستقيم، وهو ضد الهداية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء/15‏]‏‏.‏

    والضلالُ يطلق على عدة معان‏:‏

    1- فتارةً يُطلقُ على الكفر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء/136‏]‏‏.‏

    2- وتارة يُطلقُ على الشرك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء/116‏]‏‏.‏

    3- وتارة يُطلقُ على المخالفة التي هي دون الكفر، كما يقال‏:‏ الفرق الضالة‏:‏ أي المخالفة‏.‏

    4- وتارة يُطلق على الخطأ، ومنه قولُ موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء/20‏]‏‏.‏

    5- وتارةً يُطلقُ على النسيان، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى‏}‏ ‏[‏البقرة/282‏]‏‏.‏

    6- ويُطلقُ الضلالُ على الضياع والغيبة، ومنه‏:‏ ضالة الإبل ‏‏.‏

    4 ـ الردة وأقسامها وأحكامها
    الردة لغة‏:‏ الرجوع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة/21‏]‏‏.‏

    أي‏:‏ لا ترجعوا، والردة في الاصطلاح الشرعي هي‏:‏ الكفرُ بعد الإسلام، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة/217‏]‏‏.‏

    أقسامها‏:‏ الردة تحصل بارتكاب ناقضٍ من نواقضِ الإسلام، ونواقضُ الإسلام كثيرة ترجع إلى أربعة أقسام، هي‏:‏

    1- الردة بالقول‏:‏ كسبِّ الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ملائكته، أو أحد من رسله‏.‏ أو ادّعاء علم الغيب، أو ادّعاء النبوة، أو تصديق من يدعيها‏.‏ أو دعاء غير الله، أو الاستعانة به فيما لا يقدر عليه إلا الله، والاستعاذة به في ذلك‏.‏

    2- الردة بالفعل‏:‏ كالسجود للصنم والشجر، والحجر والقبور، والذبح لها‏.‏ وإلقاء المصحف في المواطن القذرة، وعمل السحر، وتعلمه وتعليمه، والحكم بغير ما أنزل الله معتقدًا حله‏.‏

    3- الردة بالاعتقاد، كاعتقاد الشريك لله، أو أن الزنا والخمر والربا حلال، أو أن الخبز حرام، وأن الصلاة غير واجبة، ونحو ذلك مما أُجمع على حله، أو حرمته أو وجوبه، إجماعًا قطعيًّا، ومثله لا يجهله‏.‏

    4- الردة بالشك في شيء مما سبق، كمن شكَّ في تحريم الشرك، أو تحريم الزنا والخمر، أو في حل الخبز، أو شك في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أو رسالة غيره من الأنبياء، أو في صدقه، أو في دين الإسلام، أو في صلاحيته لهذا الزمان‏.‏

    5- الردة بالترك، كمن ترك الصلاة متعمدًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بين العبد وبين الكفر والشرك ترك الصلاة‏)‏ ‏[‏رواه مسلم‏]‏ وغيره من الأدلة على كفر تارك الصلاة‏.‏

    وأحكامها التي تترتب عليها بعد ثبوتها هي‏:‏

    1- استتابة المرتد، فإن تاب ورجعَ إلى الإسلام في خلال ثلاثة أيام؛ قبل منه ذلك وترك‏.‏

    2- إذا أبى أن يتوبَ؛ وجب قتله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من بدَّلَ دينه فاقتلوه‏)‏ ‏[‏رواه البخاري وأبو داود‏]‏‏.‏

    3- يُمنع من التصرف في ماله في مدة استتابته، فإن أسلم فهو له؛ وإلا صار فيئًا لبيت المال، من حيث قتله، أو موته على الردة‏.‏ وقيل‏:‏ من حين ارتداده يصرف في مصالح المسلمين‏.‏

    4- انقطاع التوارث بينه وبين أقاربه؛ فلا يرثهم ولا يرثونه‏.‏

    5- إذا ماتَ أو قُتلَ على ردته فإنه لا يُغسَّلُ ولا يُصلَّى عليه ولا يُدفنُ في مقابر المسلمين، وإنما يُدفَنُ في مقابر الكفّار، أو يُوارى في التراب في أي مكان غير مقابر المسلمين‏.‏

  2. افتراضي

    الباب الرابع‏:‏ أقوال وأفعال تُنافي التوحيد أو تُنقِصُه
    وفيه فصول‏:‏

    الفصل الأول‏:‏ ادعاء علم الغيب في قراءة الكف والفنجان، والتنجيم‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

    الفصل الثاني‏:‏ السحر والكهانة والعرافة‏.‏

    الفصل الثالث‏:‏ تقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها‏.‏

    الفصل الرابع‏:‏ تعظيم التماثيل والنصب التذكارية‏.‏

    الفصل الخامس‏:‏ الاستهزاء بالدين والاستهانة بحرماته‏.‏

    الفصل السادس‏:‏ الحكم بغير ما أنزل الله‏.‏

    الفصل السابع‏:‏ ادعاء حق التشريع والتحليل والتحريم‏.‏

    الفصل الثامن‏:‏ الانتماء إلى المذاهب الإلحادية، والأحزاب الجاهلية‏.‏

    الفصل التاسع‏:‏ النظرة المادية للحياة‏.‏

    الفصل العاشر‏:‏ التمائم والرقى‏.‏

    الفصل الحادي عشر‏:‏ الحلف بغير الله، والتوسل والاستعانة بالمخلوق دون الله‏.‏

    الفصل الأول‏:‏ ادِّعاء علم الغيب في قراءة الكف والفنجان وغيرهما
    المراد بالغيب
    ما غاب عن الناس من الأمور المستقبلة والماضية وما لا يرونه، وقد اختص الله تعالى بعلمه، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ‏}‏ ‏[‏النمل/65‏]‏‏.‏

    فلا يعلم الغيب إلا الله سبحانه، وحده، وقد يُطلع رسله على ما شاء من غيبه لحكمة ومصلحة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ‏}‏ ‏[‏الجن/26، 27‏]‏‏.‏

    أي‏:‏ لا يطلع على شيء من الغيب إلا من اصطفاه لرسالته، فيظهره على ما يشاء من الغيب؛ لأنه يُستدل على نبوته بالمعجزات؛ التي منها الإخبار عن الغيب؛ الذي يطلعه الله عليه، وهذا يعم الرسول الملكي والبشري، ولا يطلع غيرهما لدليل الحصر‏.‏ فمن ادّعى علم الغيب بأي وسيلة من الوسائل غير من استثناه الله من رسله، فهو كاذب كافر؛ سواء ادّعى ذلك بواسطة قراءة الكف أو الفنجان، أو الكهانة أو السحر أو التنجيم، أو غير ذلك، وهذا الذي يحصل من بعض المشعوذين والدجالين؛ من الإخبار عن مكان الأشياء المفقودة والأشياء الغائبة، وعن أسباب بعض الأمراض، فيقولون‏:‏ فلان عَمِلَ لكَ كذا وكذا فمرضتَ بسببه، وإنما هذا لاستخدام الجن والشياطين، ويظهرون للناس أن هذا يحصل لهم؛ عن طريق عمل هذه الأشياء من باب الخداع والتلبيس، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية ‏‏:‏ ‏(‏والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين، يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع، وكانوا يَخلطون الصِّدقَ بالكذب‏)‏ إلى أن قال‏:‏ ‏(‏ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة فواكه وحلوى، وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، ومنهم من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما‏)‏ انتهى‏.‏

    وقد يكون إخبارهم عن ذلك عن طريق التنجيم، وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، كأوقات هُبوب الرياح ومجيء المطر، وتغير الأسعار، وغير ذلك من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بسير الكواكب في مجاريها، واجتماعها وافتراقها‏.‏ ويقولون‏:‏ من تزوج بنجم كذا وكذا، حصل له كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا حصل له كذا، ومن وُلد بنجم كذا وكذا حصل له كذا؛ من السعود أو النحوس، كما يعلن في بعض المجلات الساقطة من الخزعبلات حول البروج؛ وما يجري فيها من الحظوظ‏.‏

    وقد يذهب بعضُ الجهال وضعاف الإيمان إلى هؤلاء المنجمين، فيسألهم عن مستقبل حياته، وما يجري عليه فيه، وعن زواجه وغير ذلك‏.‏

    ومن ادَّعى علم الغيب أو صدَّق من يدَّعيه، فهو مشركٌ كافر؛ لأنه يدَّعي مشاركة الله فيما هو من خصائصه، والنجوم مسخَّرة مخلوقة، ليس لها من الأمر شيء، ولا تدل على نحوس، ولا سعود، ولا موت، ولا حياة، وإنما هذا كله من أعمال الشياطين الذين يسترقون السمع‏.‏

    الفصل الثاني‏:‏ السحرُ والكهانةُ والعِرافة
    كل هذه الأمور أعمال شيطانية مُحرَّمة تخل بالعقيدة أو تناقضها؛ لأنها لا تحصل إلا بأمور شركية‏.‏

    1 ـ فالسحرُ عبارةٌ عما خفي ولَطُفَ سببُهُ
    سُمِّي سِحْرُا؛ لأنه يحصل بأمور خفية، لا تدرك بالأبصار، وهو‏:‏ عزائم ورقى، وكلام يتكلم به، وأدوية وتدخينات، وله حقيقة‏.‏ ومنه ما يؤثر في القلوب والأبدان فيُمرض ويقتُل ويفرق بين المرء وزوجه، وتأثيره بإذن الله الكوني القَدَريّ، وهو عمل شيطاني، وكثير منه لا يتوصل إليه إلا بالشرك والتقرب إلى الأرواح الخبيثة بما تحب، والتوصل إلىاستخدامها بالإشراك بها؛ ولهذا قرنهُ الشارع بالشرك، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اجتنبوا السبعَ الموبقات‏)‏ قالوا‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الإشراكُ بالله والسحر‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ ‏[‏رواه البخاري ومسلم‏]‏ الحديث‏.‏ فهو داخل في الشرك من ناحيتين‏:‏

    الناحية الأولى‏:‏ ما فيه من استخدام الشياطين، والتعلق بهم والتقرب إليهم بما يحبونه؛ ليقوموا بخدمة الساحر، فالسِّحرُ من تعليم الشياطين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة/102‏]‏‏.‏

    الثانية‏:‏ ما فيه من دعوى علم الغيب، ودعوى مشاركة الله في ذلك، وهذا كفر وضلال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ‏}‏ ‏[‏البقرة/102‏]‏، أي‏:‏ نصيبٌ‏.‏

    وإذا كان كذلك فلا شكَّ أنه كفر وشرك؛ يناقض العقيدة، ويجبُ قتل متعاطيه، كما قتله جماعة من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، وقد تساهل الناس في شأن الساحر والسِّحر، ورُبما عدوا ذلك فنًّا من الفنون؛ التي يفتخرون بها، ويمنحون أصحابها الجوائز والتشجيع، ويُقيمون النوادي والحفلات والمسابقات للسحرة، ويحضرها آلاف المتفرجين والمشجعين، أو يسمونه بالسرك، وهذا من الجهل بالدين والتهاون بشأن العقيدة، وتمكين للعابثين‏.‏

    2 ـ الكهانة والعرافة
    وهما ادعاء علم الغيب، ومعرفة الأمور الغائبة، كالأخبار بما سيقع في الأرض، وما سيحصل، وأين مكان الشيء المفقود؛ وذلك عن طريق استخدام الشياطين الذين يسترقون السمع من السماء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء/221، 223‏]‏‏.‏

    وذلك أن الشيطان يسترق الكلمة من كلام الملائكة، فيلقيها في أذن الكاهن، ويكذب الكاهن مع هذه الكلمة مائة كذبة، فيصدقه الناس بسبب تلك الكلمة، التي سُمعت من السماء، والله عز وجل هو المنفرد بعلم الغيب، فمن ادعى مشاركته في شيء من ذلك، بكهانة أو غيرها، أو صدق من يدعي ذلك؛ فقد جعل لله شريكًا فيما هو من خصائصه‏.‏ والكهانة لا تخلو من الشرك؛ لأنها تَقَرُّبٌ إلى الشياطين بما يحبون؛ فهي شرك في الربوبية من حيث ادعاء مشاركة الله في علمه، وشرك في الألوهية من حيث التقرب إلى غير الله بشيء من العبادة‏.‏

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم‏)‏ ‏[‏رواه أبو داود‏]‏‏.‏

    ومما يجب التنبيه عليه والتنبه له‏:‏ أن السحرة والكهان والعرافين، يعبثون بعقائد الناس بحيث يظهرون بمظهر الأطباء، فيأمرون المرضى بالذبح لغير الله؛ بأن يذبحوا خروفًا صفته كذا وكذا، أو دجاجة، أو يكتبون لهم الطلاسم الشركية، والتعاويذ الشيطانية بصفة حروز يعلقونها في رقابهم، أو يضعونها في صناديقهم، أو في بيوتهم‏.‏

    والبعض الآخر يظهر بمظهر المخبر عن المغيبات، وأماكن الأشياء المفقودة؛ بحيث يأتيه الجهال فيسألونه عن الأشياء الضائعة، فيخبرهم بها أو يحضرها لهم، بواسطة عملائه من الشياطين‏.‏ وبعضهم يظهر بمظهر الولي الذي له خوارق وكرامات أو بمظهر الفنان، كدخول النار ولا تؤثر فيه، وضرب نفسه بالسلاح، أو وضع نفسه تحت عجلات السيارة ولا تؤثر فيه، أو غير ذلك من الشعوذات التي هي في حقيقتها سحر من عمل الشيطان، يجري على أيدي هؤلاء للفتنة‏.‏ أو هي أمور تخيلية لا حقيقة لها؛ بل هي حيل خفية يتعاطونها أمام الأنظار، كعمل سحرة فرعون بالحبال والعصي‏.‏

    قال شيخ الإسلام في مناظرته للسحرة البطائحية الأحمدية الرفاعية ‏(‏قال‏:‏ يعني شيخ البطائحية‏)‏ ورفع صوته‏:‏ نحن لنا أحوال كذا وكذا، وادَّعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها‏)‏‏.‏ قال شيخ الإسلام‏:‏ ‏(‏فقلتُ ورفعتُ صوتي وغضبت‏:‏ أنا أُخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها‏:‏ أي شيء فعلوه في النار‏؟‏‏!‏ فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت‏:‏ فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك؛ فقلت‏:‏ لأن لهم حيلًا في الاتصال بالنار، يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع، وقشر النارنج، وحجر الطلق، فضج الناس بذلك؛ فأخذ يظهر القدرة على ذلك، فقال‏:‏ أنا وأنت نُلَفُّ في بارية بعد أن تُطلى جسومُنا بالكبريت‏.‏ فقلت‏:‏ فقُم، وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك، فمدَّ يده يظهر خلع القميص، فقُلتُ‏:‏ لا، حتى تغتسل بالماء الحار والخل؛ فأظهر الوهم على عادتهم فقال‏:‏ من كان يحبُّ الأمير فليحضر خشبًا - أو قال‏:‏ حزمة حطب - فقلتُ‏:‏ هذا تطويلٌ وتفريقٌ للجمع ولا يَحصلُ به مقصود؛ بل قندير يوقد وأُدخل أصبعي وأصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت أصبعه فعليه لعنة الله، أو قلت‏:‏ فهو مغلوب، فلمَّا قلتُ ذلك تغير وذل‏)‏ انتهى ‏.‏

    والمقصود منه بيان أن هؤلاء الدجالين يكذبون على الناس بمثل هذه الحيل الخفية، كجرهم السيارة بشعرة وإلقائه نفسه تحت عجلاتها وإدخال أصياخ الحديد في عينه، إلى غير ذلك من الشعوذات الشيطانية‏.‏

  3. افتراضي

    الفصل الثالث‏:‏ تقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها
    لقد سدّ النبي صلى الله عليه وسلم كل الطرق المفضية إلى الشرك، وحذّر منها غاية التحذير، ومن ذلك‏:‏ مسألة القبور، قد وضع الضوابط الواقية من عبادتها، والغلو في أصحابها، ومن ذلك‏:‏

    1ـ أنه قد حذّر صلى الله عليه وسلم من الغلو في الأولياء والصالحين؛ لأن ذلك يؤدِّي إلى عبادتهم، فقال‏:‏ ‏(‏إياكم والغُلُوَّ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغُلُوُّ‏)‏ ‏[‏رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏لا تُطروني كما أطرتِ النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا‏:‏ عبدُ الله ورسوله‏)‏ ‏[‏رواه البخاري‏]‏‏.‏

    2ـ وحذر صلى الله عليه وسلم من البناء على القبور، كما روى أبو الهياج الأسدي قال‏:‏ قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيته‏)‏ ‏[‏رواه مسلم‏]‏‏.‏

    3ـ ونهى عن تجصيصها والبناء عليها، عن جابر رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه بناء‏)‏ ‏[‏رواه مسلم‏]‏‏.‏

    4ـ وحذَّر صلى الله عليه وسلم من الصلاة عند القبور، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏(‏لما نُزِلَ برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك‏:‏ ‏(‏لعنةُ الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ يحذرُ ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يُتَّخذَ مسجدًا‏)‏ ‏[‏متفق عليه‏]‏‏.‏

    وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا وإنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏ ‏[‏رواه مسلم في صحيحه‏]‏‏.‏

    واتخاذُها مساجد معناهُ‏:‏ الصلاة عندها وإن لم يبن مسجد عليها؛ فكلُّ موضع قصد للصلاة فيه فقد اتُّخذَ مسجدًا، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا‏)‏ ‏[‏رواه البخاري‏]‏ فإذا بني عليها مسجد فالأمر أشد‏.‏

    وقد خالف أكثر الناس هذه النواهي، وارتكبوا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، فوقعوا بسبب ذلك في الشرك الأكبر؛ فبنوا على القبور مساجد وأضرحة ومقامات، وجعلوها مزارات تمارس عندها كل أنواع الشرك الأكبر، من الذبح لها، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، وصرف النذور لهم، وغير ذلك‏.‏

    قال العلامة ابن القيم رحمه الله‏:‏ ‏(‏ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم ‏‏، رأى أحدُهما مضادًا للآخر مناقضًا له؛ بحيث لا يجتمعان أبدًا؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد؛ مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السُّرُج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى عن أن تُتَّخذَ عيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر‏.‏

    وأمر بتسويتها، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال‏:‏ قال لي علي بنُ أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏ألا أبعثُكَ على ما بعثني على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ أن لاتدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيته‏)‏‏.‏ وفي صحيحه أيضًا عن ثُمامَة بن شُفيّ قال‏:‏ ‏(‏كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها‏)‏ ‏‏.‏

    وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب‏.‏

    إلى أن قال‏:‏ ‏(‏فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه‏؟‏‏!‏ ولا ريبَ أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره‏)‏‏.‏

    ثم أخذ يذكر تلك المفاسد، إلى أن قال‏:‏ ‏(‏ومنها‏:‏ أن الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له، والترحم عليه والاستغفار، وسؤال العافية له؛ فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وغلى الميت، فقلب هؤلاء المشركون الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة‏:‏ الشرك بالميت، ودعاءه والدعاء به، وسؤال حوائجهم، واستنزال البركات منه، ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك؛ فصاروا مسيئين إلى أنفسهم، وإلى الميت، ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه تعالى من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له‏)‏ انتهى .‏

    وبهذا يتضح أن تقديم النذور والقرابين للمزارات شرك أكبر؛ سببه مخالفة هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم في الحالة التي يجب أن تكون عليها القبور؛ من عدم البناء عليها وإقامة المساجد عليها؛ لأنها لما بنيت عليها القباب، وأقيمت حولها المساجد والمزارات، ظن الجهال أن المدفونين فيها ينفعون أو يضرون، وأنهم يُغيثون من استغاث بهم، ويقضون حوائج من التجأ إليهم، فقدموا لهم النذور والقرابين؛ حتى صارت أوثانًا تُعبدُ من دون الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد‏)‏ ‏[‏رواه مالك وأحمد‏]‏، وما دعا بهذا الدعاء إلا لأنه سيحصل شيء من ذلك، وقد حصل عند القبور في كثير من بلاد الإسلام، أما قبره فقد حماه الله ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد يحصل في مسجده شيء من المخالفات، من بعض الجهال أو الخرافيين، لكنهم لا يقدرون على الوصول إلى قبره؛ لأن قبره في بيته وليس في المسجد، وهو محوط بالجدران، كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله في نونيته‏:‏

    فأجاب ربُّ العالمين دعاءه ** وأحاطه بثلاثة الجدران

    الفصل الرابع‏:‏ في بيان حكم تعظيم التماثيل والنصب التذكارية
    التماثيل جمع تمثال، وهو الصورة المجسمة على شكل إنسان أو حيوان، أو غيرهما مما فيه روح، والنصب في الأصل‏:‏ العَلَمُ، وأحجار كان المشركون يذبحون عندها‏.‏ والنُّصُبُ التذكارية‏:‏ تماثيلٌ يُقيمونها في الميادين ونحوها؛ لإحياء ذكرى زعيم أو مُعظَّمٍ‏.‏

    ولقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من تصوير ذوات الأرواح، ولا سيما تصوير المعظَّمين من البشر كالعلماء والملوك والعُبَّاد والقادة والرؤساء، سواء كان هذا التصوير عن طريق رسم الصورة على لوحة أو ورقة، أو جدار أو ثوب، أو عن طريق الالتقاط بالالة الضوئية المعروفة في هذا الزمان، أو عن طريق النحت، وبناء الصورة على هيئة التمثال، ونهى صلى الله عليه وسلم عن تعليق الصور على الجدران ونحوها، وعن نصب التماثيل، ومنها‏:‏ النصب التذكارية؛ لأن ذلك وسيلة إلى الشرك؛ فإن أول شرك حدث في الأرض كان بسبب التصوير ونصب الصور، وذلك أنه كان في قوم نوح رجال صالحون، فلما ماتوا حزن عليهم قومهم، فأوحى إليهم الشيطان‏:‏ أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تُعبد؛ حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلمُ؛ عُبدت ‏[‏رواه البخاري‏]‏‏.‏ ولما بعثَ الله نبيه نُوحًا عليه السلام ينهى عن هذا الشرك الذي حصل بسبب تلك الصور التي نصبت، امتنع قومه من قبول دعوته، وأصروا على عبادة تلك الصور المنصوبة التي تحوّلت إلى أوثان‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ ‏[‏نوح/23‏]‏‏.‏

    وهذا أسماء الرجال الذين صورت لهم تلك الصور على أشكالهم؛ إحياء لذكرياتهم، وتعظيمًا لهم‏.‏

    فانظر ما آل إليه الأمر بسبب هذه الأنصاب التذكارية من الشرك بالله، ومعاندة رسله‏؟‏‏!‏ مما سبب إهلاكهم بالطوفان، ومقتهم عند الله وعند خلقه ‏‏، مما يدلك على خطورة التصوير ونصب الصور، ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم المصورين، وأخبر أنهم أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة، وأمر بطمس الصور، وأخبر أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة، كل ذلك من أجل مفاسدها، وشدة مخاطرها على الأمة في عقيدتها، فإنَّ أول شرك حدث في الأرض كان بسبب نصب الصُّور، وسواء كان هذا النصب للصور والتماثيل في المجالس، أو الميادين أو الحدائق؛ فإنه محرم شرعًا؛ لأنه وسيلة إلى الشرك، وفساد العقيدة‏.‏ وإذا كان الكفار اليومَ يعملون هذا العمل؛ لأنهم ليس لهم عقيدة يحافظون عليها؛ فإنه لا يجوز للمسلمين أن يتشبهوا بهم ويشاركوهم في هذا العمل؛ حفاظًا على عقيدتهم التي هي مصدر قوتهم وسعادتهم‏.‏ ولا يقال‏:‏ إن الناس تجاوزوا هذه المرحلة وعرفوا التوحيد والشرك؛ لأن الشيطان ينظر للجيل المستقبل حينما يظهر فيهم الجهل، كما عمل مع قوم نوح لما مات علماؤهم وفشا فيهم الجهل، ولأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، كما قال إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ‏}‏ فخاف على نفسه الفتنة، قال بعض السلف‏:‏ ‏(‏ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم‏؟‏‏)‏‏.‏

  4. افتراضي

    الفصل الخامس‏:‏ في بيان حكم الاستهزاء بالدين والاستهانة بحرماته
    الاستهزاء بالدين ردة عن الإسلام، وخروج عن الدين بالكلية، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة/65، 66‏]‏‏.‏

    هذه الآية‏:‏ تدل على أن الاستهزاء بالله كفر، وأن الاستهزاء بالرسول كفر، وأن الاستهزاء بآيات الله كفر، فمن استهزأ بواحد من هذه الأمور فهو مستهزئ بجميعها‏.‏ والذي حصل من هؤلاء المنافقين‏:‏ أنهم استهزءوا بالرسول وصحابته؛ فنزلت الآية‏.‏

    فالاستهزاء بهذه الأمور متلازم، فالذين يستخِفُّون بتوحيد الله تعالى، ويعظمون دعاءَ غيره من الأموات؛ وإذا أمروا بالتوحيد ونُهوا عن الشرك استخفُّوا بذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الفرقان/41، 42‏]‏‏.‏

    فاستهزءوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك، وما زال المشركون يعيبون الأنبياء ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون، إذا دعوهم إلى التوحيد؛ لما في أنفسهم من تعظيم الشرك‏.‏ وهكذا تجد من فيه شبه منهم؛ إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك؛ لما عنده من الشرك، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة/165‏]‏‏.‏

    فمن أحبَّ مخلوقًا مثل ما يُحبّ الله فهو مشرك‏.‏ ويجبُ الفرق بين الحب في الله، والحب مع الله، فهؤلاء الذين اتخذوا القبورَ أوثانًا؛ تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله وعبادته، ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء، ويَحلِفُ أحدُهم بالله اليمين الغموس كاذبًا، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذبًا، وكثير من طوائف متعددة ترى أحدهم يرى أن استغاثته بالشيخ - إما عند قبره أو غير قبره - أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عند السَّحَر‏!‏ ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد، وكثير منهم يخربون المساجد، ويعمرون المشاهد، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وبآياته ورسوله، وتعظيمهم للشرك ‏؟‏ وهذا كثير وقوعه في القبوريين اليوم‏.‏

    والاستهزاء على نوعين‏:‏

    أحدهما‏:‏ الاستهزاء الصريح، كالذي نزلت الآية فيه، وهو قولهم‏:‏ ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسُنًا، ولا أجبن عند اللقاء‏.‏ أو نحو ذلك من أقوال المستهزئين، كقول بعضهم‏:‏ دينكم هذا دينٌ خامس، وقول الآخر‏:‏ دينكم أخرق، وقول الآخر إذا رأى الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر‏:‏ جاءكم أهل الدِّين، من باب السُّخرية بهم، وما أشبه ذلك مما لا يُحصى إلا بكلفة؛ مما هو أعظم من قول الذين نزلت فيهم الآية‏.‏

    النوع الثاني‏:‏ غير الصريح، وهو البحر الذي لا ساحل له، مثل‏:‏ الرمز بالعين، وإخراج اللسان، ومدّ الشفعة، والغمز باليد عند تلاوة كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عند الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ‏‏.‏ ومثل هذا ما يقوله بعضهم‏:‏ إنَّ الإسلام لا يَصلُحُ للقرن العشرين؛ وإنما يصلح للقُرون الوسطى، وأنه تأخُّرٌ ورجعيةٌ، وأن فيه قسوة ووحشية؛ في عقوبات الحدود والتعازير، وأنه ظَلَم المرأة حقوقها؛ حيث أباح الطلاق، وتعدد الزوجات‏.‏ وقولهم‏:‏ الحكمُ بالقوانين الوضعية أحسنُ للناس من الحكم بالإسلام‏.‏ ويقولون في الذي يدعو إلى التوحيد، ويُنكر عبادة القبور والأضرحة‏:‏ هذا متطرف، أو يُريد أن يفرق جماعة المسلمين، أو‏:‏ هذا وهَّابي، أو مذهب خامس، وما أشبه هذه الأقوال التي كلها سب للدين وأهله، واستهزاء بالعقيدة الصحيحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏ ومن ذلك‏:‏ استهزاؤهم بمن تمسَّكَ بسنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم فيقولون‏:‏ الدين ليس في الشَّعرِ؛ استهزاءً بإعفاء اللحية، وما أشبه هذه الألفاظ الوقحة‏.‏

    الفصل السادس‏:‏ الحكم بغير ما أنزل الله
    من مقتضى الإيمان بالله تعالى وعبادته‏:‏ الخضوع لحكمه والرضا بشرعه، والرجوع إلى كتابه وسنة رسوله عند الاختلاف في الأقوال، وفي العقائد وفي الخصومات، وفي الدماء والأموال، وسائر الحقوق، فإنَّ الله هو الحكَمُ وإليه الحُكمُ، فيجبُ على الحكام أن يحكموا بما أنزل الله، ويجب على الرَّعيَّة أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله في كتابه، وسنة رسوله، قال تعالى في حق الولاة‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ‏}‏ ‏[‏النساء/58‏]‏‏.‏

    وقال في حق الرعية‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء/59‏]‏‏.‏

    ثم بيّن أنه لا يجتمع الإيمان مع التحاكم إلى غير ما أنزل الله، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء/60‏]‏، إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء/65‏]‏‏.‏

    فنفى سُبحانه - نفيًا مؤكَّدًا بالقسم - الإيمانَ عمن لم يتحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويرضى بحكمه ويسلم له، كما أنه حكم بكُفر الولاة الذين لا يحكمون بما أنزل الله، وبظلمهم وفسقهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة/44‏]‏، ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة/45‏]‏، ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة/47‏]‏‏.‏

    ولابُدَّ من الحكم بما أنزل الله، والتحاكُم إليه في جميع مواردِ النّزاع في الأقوال الاجتهادية بين العلماء، فلا يقبل منها إلا ما دلّ عليه الكتاب والسنة؛ من غير تعصب لمذهب، ولا تحيّز لإمام، وفي المرافعات والخصومات في سائر الحقوق؛ لا في الأحوال الشخصية فقط، كما في بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام؛ فإنَّ الإسلام كُلٌّ لا يتجزَّأ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً‏}‏ ‏[‏البقرة/208‏]‏‏.‏

    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏}‏ ‏[‏البقرة/85‏]‏‏.‏

    وكذلك يجب على أتباع المذاهب والمناهج المعاصرة أن يردوا أقوال أئمتهم إلى الكتاب والسنة، فما وافقهما أخذوا به، وما خالفهما ردوه دون تعصب أو تحيّز؛ ولا سيما في أمور العقيدة، فإن الأئمة - رحمهم الله - يوصون بذلك، وهذا مذهبهم جميعًا، فمن خالف ذلك فليس متبعًا لهم، وإن انتسب إليهم، وهو ممن قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏التوبة/31‏]‏‏.‏

    فليست الآية خاصة بالنصارى، بل تتناول كل من فعل مثل فعلهم، فمن خالف ما أمر الله به ورسوله؛ صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعًا لما يهواه ويريده؛ فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زَعمَ أنه مؤمن؛ فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك، وأكذبهم في زعمهم الإيمان؛ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا‏}‏ لما في ضمن قوله‏:‏ ‏(‏يزعمون‏)‏ من نفي إيمانهم، فإنَّ ‏(‏يزعمون‏)‏ إنما يقال غالبًا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب، لمخالفته لموجبها، وعمله بما ينافيها؛ يحقق هذا قوله‏:‏ ‏{‏وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ‏}‏؛ لأن الكُفر الطاغوت ركن التوحيد، كما في آية البقرة ‏‏، فإذا لم يَحصُلْ هذا الركن؛ لم يكن مُوحِّدًا، والتوحيدُ هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال، وتفسد بعدمه، كما أن ذلك بيِّنٌ في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ‏}‏ وذلك أنَّ التَّحاكُمَ إلى الطَّاغوتِ إيمانٌ به ‏‏.‏

    ونَفيُ الإيمان عمن لم يحكم بما أنزل الله، يدلُّ على أن تحكيم شرع الله إيمان وعقيدة، وعبادة لله يجب أن يدين بها المسلم، فلا يُحكَّمُ شرعُ الله من أجل أن تحكيمه أصلح للناس وأضبط للأمن فقط، فإنَّ بعضَ الناس يركز على هذا الجانب، وينسى الجانب الأول، والله سبحانه قد عاب على من يُحكِّمُ شرع الله لأجل مصلحة نفسه، من دُون تعبُّدٍ لله تعالى بذلك، فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ‏}‏ ‏[‏النور/48، 49‏]‏‏.‏

    فهم لا يهتمون إلا بما يهوون، وما خالف هواهم أعرضوا عنه؛ لأنهم لا يتعبدون لله بالتحاكم إلى رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

    حكم من حكم بغير ما أنزل الله
    قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة/44‏]‏‏.‏

    في هذه الآية الكريمة‏:‏ أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله كفر، وهذا الكفر تارةً يكون كفرًا أكبر ينقل عن الملة، وتارة يكون كفرًا أصغر لا يُخرج من الملة، وذلك بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد أنَّ الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخيَّر فيه، أو استهان بحكم الله، واعتقد أن غيره من القوانين والنظم الوضعية أحسن منه أو مساويًا له، أو أنه لا يصلح لهذا الزمان، أو أراد بالحكم بغير ما أنزل الله استرضاءَ الكفار والمنافقين، فهذا كفر أكبر‏.‏ وإن اعتقد وجوبَ الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص، ويُسمَّى كافرًا كفرًا أصغر‏.‏ وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده، واستفراغ وسعه في معرفة الحكم، وأخطأه، فهذا مُخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور ‏‏.‏ وهذا في الحكم في القضية الخاصة‏.‏

    وأما الحكم في القضايا العامة فإنه يختلف، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ‏:‏ ‏(‏فإنَّ الحاكم إذا كان ديِّنًا؛ لكنَّهُ حكم بغير علم؛ كان من أهل النار، وإن كان عالمًا لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه؛ كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم أولى أن يكون من أهل النار‏.‏ وهذا إذا حكم في قضية لشخص‏.‏

    وأما إذا حكم حُكمًا عامًّا في دين المسلمين؛ فجعل الحق باطلًا، والباطل حقًّا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، ونهى عما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهى الله عنه ورسوله، فهذا لون آخر يَحكُم فيه رب العالمين، وإله المرسلين، مالك يوم الدين؛ الذي له الحمد في الأولى والآخرة‏:‏ ‏{‏لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏القصص/88‏]‏‏.‏

    ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏الفتح/28‏]‏‏)‏‏.‏

    وقال أيضًا‏:‏ ‏(‏لا ريبَ أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلًا من غير اتباع لما أنزل الله؛ فهو كافر، فإنّهُ ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام؛ يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله، كسواليف البادية ‏(‏أي عادات من سلفهم‏)‏، وكانوا الأمراءَ المطاعين، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر، فإن كثيرًا من الناس أسلموا؛ ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية؛ التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله، فلم يلتزموا ذلك، بل استَحَلّوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم ‏ كفار‏)‏ انتهى‏.‏

    وقال الشيخ محمد بن إبراهيم‏:‏ ‏(‏وأما الذي قيل فيه أنه كفر دون كفر، إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاصٍ، وأنَّ حكم الله هو الحق، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها‏.‏ أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع، فهو كُفرٌ، وإن قالوا‏:‏ أخطأنا وحكمُ الشرع أعدل؛ فهذا كفر ناقل عن الملة‏)‏ ‏‏.‏

    ففرَّقَ رحمه الله بينَ الحكم الجزئي الذي لا يتكرر، وبين الحكم العام الذي هو المرجع في جميع الأحكام، أو غالبها، وقرر أن هذا الكفر ناقل عن الملة مطلقًا؛ وذلك لأن من نحى الشريعة الإسلامية، وجعل القانون الوضعي بديلًا منها؛ فهذا دليل على أنه يرى أن القانون أحسن وأصلح من الشريعة، وهذا لا شك أنه كفر أكبر يُخرجُ من الملَّة ويُناقضُ التوحيد‏.‏

    الفصل السابع‏:‏ ادعاء حق التشريع والتحليل والتحريم
    تشريع الأحكام التي يسير عليها العباد في عباداتهم ومعاملاتهم وسائر شئونهم، والتي تفصل النزاع بينهم وتُنهي الخصومات، حق لله تعالى رب الناس، وخالق الخلق‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف/54‏]‏‏.‏

    وهو الذي يعلم ما يصلح عباده، فيشرعه لهم، فبحكم ربوبيته لهم يشرِّعُ لهم، وبحكم عبوديتهم له يتقبلون أحكامه، والمصلحةُ في ذلك عائدة إليهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء/59‏]‏‏.‏

    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي‏}‏ ‏[‏الشورى/10‏]‏‏.‏

    واستنكر سبحنه أن يتخذَ العباد مُشرِّعًا غيره فقال‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى/21‏]‏‏.‏

    فمن قبل تشريعًا غير تشريع الله؛ فقد أشرك بالله تعالى، وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات؛ فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد‏)‏ ‏[‏الحديث رواه البخاري ومسلم‏]‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏ ‏[‏رواه مسلم‏]‏ وما لم يشرعه الله ولا رسوله في السياسة والحكم بين الناس، فهو حكم الطاغوت، وحكم الجاهلية‏:‏ ‏{‏أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة/50‏]‏‏.‏

    وكذلك التحليل والتحريم، حق لله تعالى، لا يجوز لأحدٍ أن يُشاركه فيه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام/121‏]‏‏.‏

    فجعل سبحانه طاعة الشياطين وأوليائهم في تحليل ما حرّم الله‏:‏ شركًا به سبحانه، وكذلك من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أربابًا من دون الله؛ لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة/31‏]‏‏.‏

    وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية على عَديّ بن حاتم الطائي - رضي الله عنه - فقال‏:‏ يا رسول الله، لسنا نعبُدُهم، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أليسَ يُحلّون لكم ما حرَّم الله فتُحلّونه، ويحرمون ما أحلّ الله فتحرمونه‏؟‏‏!‏‏)‏ قال‏:‏ بلى، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فتلكَ عبادتُهم‏)‏ ‏[‏رواه الترمذي وابن جرير وغيرهما‏]‏‏.‏

    فصارت طاعتُهم في التحليل والتحريم من دون الله عبادة لهم وشركًا، وهو شركٌ أكبرُ يُنافي التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله ‏‏، فإنّ مِنْ مدلولهما‏:‏ أنَّ التحليل والتحريم حقٌّ لله تعالى، وإذا كان هذا فيمن أطاع العلماء والعُبَّاد في التحليل والتحريم الذي يخالف شرع الله وهو يعلم هذه المخالفة، مع أنهم أقرب إلى العلم والدين، وقد يكونُ خطؤهم عن اجتهاد لم يصيبوا فيه الحق، وهم مأجورون عليه، فكيفَ بمن يُطيعُ أحكام القوانين الوضعية التي هي من صنع الكفار والملحدين، يجلبها إلى بلاد المسلمين، ويحكم بها بينهم‏؟‏ فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

    إنَّ هذا قد اتخذ الكفار أربابًا من دون الله، يُشرِّعونَ له الأحكام، ويبيحونَ له الحرام، ويحكمون بين الأنام‏.‏

  5. افتراضي

    الفصل الثامن‏:‏ حكم الانتماء إلى المذاهب الإلحادية والأحزاب الجاهلية
    1ـ الانتماء إلى المذاهب الإلحادية كالشيوعية، والعلمانية، والرأسمالية، وغيرها من مذاهب الكفر، ردّة عن دين الإسلام، فإنْ كانَ المنتمي إلى تلك المذاهب يدّعي الإسلام، فهذا من النفاق الأكبر، فإن المنافقين ينتمون إلى الإسلام في الظاهر، وهم مع الكفار في الباطن، كما قال تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة/14‏]‏‏.‏

    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏النساء/141‏]‏‏.‏

    فهؤلاء المنافقون المخادعون؛ لكل منهم وجهان‏:‏ وجهٌ يلقى به المؤمنين، ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين، وله لسانان‏:‏ أحدُهما يقبله بظاهره المسلمون، والآخر يُترجم عن سِرّه المكنون‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ‏}‏‏.‏

    قد أعرضوا عن الكتاب والسنة؛ استهزاءً بأهلهما واستحقارً، وأبوَا أن ينقادوا لحكم الوحيين، فرحًا بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثار منه إلا أشرًا واستكبارًا، فتراهم أبدًا بالمتمسكين بصريح الوحي يستهزئون‏:‏ ‏{‏اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏‏‏.‏

    وقد أمرَ الله بالانتماء إلى المؤمنين‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة/119‏]‏‏.‏

    وهذه المذاهب الإلحادية مذاهبُ متناحرة؛ لأنها مؤسسة على الباطل، فالشيوعية تنكر وجود الخالق - سبحانه وتعالى - وتحارب الأديان السماوية، ومن يرضى لعقله أن يعيش بلا عقيدة، وينكر البدهيات العقلية اليقينية؛ فيكون مُلغيًا لعقله‏؟‏ والعلمانية تنكر الأديان، وتعتمدُ على المادية التي لا موجِّه لها، ولا غاية لها في هذه الحياة إلا الحياة البهيمية‏؟‏ والرأسماليةُ همها جمع المال من أي وجه ولا تتقيد بحلال ولا حرام، ولا عطف ولا شفقة على الفقراء والمساكين، وقوام اقتصادها على الرِّبا الذي هو محاربة لله ولرسوله؛ والذي هو دمارُ الدول والأفراد، وامتصاصُ دماء الشعوب الفقيرة، وأي عاقل - فضلًا عمن فيه ذرة من إيمان - يرضى أن يعيش على هذه المذاهب، بلا عقل ولا دين، ولا غاية صحيحة من حياته يهدف إليها، ويُناضل من أجلها وإنما غزت هذه المذاهبُ بلاد المسلمين؛ لمَّا غاب عن أكثريتها الدين الصحيح، وتربت على الضياع وعاشت على التبعية‏.‏

    2ـ والانتماء للأحزاب الجاهلية، والقوميات العنصرية، هو الآخر كُفرٌ وردَّة عن دين الإسلام؛ لأنَّ الإسلام يرفُضُ العصبيات، والنعرات الجاهلية، يقول تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات/13‏]‏‏.‏

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من غضب لعصبية‏)‏ ‏[‏رواه الترمذي وغيره‏]‏‏.‏

    وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية، وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى‏)‏ ‏[‏رواه مسلم‏]‏‏.‏

    وهذه الحزبيات تفرق المسلمين، والله قد أمر بالاجتماع والتعاون على البر والتقوى، ونهى عن التفرق والاختلاف، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا‏}‏ ‏[‏آل عمران/103‏]‏‏.‏

    إن الله سبحانه يريد منا أن نكون مع حزب واحد، هُم حزبُ الله المفلحون؛ ولكن العالم الإسلامي أصبح بعدما غزته أوروبا سياسيًّا، وثقافيًّا، يخضع لهذه العصبيات الدموية، والجنسية والوطنية، ويؤمن بها كقضية علمية وحقيقية مقررة، وواقع لا مفرَّ منه، وأصبحت شعوبه تندفع اندفاعًا غريبًا إلى إحياء هذه العصبيات التي أماتها الإسلام، والتغني بها وإحياء شعائرها، والافتخار بعهدها الذي تقدم على الإسلام، وهو الذي يُلحُّ الإسلام على تسميته بالجاهلية، وقد مَنَّ الله على المسلمين بالخروج عنها، وحثهم على شكر هذه النعمة‏.‏

    والطبيعي من المؤمن أن لا يذكر جاهليةً تقادمَ عهدُها أو قارب؛ إلا بمقت وكراهية وامتعاض واقشعرار، وهو يذكر السجين المعذب الذي يطلق سراحه أيام اعتقاله وتعذيبه وامتهانه؛ إلا وَعرتهُ قشعريرة‏؟‏ وهل يذكُرُ البريء من عِلَّة شديدة طويلة أشرَفَ منها على الموت أيامَ سُقمه، إلا وانكسف بالُهُ وانتقع لونه ؟‏ والواجبُ أن يُعلمَ أنَّ هذه الحزبيات عذاب؛ بعثه الله على من أعرض عن شرعه، وتنكر لدينه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام/65‏]‏‏.‏

    وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم‏)‏ ‏[‏من حديث رواه ابن ماجه‏]‏‏.‏

    إنَّ التعصب للحزبيات، يسبب رفض الحق الذي مع الآخرين، كحال اليهود الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة/91‏]‏‏.‏

    وكحال أهل الجاهلية، الذين رفضوا الحق الذي جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم تعصبًا لما عليه آباؤهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا‏}‏ ‏[‏البقرة/170‏]‏‏.‏

    ويريد أصحاب هذه الحزبيات أن يجعلوها بديلة عن الإسلام الذي مَنَّ الله به على البشرية‏.‏

    الفصل التاسع‏:‏ النظرية المادية للحياة ومفاسد هذه النظرية
    هناك نظرتان للحياة، نظرة مادّيّة للحياة، ونظرة صحيحة، ولكل من النظرتين آثارها‏:‏

    أ ـ فالنظرة الماديّة للحياة معناها
    أن يكون تفكير الإنسان مقصورًا على تحصيل ملذاته العاجلة، ويكون عمله محصورًا في نطاق ذلك، فلا يتجاوز تفكيره ما وراء ذلك من العواقب، ولا يعمل له، ولا يهتم بشأنه، ولا يعلم أن الله جعل هذه الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، فجعل الدُّنيا دارَ عمل، وجعل الآخرة دار جزاء، فمن استغل دنياه بالعمل الصالح ربحَ الدارين، ومن ضيّع دنياه ضاعت آخرته‏:‏ ‏{‏خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏الحج/11‏]‏‏.‏

    فالله لم يخلق هذه الدنيا عبثًا بل خلقها لحكمة عظيمة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏الملك/2‏]‏‏.‏

    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏الكهف/7‏]‏‏.‏

    أوجد سبحانه في هذه الحياة من المتع العاجلة، والزينة الظاهرة من الأموال والأولاد، والجاه والسلطان، وسائر المستلذات، ما لا يعلمه إلا الله‏.‏

    فمن الناس - وهم الأكثر - من قَصَر نظرهُ على ظاهرها ومفاتنها، ومتَّع نفسَهُ بها، ولم يتأمل في سرها، فانشغل بتحصيلها وجمعها والتمتع بها عن العمل لما بعدها؛ بل ربما أنكر أن يكون هناك حياة غيرها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام/29‏]‏‏.‏

    وقد توعد الله تعالى مَنْ هذه نظرتُهُ للحياة؛ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏يونس/7، 8‏]‏‏.‏

    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏هود/15، 16‏]‏‏.‏

    وهذا الوعيد يشمل أصحابَ هذه النظرة؛ سواء كانوا من الذين يعملون عمل الآخرة؛ يريدون به الحياة الدنيا، كالمنافقين والمرائين بأعمالهم، أو كانوا من الكُفَّارِ الذين لا يؤمنون ببعث ولا حساب، كحال أهل الجاهلية والمذاهب الهدامة من رأسمالية وشيوعية، وعلمانية إلحادية، وأولئك لم يعرفوا من رأسمالية وشيوعية، وعلمانية إلحادية، وأولئك لم يعرفوا قدرَ الحياة، ولا تعدو نظرتهم لها أن تكون كنظرة البهائم، بل هم أضل سبيلًا؛ لأنهم ألغَوا عقولهم، وسخروا طاقاتهم، وضيعوا أوقاتهم فيما لا يبقى لهم، ولا يبقون له، ولم يعملوا لمصيرهم الذي ينتظرهم ولابُدَّ لهم منه‏.‏

    والبهائم ليس لها مصيرٌ ينتظرها، وليس لها عقول تفكر بها، بخلاف أولئك، ولهذا يقول تعالى فيها‏:‏ ‏{‏أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الفرقان/44‏]‏‏.‏

    وقد وصف الله أهل هذه النظرة بعدم العلم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ‏}‏ ‏[‏الروم/6، 7‏]‏‏.‏

    فهم وإن كانوا أهل خبرة في المخترعات والصناعات؛ فهم جُهَّالٌ لا يستحقون أن يُوصَفوا بالعلم؛ لأن علمهم لم يتجاوز ظاهر الحياة الدنيا، وهذا علم ناقص لا يستحق أصحابه أن يطلق عليهم هذا الوصف الشريف، فيقال‏:‏ العلماء، وإنما يطلق هذا على أهل معرفة الله وخشيته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ‏}‏ ‏[‏فاطر/28‏]‏‏.‏

    ومن النظرة المادية للحياة الدنيا‏:‏ ما ذكره الله في قصة قارون، وما آتاه الله من الكنوز‏:‏ ‏{‏فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏القصص/79‏]‏‏.‏

    فتمنَّوا مثله وغبطوه، ووصفوه بالحظ العظيم؛ بناءً على نظرتهم المادية، وهذا كما هو الحال الآن في الدول الكافرة، وما عندها من تقدّم صناعي واقتصادي، فإنَّ ضعافَ الإيمان من المسلمين ينظرون إليهم نظرة إعجاب دون نظر إلى ما هم عليه من الكفر، وما ينتظرهم من سوء المصير، فتبعثهم هذه النظرة الخاطئة إلى تعظيم الكفار واحترامهم في نفوسهم، والتشبه بهم في أخلاقهم وعاداتهم السيئة، ولم يقلدوهم في الجد وإعداد القوة والشيء النافع من المخترعات والصناعات، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال/60‏]‏‏.‏

    ب ـ النظرة الثانية للحياة‏:‏ النظرة الصحيحة
    وهي‏:‏ أن يعتبر الإنسان ما في هذه الحياة من مال وسلطان وقوى مادية‏:‏ وسيلةً يُستعان بها لعمل الآخرة‏.‏

    فالدنيا في الحقيقة لا تُذمُّ لذاتها، وإنما يتوجه المدح والذّمّ إلى فعل العبد فيها، فهي قنطرة ومعبر للآخرة، ومنها زادُ الجنة، وخيرُ عيش ينالُه أهل الجنة إنَّما حصل لهم بما زرعوه في الدنيا‏.‏

    فهي دار الجهاد، والصلاة والصيام، والإنفاق في سبيل الله، ومضمار التسابق إلى الخيرات‏.‏

    يقول الله تعالى لأهل الجنة‏:‏ ‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ‏}‏ ‏[‏الحاقة/24‏]‏ يعني‏:‏ الدنيا‏.‏

    الفصل العاشر‏:‏ في الرقى والتمائم
    أ ـ الرقى
    جمع رُقية، وهي‏:‏ العُوذَةُ التي يُرقى بها صاحبُ الآفة كالحمَّى والصَّرع، وغير ذلك من الآفات، ويُسمونها العزائم، وهي على نوعين‏:‏

    النوع الأول‏:‏ ما كان خاليًا من الشِّرك، بأن يُقرأ على المريض شيء من القرآن، أو يُعَوَّذ بأسماء الله وصفاته؛ فهذا مُباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رَقى وأمر بالرُّقية وأجازها، فعن عوف بن مالك قال‏:‏ كنا نرقي في الجاهلية فقلنا‏:‏ يا رسول الله، كيف ترى في ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏اعرِضوا عليَّ رُقاكُم، لا بأسَ بالرقى ما لم تكن شركًا‏)‏ ‏[‏رواه مسلم‏]‏‏.‏

    قال السيوطي‏:‏ وقد أجمعَ العلماء على جواز الرقى، عند اجتماع ثلاثة شروط‏:‏ أن تكون بكلام الله، أو بأسماء الله وصفاته، وأن تكون باللسان العربي، وما يُعرفُ معناه، وأن يُعتقَدَ أن الرقية لا تؤثر بذاتها؛ بل بتقدير الله تعالى ‏، وكيفيتها‏:‏ أن يُقرأ وينفثَ على المريض، أو يقرأ في ماءٍ ويُسقاهُ المريض، كما جاء في حديث ثابت بن قيس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ تُرابًا من بُطحان، فجعله في قدحٍ، ثم نفثَ عليه بماءٍ وصبَّه عليه‏)‏ ‏[‏رواه أبو داود‏]‏‏.‏

    النوع الثاني‏:‏ ما لم يخلُ من الشّرك‏:‏ وهي الرقى التي يُستعانُ فيها بغير الله، من دعاء غير الله والاستغاثة والاستعاذة به، كالرقى بأسماء الجن، أو بأسماء الملائكة والأنبياء والصالحين؛ فهذا دعاء لغير الله، وهُوَ شركٌ أكبر‏.‏ أو يكون بغير اللسان العربي، أو بما لا يُعرف معناه؛ لأنه يُخشى أن يدخلها كفر أو شرك ولا يُعلمُ عنه؛ فهذا النوع من الرقية ممنوع‏.‏

    2 ـ التمائم
    وهي جمع تميمية، وهي‏:‏ ما يعلق بأعناق الصبيان؛ لدفع العين، وقد يعلق على الكبار من الرجال والنساء، وهو على نوعين‏:‏

    النوع الأول من التمائم
    ما كان من القرآن؛ بأن يكتب آيات من القرآن، أو من أسماء الله وصفاته، ويعلقها للاستشفاء بها؛ فهذا النوع قد اختلف فيه العلماءُ في حكم تعليقه على قولين‏:‏

    القول الأول‏:‏ الجوازُ‏:‏ وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو ظاهرُ ما رُوي عن عائشة، وبه قال أبو جعفر الباقر، وأحمد بن حنبل في رواية عنه، وحملوا الحديث الوارد في المنع من تعليق التمائم، على التمائم التي فيها شرك‏.‏

    القول الثاني‏:‏ المنع من ذلك، وهو قول ابن مسعود وابن عباس، وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر، وابن عكيم، وبه قال جماعة من التابعين، منهم‏:‏ أصحابُ ابن مسعود، وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بما رواهُ ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الرقى والتمائم والتولة شرك‏)‏ ‏[‏رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم‏]‏‏.‏

    والتولة‏:‏ شيء يصنعونه، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته‏.‏

    وهذا هو الصحيح؛ لوجوه ثلاثة‏:‏

    الأول‏:‏ عموم النهي ولا مخصص للعموم‏.‏

    الثاني‏:‏ سدّ الذريعة فإنَّها تفضي إلى تعليق ما ليس مباحًا‏.‏

    الثالث‏:‏ أنه إذا علق شيئًا من القرآن، فقد يمتهنه المعلِّق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك ‏‏.‏

    النوع الثاني من التمائم
    التي تعلق على الأشخاص ما كان من غير القرآن، كالخرز والعظام والودع والخيوط والنعال والمسامير، وأسماء الشياطين والجن والطلاسم، فهذا محرّم قطعًا، وهو من الشرك؛ لأنه تعلق على غير الله سبحانه وأسمائه وصفاته وآياته، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من تعلّق شيئًا وُكّل إليه‏)‏ ‏[‏رواه أحمد والترمذي‏]‏ أي‏:‏ وكّله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلَّقه، فمن تعلّق بالله، والتجأ إليه، وفوّض أمره إليه؛ كفاه، وقرّب إليه كل بعيد، ويسّر له كلّ عسير‏.‏ ومن تعلّق بغيره من المخلوقين والتمائم والأدوية والقبور؛ وكله الله إلى ذلك الذي لا يغني عنه شيئًا، ولا يملك له ضرًّا ولا نفعًا، فخسر عقيدته وانقطعت صلته بربه وخذله الله‏.‏

    والواجب على المسلم‏:‏ المحافظة على عقيدته مما يُفسدها أو يُخلّ بها، فلا يتعاطى ما لا يجوز من الأدوية، ولا يذهب إلى المخرفين والمشعوذين ليتعالج عندهم من الأمراض؛ لأنهم يُمرضون قلبه وعقيدته، ومن توكّل على الله كفاه‏.‏

    وبعض الناس يعلّق هذه الأشياء على نفسه، وهو ليس فيه مرض حسّي، وإنما فيه مرض وهمي، وهو الخوف من العين والحسد، أو يعلقها على سيارته أو دابّته أو باب بيته أو دكانه‏.‏ وهذا كله من ضعف العقيدة، وضعف توكله على الله، وإنَّ ضعف العقيدة هو المرض الحقيقي الذي يَجبُ علاجه بمعرفة التوحيد والعقيدة الصحيحة‏.‏

  6. افتراضي

    الفصل الحادي عشر‏:‏ في بيان حكم الحلف بغير الله والتوسل والاستغاثة والاستعانة بالمخلوق
    أ ـ الحلف بغير الله
    الحلف‏:‏ هو اليمين، وهي‏:‏ توكيد الحكم بذكر مُعَظَّم على وجه الخصوص‏.‏ والتعظيم‏:‏ حق لله تعالى، فلا يجوز الحلف بغيره، فقد أجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله، أو بأسمائه وصفاته، وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره ‏، والحلف بغير الله شرك؛ لما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك‏)‏ ‏[‏رواه أحمد والترمذي والحاكم‏]‏ وهو شرك أصغر، إلا إذا كان المحلوف به معظَّمًا عند الحالف إلى درجة عبادته له فهذا شرك أكبر، كما هو الحال اليومَ عند عُبَّاد القبور، فإنَّهم يخافون مَنْ يعظمون من أصحاب القبور، أكثر من خوفهم من الله وتعظيمه، بحيث إذا طُلب من أحدهم أن يحلف بالولي الذي يعظمه؛ لم يحلف به إلا إذا كان صادقًا، وإذا طلب منه أن يحلف بالله؛ حلف به وإن كان كاذبًا‏.‏

    فالحلف تعظيم للمحلوف به لا يليق إلا بالله، ويجب توقير اليمين؛ فلا يكثر منها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ‏}‏ ‏[‏القلم/10‏]‏‏.‏

    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة/89‏]‏‏.‏

    أي‏:‏ لا تحلفوا إلا عند الحاجة، وفي حالة الصدق والبر؛ لأن كثرة الحلف أو الكذب فيها يدلان على الاستخفاف بالله، وعدم التعظيم له، وهذا ينافي كمال التوحيد، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ثلاثةٌ لا يُكلّمهم الله ولا يُزكّيهم، ولهم عذاب أليم‏)‏ وجاء فيه‏:‏ ‏(‏ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه‏)‏ ‏[‏رواه الطبراني بسند صحيح‏]‏‏.‏ فقد شدَّد الوعيد على كثرة الحلف، مما يدلّ على تحريمه احترامًا لاسم الله تعالى، وتعظيمًا له سبحانه‏.‏

    وكذلك يحرم الحلفُ بالله كاذبًا وهي‏:‏ اليمين الغَموسُ ‏‏، وقد وصفَ الله المنافقين بأنهم يحلفون على الكذب وهم يعلمون‏.‏

    فتلخص من ذلك‏:‏

    1- تحريم الحلف بغير الله تعالى، كالحلف بالأمانة أو الكعبة أو النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك شرك‏.‏

    2- تحريم الحلف بالله كاذبًا متعمّدًا، وهي الغموس‏.‏

    3- تحريم كثرة الحلف بالله - ولو كان صادقًا - إذا لم تدعُ إليه حاجة؛ لأنَّ هذا استخفاف بالله سبحانه‏.‏

    4- جواز الحلفِ بالله إذا كان صادقًا، وعند الحاجة‏.‏

    ب ـ التوسل بالمخلوق إلى الله تعالى
    التّوسّل‏:‏ هو التقرب إلى الشيء والتوصل إليه، والوسيلة‏:‏ القربة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ‏}‏ ‏[‏المائدة/35‏]‏‏.‏

    أي القربة إليه سبحانه بطاعته، واتباع مرضاته‏.‏

    والتوسل قسمان

    القسم الأول‏:‏ توسل مشروع، وهو أنواع
    1ـ النوع الأول‏:‏ التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته
    كما أمرَ الله تعالى بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف/180‏]‏‏.‏

    2ـ النوع الثاني‏:‏ التوسل إلى الله تعالى بالإيمان والأعمال الصالحة
    التي قام بها المتوسل، كما قال تعالى عن أهل الإيمان‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران/193‏]‏‏.‏

    وكما في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فسدت عليهم باب الغار، فلم يستطيعوا الخروج، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم؛ ففرج الله عنهم ‏[‏هذا مضمون الحديث وهو متفق عليه‏]‏ فخرجوا يمشون‏.‏

    3ـ النوع الثالث‏:‏ التوسل إلى الله تعالى بتوحيده
    كما توسل يونس عليه السلام‏:‏ ‏{‏فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء/87‏]‏‏.‏

    4ـ النوع الرابع‏:‏ التّوسُّلُ إلى الله تعالى بإظهار الضَّعف
    والحاجة والافتقار إلى الله، كما قال أيوب عليه السلام‏:‏ ‏{‏أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء/83‏]‏‏.‏

    5ـ النوع الخامس‏:‏ التوسل إلى الله بدعاء الصالحين الأحياء
    كما كان الصحابة إذا أجدبوا طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم، ولما تُوفي صاروا يطلبون من عمه العباس - رضي الله عنه - فيدعو لهم ‏[‏رواه البخاري‏]‏‏.‏

    6ـ النوع السادس‏:‏ التّوسُّلُ إلى الله بالاعتراف بالذنب
    ‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي‏}‏ ‏[‏القصص/16‏]‏‏.‏

    القسم الثاني‏:‏ توسل غير مشروع
    وهو التوسل بما عدا الأنواع المذكورة في التوسل المشروع، كالتوسل بطلب الدعاء والشفاعة من الأموات، والتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، والتوسل بذات المخلوقين أو حقهم، وتفصيل ذلك كما يلي‏:‏

    1ـ طلب الدعاء من الأموات لا يجوز
    لأن الميت لا يقدر على الدعاء، كما كان يقدر عليه في الحياة، وطلب الشفاعة من الأموات لا يجوز؛ لأن عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -، ومن بحضرتهما من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، لمَّا أجدبوا استسقروا وتوسَّلوا استشفعوا بمن كان حيًّا، كالعباس وكيزيد بن الأسود، ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لا عند قبره ولا عند غيره، بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد، وقد قال عمر‏:‏ ‏(‏اللهم إنّا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنَّا نتوسل بعمّ نبيّنا فاسْقِنا‏)‏ فجعلوا هذا بدلًا من ذلك، لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه‏.‏

    وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به ‏، يعني‏:‏ لو كان جائزًا‏.‏ فتركُهم لذلك دليلٌ على عدم جواز التوسل بالأموات، لا لطلب الدعاء والشفاعة منهم وهم أموات، فول كان طلب الدعاء منه والاستشفاع به حيًّا وميّتًا سوءا؛ لم يعدلوا عنه إلى غيره ممن هو دونه‏.‏

    2ـ والتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بجاه غيره لا يجوز
    والحديث الذي فيه‏:‏ ‏(‏إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم‏)‏ حديث مكذوب، ليس في شيء من كتب المسلمين التي يُعتمد عليها، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث ‏‏، وما دامَ لا يصح فيه دليل، فهو لا يجوزُ؛ لأن العبادات لا تثبت إلا بدليل صريح‏.‏

    3ـ والتوسل بذوات المخلوقين لا يجوز
    لأنه إن كانت الباء للقسم، فهو إقسام به على الله تعالى، وإذا كان الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز، وهو شرك كما في الحديث؛ فكيف بالإقسام بالمخلوق على الخالق جل وعلا‏؟‏‏!‏

    وإن كانت الباء للسببية فالله سبحانه لم يجعل السؤال بالمخلوق سببًا للإجابة، ولم يشرعه لعباده‏.‏

    4ـ والتوسل بحق المخلوق لا يجوز لأمرين
    الأول‏:‏ أن الله سبحانه لا يجب عليه حقّ لأحد، وإنَّما هو الذي يتفضّل سبحانه على المخلوق بذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الروم/47‏]‏‏.‏

    فكون المطيع يستحق الجزاء، هو استحقاق فضل وإنعام، وليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق‏.‏

    الثاني‏:‏ أن هذا الحق الذي تفضل الله به على عبده هو حقٌّ خاص به، لا علاقة لغيره به، فإذا توسل به غير مستحقه كان متوسلًا بأمر أجنبي، لا علاقة له به، وهذا لا يجديه شيئًا‏.‏

    وأما الحديث الذي فيه‏:‏ ‏"‏أسألك بحق السائلين‏"‏ فهو حديث لم يثبت؛ لأن في إسناده عطية العوفي، وهو ضعيف مجمع على ضعفه، كما قال بعض المحدثين، وما كان كذلك، فإنه لا يُحتج به في هذه المسألة المهمة من أمور العقيدة، ثم إنه ليس فيه توسل بحقّ شخص معيّن، وإنما فيه التوسل بحق السائلين عمومًا، وحق السائلين الإجابة كما وعدهم الله بذلك‏.‏

    وهو حق أوجبه على نفسه لهم، لم يوجبه عليه أحد، فهو توسل إليه بوعده الصادق لا بحق المخلوق‏.‏

    جـ ـ حكم الاستعانة والاستغاثة بالمخلوق
    الاستعانة‏:‏ طلب العون والمؤازرة في الأمر‏.‏

    والاستغاثة‏:‏ طلب الغوث، وهو إزالة الشدة‏.‏

    فالاستغاثة والاستعانة بالمخلوق على نوعين

    النوع الأول‏:‏ الاستعانة والاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه
    وهذا جائز، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى‏}‏ ‏[‏المائدة/2‏]‏‏.‏

    وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ‏}‏ ‏[‏القصص/15‏]‏‏.‏

    وكما يستغيث الرجل بأصحابه في الحرب وغيرها، مما يقدر عليه المخلوق‏.‏

  7. افتراضي

    النوع الثاني‏:‏ الاستغاثة والاستعانة بالمخلوق
    فيما لا يقدر عليه إلا الله، كالاستغاثة والاستعانة بالأموات، والاستغاثة بالأحياء، والاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله من شفاء المرضى، وتفريج الكُرُبات ودفع الضر، فهذا النوع غير جائز، وهو شرك أكبر، وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقالَ بعضهم‏:‏ قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه لا يُستغاثُ بي، وإنما يستغاث بالله‏)‏ ‏[‏رواه الطبراني‏]‏، كره صلى الله عليه وسلم أن يُستعمل هذا اللفظ في حقّه، وإن كان مما يقدر عليه في حياته؛ حمايةً لجناب التوحيد وسدًّا لذرائع الشرك، وأدبًا وتواضعًا لربه، وتحذيرًا للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال؛ فإذا كان هذا فيما يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف يُستغاثُ به بعد مماته، ويُطلبُ منه أمور لا يقدر عليها إلا الله ‏، وإذا كان هذا لا يجوز في حقّه صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى‏.‏




    الباب الخامس‏:‏ في بيان ما يجب اعتقاده في الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وصحابته
    وذلك في فصول‏:‏

    الفصل الأول‏:‏ في وجوب محبة الرسول وتعظيمه، والنهي عن الغلو والإطراء في مدحه، وبيان منزلته صلى الله عليه وسلم‏.‏

    الفصل الثاني‏:‏ في وجوب طاعته والاقتداء به‏.‏

    الفصل الثالث‏:‏ في مشروعية الصلاة والسلام عليه‏.‏

    الفصل الرابع‏:‏ في فضل أهل البيت، وما يجب لهم من غير جفاء ولا غلو‏.‏

    الفصل الخامس‏:‏ في فضل الصحابة وما يجب اعتقاده فيهم، ومذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بينهم‏.‏

    الفصل السادس‏:‏ في النهي عن سب الصحابة وأئمة الهدى‏.‏

    الفصل الأول‏:‏ في وجوب محبة الرسول وتعظيمه، والنهي عن الغلو والإطراء في مدحه
    وبيان منزلته صلى الله عليه وسلم

    1 ـ وجوب محبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم
    يجبُ على العبدِ أولًا‏:‏ محبّةُ الله عز وجل، وهي من أعظم أنواع العبادة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة/165‏]‏‏.‏

    لأنه هو الرّبُّ المتفضّل على عباده بجميع النّعم ظاهِرها وباطنها، ثم بعد محبة الله تعالى، تجب محبة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي دعا إلى الله، وعرَّف به، وبلَّغ شريعته، وبيَّن أحكامه، فما حصل للمؤمنين من خير في الدنيا والآخرة، فعلى يد هذا الرسول، ولا يدخلُ أحدٌ الجنة إلا بطاعته واتباعه صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان؛ أن يكون الله ورسولَه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحبَّ المرء لا يُحبّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار‏)‏ ‏[‏متفق عليه‏]‏‏.‏

    فمحبة الرسول تابعة لمحبة الله تعالى، لازمة لها، وتليها في المرتبة، وقد جاء بخصوص محبته صلى الله عليه وسلم ووجوب تقديمها على محبة كل محبوب سوى الله تعالى، قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يؤمنُ أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناسِ أجمعين‏)‏ ‏[‏متفق عليه‏]‏‏.‏

    بل ورد أنه يجب على المؤمن أن يكون الرسولُ صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من نفسه، كما في الحديث‏:‏ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ يا رسول الله، لأنتَ أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك‏)‏، فقال له عمر‏:‏ فإنك الآن أحب إليَّ من نفسي، فقال‏:‏ ‏(‏الآن يا عمر‏)‏ ‏[‏رواه البخاري‏]‏‏.‏

    ففي هذا أن محبة الرسول واجبةٌ ومقدّمةٌ على محبّة كل شيء سوى محبة الله، فإنها تابعة لها لازمة لها؛ لأنها محبة في الله ولأجله، تزيد بزيادة محبة الله في قلب المؤمن، وتنقص بنقصها، وكل من كان محبًّا لله؛ فإنما يحب في الله ولأجله‏.‏

    ومحبّته صلى الله عليه وسلم تقتضي تعظيمه وتوقيره واتباعه، وتقديم قوله على قول كل أحد من الخلق، وتعظيم سنته‏.‏

    قال العلامة ابن القيم رحمه الله‏:‏ ‏(‏وكلُّ محبة وتعظيم للبشر؛ فإنما تجوز تبعًا لمحبة الله وتعظيمه، كمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه، فإن أمته يحبونه لمحبة الله له، ويعظمونه ويجلونه لإجلال الله له، فهي محبة لله من موجبات محبة الله‏.‏

    والمقصودُ‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم ألقى الله عليه من المهابة والمحبة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ولهذا لم يكن بشر أحب إلى بشر، ولا أهيب وأجلّ في صدره، من رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدور أصحابه - رضي الله عنهم - قال عمرو بن العاص بعد إسلامه‏:‏ إنه لم يكن شخص أبغضَ إليَّ منه‏.‏ فلما أسلمت، لم يكن شخص أحب إليَّ منه، ولا أجلَّ في عيني منه، قال‏:‏ ولو سُئِلت أن أصفه لكمك لما أطقتُ، لأني لم أكن أملأ عينيَّ منه؛ إجلالًا له‏.‏

    وقال عروة بن مسعود لقريش‏:‏ يا قوم، والله لقد وفدت إلى كسرى وقيصر والملوك، فما رأيتُ ملكًا يعظمه أصحابه؛ ما يعظم أصحابُ محمد محمدًا صلى الله عليه وسلم، والله ما يحدُّون النظر إليه تعظيمًا له، وما تنخَّم نُخامةً إلا وقعت في كَفِّ رجل منهم، فيدلك بها وجهَهُ وصدره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه‏)‏ انتهى .‏

    2 ـ النهي عن الغُلوّ والإطراء في مدحه
    الغلو
    تجاوز الحد، يُقالُ‏:‏ غَلا غُلُوًّا، إذا تجاوز الحد في القدر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء/171‏]‏ أي‏:‏ لا تجاوزوا الحد‏.‏

    والإطراءُ
    مجاوزة الحدِّ في المدح، والكذب فيه، والمرادُ بالغُلوِّ في حق النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مجاوزة الحد في قدره؛ بأن يُرفع فوق مرتبة العبودية والرسالة، ويُجعلَ له شيء من خصائص الإلهية؛ بأن يُدعى ويُستغاثَ به من دون الله، ويُحلفَ به‏.‏

    والمراد بالإطراء في حقه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن يُزادَ في مدحه، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏لا تُطروني كما أطرتِ النَّصارى ابنَ مريم، إنما أنا عبد، فقولوا‏:‏ عبدُ الله ورسولُه‏)‏ ‏[‏متفق عليه‏]‏، أي‏:‏ لا تمدحوني بالباطل، ولا تجاوزوا الحدَّ في مدحي، كما غلت النَّصارى في عيسى - عليه السلام - فادَّعوا فيه الألوهية، وَصِفُوني بما وَصَفَني به ربّي، فقولوا‏:‏ عبدُ الله ورسوله‏.‏ ولما قال له بعض أصحابه‏:‏ أنت سيّدُنا، فقال‏:‏ ‏(‏السَّيّدُ الله تبارك وتعالى‏)‏، ولما قالوا‏:‏ أفضلنا وأعظمنا طَولًا، فقال‏:‏ ‏(‏قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان‏)‏ ‏[‏رواه أبو داود بسند جيد‏]‏‏.‏

    وقال له ناس‏:‏ يا رسولَ الله، يا خيرَنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمدٌ عبدُ الله ورسولُه، ما أحبُّ أن ترفعوني فوقَ منزلتي التي أنزلني الله عزّ وجلّ‏)‏ ‏[‏رواه أحمد والنسائي‏]‏‏.‏

    كره صلى الله عليه وسلم أن يمدحوه بهذه الألفاظ‏:‏ أنت سيدنا - أنت خيرُنا - أنت أفضلُنا - أنت أعظمُنا، مع أنه أفضلُ الخلق وأشرفُهم على الإطلاق؛ لكنه نهاهم عن ذلك، ابتعادًا بهم عن الغُلُوِّ والإطراء في حقه، وحمايةً للتوحيد، وأرشدهم أن يصفون بصفتين؛ هما أعلى مراتب العبد، وليس فيهما غلو ولا خطر على العقيدة، وهما‏:‏ عبد الله ورسوله، ولم يُحب أن يرفعوه فوق ما أنزله الله عز وجل من المنزلة التي رضيها له، وقد خالف نهيَه صلى الله عليه وسلم كثيرٌ من الناس فصاروا يدعونه، ويستغيثون به، ويحلفونَ به، ويطلبون منها ما لا يُطلب إلا من الله، كما يُفعلُ في الموالد والقصائد والأناشيد، ولا يُميزون بين حق الله وحق الرسول‏.‏

    يقول العلامةُ ابن القيم في النونية‏:‏

    لله حق لا يكون لـــغيره ** ولعبده حـق هما حقـان

    لا تجعلوا الحقين حقًّا واحدًا ** من غير تمييز ولا فرقان

    3 ـ بيان منزلته صلى الله عليه وسلم
    لا بأس ببيان منزلته بمدحه صلى الله عليه وسلم بما مدحه الله به، وذكر منزلته التي فضله الله بها واعتقاد ذلك، فله صلى الله عليه وسلم المنزلة العالية التي أنزله الله فيها، فهو عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه، وأفضل الخلق على الإطلاق، وهو رسول الله إلى الناس كافة، وإلى جميع الثقلين الجن والإنس، وهو أفضل الرسل، وخاتم النبيين، لا نبيَّ بعده، قد شرح الله له صدره، ورفع له ذكره، وجعل الذِّلَّة والصَّغار على من خالف أمره، وهو صاحب المقام المحمود الذي قال الله تعالى فيه‏:‏ ‏{‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الإسراء/79‏]‏‏.‏

    أي‏:‏ المقام الذي يُقيمه الله فيه للشفاعة للناس يوم القيامة؛ ليريحهم ربهم من شدة الموقف، وهو مقام خاص به صلى الله عليه وسلم دونَ غيره من النبيين‏.‏

    وهو أخشى الخلق لله، وأتقاهم له، وقد نهى الله عن رفع الصوت بحضرته صلى الله عليه وسلم، وأثنى على الذين يَغُضّونَ أصواتهم عنده، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحجرات/2-5‏]‏‏.‏

    قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -‏:‏ ‏(‏هذه آيات أدّب الله فيها عباده المؤمنين فيما يعاملون به النبي صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام، والتبجيل والإعظام‏.‏‏.‏‏.‏ أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته‏)‏‏.‏

    ونهى سبحانه وتعالى أن يُدعى الرسول باسمه كما يُدعى سائرُ الناس، فيقال‏:‏ يا محمد، وإنما يُدعى بالرسالة والنبوة فيقال‏:‏ يا رسول الله، يا نبي الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا‏}‏ ‏[‏النور/63‏]‏‏.‏

    كما أن الله سبحانه يناديه بـ يا أيها النبي، يا أيها الرسول‏.‏ وقد صلى الله وملائكته عليه، وأمر عباده بالصلاة والتسليم عليه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب/56‏]‏‏.‏

    لكن لا يُخصص لمدحه صلى الله عليه وسلم وقتٌ ولا كيفية معينة إلا بدليلٍ صحيح من الكتاب والسُّنَّة، فما يفعله أصحابُ الموالد من تخصيص اليوم الذي يزعمون أنه يوم مولده لمدحه‏:‏ بدعة منكرة‏.‏

    ومن تعظيمه صلى الله عليه وسلم‏:‏ تعظيم سنته، واعتقاد وجوب العمل بها، وأنها في المنزلة الثانية بعد القرآن الكريم في وجوب التعظيم والعمل؛ لأنها وحي من الله تعالى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى‏}‏ ‏[‏النجم/3، 4‏]‏‏.‏

    فلا يجوز التشكيك فيها، والتقليل من شأنها، أو الكلام فيها بتصحيح أو تضعيف لطرقها وأسانيدها أو شرح لمعانيها إلا بعلم وتحفُّظ، وقد كثر في هذا الزمان تطاول الجهَّالِ على سُنّة الرسول صلى الله عليه وسلم خصوصًا من بعض الشباب الناشئين؛ الذين لا يزالون في المراحل الأولى من التعليم، صاروا يصحِّحون ويُضعّفون في الأحاديث، ويجرحون في الرواة بغير علم سوى قراءة الكتب، وهذا خطرٌ عظيم عليهم وعلى الأمة، فيجب عليهم أن يتقوا الله، ويقفوا عند حدهم‏.‏

  8. افتراضي

    الفصل الثاني‏:‏ في وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم والاقتداء به
    تجب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمره به، وترك ما نهى عنه، وهذا من مقتضى شهادة أنه رسول الله، وقد أمر الله تعالى بطاعته في آيات كثيرة، تارة مقرونة مع طاعة الله، كما في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ‏}‏ ‏[‏النساء/59‏]‏ وأمثالها من الآيات، وتارة يأمر بها منفردة، كما في قوله‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ‏}‏ ‏[‏النساء/80‏]‏، ‏{‏وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏النور/56‏]‏‏.‏

    وتارة يتوعد من عصى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور/63‏]‏‏.‏

    أي‏:‏ تصيبهم فتنة في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، أو عذاب أليم في الدنيا؛ بقتل أو حَدٍّ أو حبس، أو غير ذلك من العقوبات العاجلة‏.‏

    وقد جعل الله طاعته واتباعه سببًا لنيل محبة الله للعبد ومغفرة ذنوبه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران/31‏]‏‏.‏

    وجعل طاعته هداية، ومعصيته ضلالًا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا‏}‏ ‏[‏النور/54‏]‏‏.‏

    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏القصص/50‏]‏‏.‏

    وأخبرَ سبحانه وتعالى أنَّ فيه القدوة الحسنة لأمته، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب/21‏]‏‏.‏

    قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -‏:‏ ‏(‏هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته، ومرابطته ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه - عز وجل - صلوات الله وسلامه عليه دائمًا، إلى يوم الدين‏)‏‏.‏

    وقد ذكر الله طاعة الرسول واتباعه في نحو أربعين موضعًا من القرآن، فالنفوس أحوج على معرفة ما جاء به واتباعه منها إلى الطعام والشراب، فإنَّ الطعام والشراب إذا فات الحصول عليهما؛ حصل الموت في الدنيا، وطاعة الرسول واتباعه إذا فاتا؛ حصل العذاب والشقاء الدائم، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به في أداء العبادات، وأن تؤدى على الكيفية التي كان يؤديها بها، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب/21‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏)‏ ‏[‏الحديث رواه البخاري‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏خذوا عني مناسككم‏)‏ ‏[‏الحديث رواه مسلم‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏ ‏[‏الحديث متفق عليه‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏من رغب عن سنتي فليس مني‏)‏ ‏[‏متفق عليه‏]‏ إلى غير ذلك من النصوص؛ التي فيها الأمر بالاقتداء به، والنهي عن مخالفته‏.‏

    الفصل الثالث‏:‏ في مشروعية الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم
    من حقه الذي شرع الله له على أمته أن يُصَلُّوا ويسلّموا عليه، فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب/56‏]‏‏.‏

    وقد ورد أن معنى صلاة الله تعالى‏:‏ ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة‏:‏ الدعاء، وصلاة الآدميين‏:‏ الاستغفار ، وقد أخبر الله سبحانه في هذه الآية عن منزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى؛ بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه؛ ليجتمع الثناء عليه من أهل العالم العُلوي والسُّفلي‏.‏

    ومعنى‏:‏ ‏{‏وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏ أي‏:‏ حيُّوه بتحية الإسلام؛ فإذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم؛ فلا يقتصر على أحدهما، فلا يقول‏:‏ ‏(‏صلى الله عليه‏)‏ فقط، ولا يقول‏:‏ ‏(‏عليه السلام‏)‏ فقط؛ لأن الله تعالى أمر بهما جميعًا‏.‏

    وتشرع الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في مواطنَ يتأكد طلبها فيها، إما وجوبًا وإما استحبابًا مؤكدًا، وذكر ابن القيم- رحمه الله - في كتابه‏:‏ ‏(‏جلاء الأفهام‏)‏ واحدًا وأربعين موطنًا؛ بدأها بقوله‏:‏ ‏(‏الموطن الأول‏:‏ - وهو أهمها وآكدها - في الصلاة في آخر التشهد، وقد أجمع المسلمون على مشروعيته، واختلفوا في وجوبه فيها‏)‏ ‏‏ ثم ذكر من المواطن‏:‏ آخر القنوت، وفي الخُطَب كخُطبة الجمعة، والعيدين والاستسقاء، وبعد إجابة المؤذن، وعند الدعاء، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند ذكره صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر - رحمه الله - الثمرات الحاصلة من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر فيها أربعين فائدة ‏‏، منها‏:‏

    امتثال أمر الله سبحانه بذلك‏.‏

    ومنها‏:‏ حصول عشر صلوات من الله على المصلي مرة‏.‏

    ومنها‏:‏ رجاء إجابة الدعاء إذا قدَّمها أمامه‏.‏

    ومنها‏:‏ أنها سبب لشفاعته صلى الله عليه وسلم إذا قرنها بسؤال الوسيلة له صلى الله عليه وسلم‏.‏

    ومنها‏:‏ أنها سبب لغُفران الذنوب‏.‏

    ومنها‏:‏ أنها سبب لرد النبي صلى الله عليه وسلم على المُصَلِّي والمُسَلِّم عليه‏.‏

    فصلواتُ الله وسلامه على هذا النبي الكريم‏.‏

    الفصل الرابع‏:‏ في فضل أهل البيت وما يجب لهم من غير جفاء ولا غُلُوّ
    أهل البيت هم آل النبي صلى الله عليه وسلم الذين حَرُمتْ عليهم الصدقة، وهم آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس، وبنو الحارث بن عبد المطلب، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب/33‏]‏‏.‏

    قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -‏:‏ ‏(‏ثُمَّ الذي لا يشك فيه من تدبّر القرآن، أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب/33‏]‏‏.‏

    فإن سياق الكلام معهن، ولهذا قال بعد هذا كله‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب/34‏]‏‏.‏

    أي‏:‏ واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن، من الكتاب والسنة‏.‏ قاله قتادة وغير واحد‏.‏

    واذكرن هذه النعمة التي خُصِصْتُنَّ بها من بين الناس‏:‏ أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة الصديقة بنت الصديق - رضي الله عنها - أولاهُنَّ بهذه النعمة، وأخصُّهُنَّ من هذه الرحمة العميمة، فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها، كما نصَّ على ذلك صلوات الله وسلامه عليه، وقال بعض العلماء‏:‏ لأنه لم يتزوج بكرًا سواها، ولم ينم معها رجل في فراشها سواه صلى الله عليه وسلم ‏ فناسب أن تُخصَّصَ بهذه المزية، وأن تُفردَ بهذه المرتبة العليَّة، ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته، فقرابته أحق بهذه التسمية‏)‏ انتهى من تفسير ابن كثير‏.‏

    فأهل السنة والجماعة يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال يوم غدير خُم :‏ ‏(‏أُذكّركم الله في أهل بيتي‏)‏ ‏[‏رواه مسلم‏]‏‏.‏

    فأهل السنة يحبونهم ويكرمونهم؛ لأن ذلك من محبة النبي صلى الله عليه وسلم وإكرامه، وذلك بشرط‏:‏ أن يكونوا متبعين للسُّنَّة مستقيمين على الملة، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنوه، وعلي وبنوه، أما من خالف السنة، ولم يستقم على الدين، فإنه لا تجوز موالاته ولو كان من أهل البيت‏.‏

    فموقف أهل السنة والجماعة من أهل البيت موقف الاعتدال والإنصاف، يتولون أهل الدين والاستقامة منهم، ويتبرءون ممن خالف السنة وانحرف عن الدين، ولو كان من أهل البيت، فإن كونه من أهل البيت ومن قرابة الرسول، لا ينفعه شيئًا حتى يستقيمَ على دين الله، فقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال‏:‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه‏:‏ ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء/214‏]‏‏.‏

    فقال‏:‏ ‏(‏يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس ابن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفيّةُ عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئًا‏)‏ ‏[‏رواه البخاري‏]‏‏.‏

    والحديث‏:‏ ‏(‏من بَطَّأ عمله لم يسرع به نسبه‏)‏ ‏[‏رواه مسلم‏]‏‏.‏

    ويتبرأ أهل السُّنَّة والجماعة من طريق الروافض؛ الذين يُغلون في بعض أهل البيت، ويَدَّعون لهم العصمة، ومن طريقة النواصب؛ الذين ينصبون العداوة لأهل البيت المستقيمين، ويطعنون فيهم، ومن طريقة المبتدعة والخرافيين الذين يتوسلون بأهل البيت، ويتخذونهم أربابًا من دون الله‏.‏

    فأهل السنة في هذا الباب وغيره على المنهج المعتدل، واصراط المستقيم الذي لا إفراطَ فيه ولا تفريط، ولا جفاء ولا غلو في حق أهل البيت وغيرهم، وأهل البيت المستقيمون يُنكرون الغلو فيهم، ويتبرؤون من الغُلاة، فقد حرق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الغلاة الذين غَلَوا فيه بالنار، وأقرّه ابنُ عباس - رضي الله عنه - على قتلهم، لكن يرى قتلهم بالسيف بدلًا من التحريف، وطلب علي - رضي الله عنهما - عبد الله بن سبأ رأس الغُلاة ليقتله؛ لكنه هرب واختفى‏.‏

  9. افتراضي

    الفصل الخامس‏:‏ في فضل الصحابة وما يجب اعتقاده فيهم
    ومذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بينهم

    ما المراد بالصحابة، وما الذي يجب اعتقاده فيهم
    الصحابة جمع صحابي‏:‏ وهو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على ذلك، والذي يجب اعتقاده فيهم أنهم أفضل الأمة، وخير القرون؛ لسبقهم واختصاصهم بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد معه، وتحمل الشريعة عنه، وتبليغها لمن بعدهم، وقد أثنى الله عليهم في محكم كتابه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏التوبة/100‏]‏‏.‏

    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏الفتح/29‏]‏‏.‏

    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر/8، 9‏]‏‏.‏

    ففي هذه الآيات أن الله سبحانه أثنى على المهاجرين والأنصار، ووصفهم بالسبق إلى الخيرات، وأخبر أنه قد رضي الله عنهم، وأعدّ لهم الجنات، ووصفهم بالتراحم فيما بينهم، والشّدّة على الكُفَّارِ، ووصفهم بكثرة الركوع والسجود، وصلاح القلوب، وأنهم يعرفون بسيما الطاعة والإيمان، وأن الله اختارهم لصحبة نبيه ليغيظ بهم أعداءه الكفار، كما وصف المهاجرين بترك أوطانهم وأموالهم من أجل الله ونصرة دينه، وابتغاء فضله ورضوانه، وأنهم صادقون في ذلك، ووصف الأنصار بأنهم أهل دار الهجرة والنُّصرة، والإيمان الصادق، ووصفهم بمحبة إخوانهم المهاجرين، وإيثارهم على أنفسهم، ومُواساتهم لهم، وسلامتهم من الشح، وبذلك حازوا على الفلاح‏.‏ هذه بعض فضائلهم العامة، وهناك فضائل خاصة ومراتب يفضل بها بعضهم بعضًا، رضي الله عنهم، وذلك بحسب سبقهم إلى الإسلام والجهاد والهجرة‏.‏

    فأفضل الصحابة الخلفاء الأربعة
    أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، وهم هؤلاء الأربعة وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، ويَفْضُلُ المهاجرون على الأنصار، وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان، ويَفْضُل من أسلم قبل الفتح وقاتل؛ على من أسلم بعد الفتح‏.‏

    2 ـ مذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بين الصحابة من القتال والفتنة
    سبب الفتنة
    تآمَرَ اليهودُ على الإسلام وأهله، فدسوا ماكرُا خبيثًا تظاهر بالإسلام كذبًا وزورًا هو‏:‏ عبد الله بن سبأ، من يهود اليمن، فأخذ هذا اليهودي ينفث حقده وسمومه ضد الخليفة الثالث من الخلفاء الراشدين‏:‏ عثمان بن عفان - رضي الله عنه وأرضاه - ويختلق التهم ضده، فالتف حوله من انخدع به من قاصري النظر وضعاف الإيمان ومحبي الفتنة، وانتهت المؤامرة بقتل الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه مظلومًا، وعلى أثر مقتله حصل الاختلاف بين المسلمين، وشبَّت الفتنةُ بتحريضٍ من هذا اليهودي وأتباعه، وحصل القتال بين الصحابة عن اجتهادٍ منهم‏.‏

    قال شارح الطحاوية‏:‏ ‏(‏إن أصل الرفض إنما أحدثه منافق زنديق، قصدُهُ إبطال دين الإسلام، والقدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك العلماء، فإن عبد الله بن سبأ؛ لما أظهر الإسلام، أراد أن يُفسد دين الإسلام بمكره وخبثه - كما فعل بولس بدين النصرانية - فأظهر التنسك، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى سعى في فتنة عثمان وقتله، ثم لما قَدِمَ على الكوفة أظهر الغُلوَّ في علي، والنصر له؛ ليتمكن بذلك من أغراضه، وبلغ ذلك عليًّا فطلب قتله؛ فهرب منه إلى قرقيس، وخبره معروف في التاريخ‏)‏‏.‏

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏(‏فلما قُتل عثمان رضي الله عنه الله عنه، تفرقت القلوب وعظُمَت الكروب، وظهرت الأشرار وذَلَّ الأخيار، وسعى في الفتنة من كان عاجزًا عنها، وعجز عن الخير والصلاح من كان يحب إقامته، فبايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو أحق الناس بالخلافة حينئذ، وأفضل من بقي، لكن كانت القلوب متفرقة، ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة، ولم تنتظم الجماعة، ولم يتمكن الخليفة وخيار الأمة من كل ما يريدونه من الخير، ودخل في الفرقة والفتنة أقوام، وكان ما كان‏)‏ ‏‏.‏

    وقال أيضًا مبيّنًا عذر المتقاتلين من الصحابة؛ في قتال علي ومعاوية‏:‏ ‏(‏ومعاوية لم يَدَّعِ الخلافة، ولم يُبايَع له بها حين قاتل عليًّا، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، وكان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يَرونَ أن يبتدئوا عليًّا وأصحابه بالقتال؛ بل لما رأى علي - رضي الله عنه - وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته؛ يمتنعون هذا الواجب، وهم أهل شوكة، رأى أن يُقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة‏.‏ وهم ‏ قالوا‏:‏ إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا‏:‏ لأن عثمان قُتِلَ مظلومًا باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا، وعلي لا يمكنه دفعهم كما لم يمكنه الدفع عن عثمان، وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن يُنصفنا ويبذل لنا الإنصاف‏.‏

    ومذهب أهل السنة والجماعة في الاختلاف الذي حصل
    والفتنة التي وقعت من جرائها الحروب بين الصحابة، يتلخص في أمرين‏:‏

    الأمر الأول‏:‏ أنهم يمسكون عن الكلام فيما حصل بين الصحابة
    ويكفون عن البحث فيه؛ لأن طريق السلامة هو السكون عن مثل هذا، ويقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحشر/10‏]‏‏.‏

    الأمر الثاني‏:‏ الإجابة عن الآثار المروية في مساويهم
    وذلك من وجوه‏:‏

    الوجه الأول‏:‏ أن هذه الآثار منها ما هو كذب؛ قد افتراه أعداؤهم ليشوهوا سمعتهم‏.‏

    الوجه الثاني‏:‏ أن هذه الآثار منها ما قد زيد ونقص فيه، وغُيِّرَ عن وجهه الصحيح، ودخله الكذب، فهو محرف لا يلتفت إليه‏.‏

    الوجه الثالث‏:‏ أن ما صح من هذه الآثار - وهو القليل - هم فيه معذورون؛ لأنهم إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، فهو من موارد الاجتهاد الذي إن أصاب المجتهد فيه فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، والخطأ مغفور؛ لما في الحديث‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا اجتهدَ الحاكمُ فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد‏)‏ ‏[‏في الصحيحين من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنهما‏]‏‏.‏

    الوجه الرابع‏:‏ أنهم بشر يجوز على أفرادهم الخطأ، فهم ليسوا معصومين من الذنوب بالنسبة للأفراد؛ لكن ما يقع منهم فله مكفرات عديدة منها‏:‏

    1ـ أن يكون قد تاب منه، والتوبة تمحو السيئة مهما كانت، كما جاءت به الأدلة‏.‏

    2ـ أن لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدر منهم، إن صدر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ‏}‏ ‏[‏هود/114‏]‏‏.‏

    ولهم من الصُّحبة والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يغمر الخطأ الجزئي‏.‏

    3ـ أنهم تُضاعفُ لهم الحسنات أكثر من غيرهم، ولا يساويهم أحد في الفضل، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المُدَّ من أحدهم إذا تصدق به؛ أفضل من جبل أُحد ذهبًا إذا تصدق به غيرهم ‏‏ - رضي الله عنهم - وأرضاهم‏)‏‏.‏

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏(‏وسائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة، ولا القرابة ولا السابقين ولا غيرهم، بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم، والله تعالى يغفرُ لهم بالتوبة، ويرفع لها درجاتهم، ويغفر لهم بحسنات ماحية، أو بغير ذلك من الأسباب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ 33 لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر/32-35‏]‏‏.‏

    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف/15، 16‏]‏ انتهى‏)‏ .‏

    وقد اتخذ أعداء الله ما وقع بين الصحابة وقت الفتنة من الاختلاف والاقتتال سببًا للوقيعة بهم، والنيل من كرامتهم، وقد جرى على هذا المخطط الخبيث بعض الكتّاب المعاصرين؛ الذين يهرفون بما لا يعرفون، فجعلوا أنفسهم حكمًا بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يصوّبون بعضَهم، ويخطئون بعضَهم، بلا دليل، بل بالجهل واتباع الهوى، وترديد ما يقوله المغرضون والحاقدون من المستشرقين وأذنابهم؛ حتى شككوا بعض ناشئة المسلمين - ممن ثقافتهم ضحلة - بتاريخ أمتهم المجيد، وسلفهم الصالح الذين هم خير القرون؛ لينفذوا بالتالي إلى الطعن في الإسلام، وتفريق كلمة المسلمين، وإلقاء البُغض في قلوب آخر هذه الأمة لأولها، بدلًا من الاقتداء بالسلف الصالح، والعمل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحشر/10‏]‏‏.‏

  10. افتراضي

    وقد اتخذ أعداء الله ما وقع بين الصحابة وقت الفتنة من الاختلاف والاقتتال سببًا للوقيعة بهم، والنيل من كرامتهم، وقد جرى على هذا المخطط الخبيث بعض الكتّاب المعاصرين؛ الذين يهرفون بما لا يعرفون، فجعلوا أنفسهم حكمًا بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يصوّبون بعضَهم، ويخطئون بعضَهم، بلا دليل، بل بالجهل واتباع الهوى، وترديد ما يقوله المغرضون والحاقدون من المستشرقين وأذنابهم؛ حتى شككوا بعض ناشئة المسلمين - ممن ثقافتهم ضحلة - بتاريخ أمتهم المجيد، وسلفهم الصالح الذين هم خير القرون؛ لينفذوا بالتالي إلى الطعن في الإسلام، وتفريق كلمة المسلمين، وإلقاء البُغض في قلوب آخر هذه الأمة لأولها، بدلًا من الاقتداء بالسلف الصالح، والعمل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحشر/10‏]‏‏.‏
    الفصل السادس‏:‏ في النهي عن سب الصحابة وأئمة الهدى
    1ـ النهي عن سب الصحابة
    من أصول أهل السنة والجماعة‏:‏ سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحشر/10‏]‏‏.‏
    وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏(‏لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه‏)‏ ‏[‏الحديث متفق عليه‏]‏‏.‏
    ويتبرءون من طريقة الرافضة والخوارج الذين يسبون الصحابة - رضي الله عنهم - ويبغضونَهم، ويجحدونَ فضائلهم، ويكفرون أكثرهم‏.‏
    وأهل السنة يقبلون ما جاء في الكتاب والسنة من فضائلهم، ويعتقدون أنهم خير القرون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خيركم قرني‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث ‏[‏الحديث في الصحيحين‏]‏‏.‏
    ولما ذكر صلى الله عليه وسلم افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأنها في النار إلا واحدة، وسألوه عن تلك الواحدة، قال‏:‏ ‏(‏هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي‏)‏ ‏[‏رواه الإمام أحمد وغيره‏]‏‏.‏
    قال أبو زرعة - وهو أجلّ شيوخ الإمام مسلم -‏:‏ إذا رأيت الرجل يتنقص امرءًا من الصحابة؛ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن القرآن حق، والرسول حق، وما جاء به حق، وما أدى غلينا ذلك كله إلا الصحابة؛ فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسُّنَّة؛ فيكون الجرح به أليق، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق‏.‏
    قال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين‏:‏ من سَبَّ أحدًا من الصحابة مُستحلًا؛ كفر، وإن لم يستحلّ فسق، وعنه‏:‏ يكفر مطلقًا، ومن فَسَّقهم، أو طعن في دينهم، أو كفَّرهم؛ كفر ‏‏.‏


    يوسف التازي
    مشاهدة ملفه الشخصي
    البحث عن كافة المشاركات المكتوبة بواسطة يوسف التازي

    #18 22-01-15, 04:52 pm
    يوسف التازي
    وفقه الله تاريخ التسجيل: 14-12-11
    المشاركات: 1,536

    رد: العقيدة والتوحيد واتباع السنة واجتناب الكفر والشرك والبدعة

    --------------------------------------------------------------------------------

    2 ـ النهي عن سب أئمة الهدى من علماء هذه الأمة
    يلي الصحابة في الفضيلة والكرامة والمنزلة‏:‏ أئمة الهدى من التابعين وأتباعهم من القرون المفضلة، ومن جاء من بعدهم ممن تبع الصحابة بإحسان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة/100‏]‏‏.‏ الآية‏.‏
    فلا يجوزُ تنقّصهم وسبّهم؛ لأنهم أعلام هدى، فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء/115‏]‏‏.‏
    قال شارح الطحاوية‏:‏ ‏(‏فيجبُ على كل مسلم بعد مُوالاة الله ورسوله‏:‏ موالاة المؤمنين، كما أطلق القرآن، خصوصًا الذين هُم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يُهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمعَ المسلمون على هدايتهم ودرايتهم‏.‏
    فإنهم خُلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقًا يقينًا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن‏:‏ إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلابد له في تركه من عذر‏)‏‏.‏
    وجماع الأعذار ثلاثة أصناف‏:‏
    أحدها‏:‏ عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله‏.‏
    الثاني‏:‏ عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول‏.‏
    الثالث‏:‏ اعتقاده أن الحكم منسوخ‏.‏
    فلهم الفضل علينا والمنة؛ بالسبق وتبليغ ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا، فرضي الله عنهم وأرضاهم ‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحشر/10‏]‏‏.‏
    والحطّ من قدر العلماء؛ بسبب وقوع الخطأ الاجتهادي من بعضهم، هو من طريقة المبتدعة، ومن مُخططات أعداء الأمة؛ للتشكيك في دين الإسلام، ولإيقاع العداوة بين المسلمين، ولأجل فصل خلف الأمة عن سلفها، وبثّ الفرقة بين الشباب والعلماء، كما هو الواقع الآن، فليتنبه لذلك بعض الطلبة المبتدئين؛ الذين يحطون من قدر الفقهاء؛ ومن قدر الفقه الإسلامي، ويزهدون في دراسته، والانتفاع بما فيه من حق وصواب، فليعتزوا بفقههم، وليحترموا علماءهم؛ ولا ينخدعوا بالدعايات المضللة والمغرضة‏.‏ والله الموفق‏.‏

    الباب السادس‏:‏ البـدع
    ويتضمن الفصول التالية‏:‏
    الفصل الأول‏:‏ تعريف البدعة - أنواعها - أحكامها‏.‏
    الفصل الثاني‏:‏ ظهور البدع في حياة المسلمين، والأسباب التي أدَّت إليها‏.‏
    الفصل الثالث‏:‏ موقف الأمة الإسلامية من المبتدعة، ومنهج أهل السنة والجماعة في الرَّدِّ عليهم‏.‏
    الفصل الرابع‏:‏ في الكلام على نماذج من البدع المعاصِرة وهي‏:‏
    1- الاحتفال بالموالد النبوي‏.‏
    2- التّبرّك بالأماكن والآثار والأموات، ونحو ذلك‏.‏
    3- البدع في مجال العبادات والتّقرّب إلى الله‏.‏
    الفصل الأول‏:‏ تعريف البدعة، أنواعها وأحكامها
    1 ـ تعريفها‏:‏ البدعة في اللغة
    مأخوذة من البَدْع، وهو الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏البقرة/117‏]‏‏.‏
    أي مخترعها على غير مثال سابق، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف/9‏]‏‏.‏
    أي‏:‏ ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل‏.‏
    ويقال‏:‏ ابتدع فلان بدعة، يعني‏:‏ ابتدأ طريقة لم يسبق إليها‏.‏
    والابتداع على قسمين‏:‏
    ابتداع في العادات كابتداع المخترعات الحديثة، وهذا مباح؛ لأن الأصل في العادات‏:‏ الإباحة‏.‏
    وابتداع في الدين، وهذا مُحرَّم؛ لأن الأصل فيه التوقيف، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد‏)‏ ‏[‏رواه البخاري ومسلم‏]‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏ ‏[‏في صحيح مسلم‏]‏‏.‏

  11. افتراضي

    ـ أنواع البدع
    البدعة في الدين نوعان‏:‏
    النوع الأول‏:‏ بدعة قوليّة اعتقاديّة
    كمقالات الجهميّة والمعتزلة والرّافضة، وسائر الفرق الضّالّة، واعتقاداتهم‏.‏
    النوع الثاني‏:‏ بدعة في العبادات
    كالتّعبّد لله بعبادة لم يشرعها، وهي أقسام‏:‏
    القسم الأول‏:‏ ما يكون في أصل العبادة‏:‏ بأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع، كأن يحدث صلاة غير مشروعة أو صيامًا غير مشروع أصلًا، أو أعيادًا غير مشروعة كأعياد الموالد وغيرها‏.‏
    القسم الثاني‏:‏ ما يكون من الزيادة في العبادة المشروعة، كما لو زاد ركعة خامسة في صلاة الظهر أو العصر مثلًا‏.‏
    القسم الثالث‏:‏ ما يكون في صفة أداء العبادة المشروعة؛ بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، وذلك كأداء الأفكار المشروعة بأصوات جماعية مُطربة، وكالتشديد على النفس في العبادات إلى حد يخرج عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏
    القسم الرابع‏:‏ ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة؛ لم يخصصه الشرع كتخصيص يوم النصف من شعبان وليلته بصيام وقيام، فإن أصل الصيام والقيام مشروع، ولكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج إلى دليل‏.‏
    3 ـ حكم البدعة في الدين بجميع أنواعها
    كل بدعة في الدين فهي محرمة وضلالة، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة‏)‏ ‏[‏رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏]‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد‏)‏ ‏[‏متفق عليه‏]‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏ ‏[‏رواه مسلم‏]‏ فدل الحديثان على أن كل محدث في الدين فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة مردودة، ومعنى ذلك أن البدع في العبادات والاعتقادات محرمة، ولكن التحريم يتفاوت بحسب نوعية البدعة، فمنها ما هو كفر صراح، كالطواف بالقبور تقرّبًا إلى أصحابها، وتقديم الذبائح والنذور لها، ودعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، وكأقوال غلاة الجهمية والمعتزلة‏.‏ ومنها ما هو من وسائل الشرك، كالبناء على القبور والصلاة والدعاء عندها، ومنها ما هو فسق اعتقادي كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة في أقوالهم واعتقاداتهم المخالفة للأدلة الشرعية، ومنها ما هو معصية كبدعة التبتل والصيام قائمًا في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع ‏.‏
    تنبيـه
    من قَسَّمَ البدعة إلى بدعة حسنة، وبدعة سيئة؛ فهو مخطئ ومخالف لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإن كل بدعة ضلالة‏)‏ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم على البدع كلها بأنها ضلالة، وهذا يقول‏:‏ ليس كل بدعة ضلالة؛ بل هناك بدعة حسنة‏.‏ قال الحافظُ ابنُ رجب في شرح الأربعين‏:‏ ‏(‏فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل بدعة ضلالة‏)‏ من جوامع الكلم؛ لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد‏)‏ فكل من أحدث شيئًا ونسبَهُ إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة‏)‏ ‏‏ انتهى‏.‏
    وليس لهؤلاء حجة على أن هناك بدعة حسنة، إلا قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح‏:‏ ‏(‏نعمت البدعة هذه‏)‏‏.‏
    وقالوا أيضًا‏:‏ أنها أُحدثت أشياء لم يستنكرها السلف، مثل جمع القرآن في كتاب واحد، وكتابة الحديث وتدوينه‏.‏
    والجواب عن ذلك أن هذه الأمور لها أصل في الشرع، فليست مُحدثة، وقول عمر‏:‏ ‏(‏نعمت البدعة‏)‏ يريدُ البدعة اللغوية لا الشرعيّة، فما كان له أصل في الشرع يُرجَعُ إليه، إذا قيل‏:‏ إنه بدعة، فهو بدعةٌ لغةً لا شرعًا؛ لأن البدعة شرعًا‏:‏ ما ليس له أصل في الشرع‏.‏ وجمع القرآن في كتاب واحد له أصل في الشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن، لكن كان مكتوبًا متفرقًا، فجمعه الصحابة رضي الله عنهم في مصحف واحد حفظًا له‏.‏
    والتراويح قد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ليالي، وتخلَّفَ عنهم في الأخير خشية أن تفرض عليهم، واستمرّ الصحابةُ رضي الله عنهم يصلونها أوزاعًا متفرقين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، إلى أن جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الله عنه على إمام واحد كما كانوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا بدعة في الدين‏.‏
    وكتابةُ الحديث أيضًا لها أصل في الشرع، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة بعض الأحاديث لبعض أصحابه؛ لما طلب منه ذلك، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يكتب الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المحذور من كتابته بصفة عامة في عهده‏:‏ خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه، فلما تُوفّي صلى الله عليه وسلم انتفى هذا المحذور؛ لأن القرآن قد تكامل، وضبط قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، فدوَّنَ المسلمون الحديثَ بعد ذلك حفظًا له من الضياع، فجزاهُمُ الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا؛ حيث حفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم من الضياع وعبث العابثين‏.‏
    الفصل الثاني‏:‏ ظهور البدع في حياة المسلمين والأسباب التي أدت إليها
    1 ـ ظهور البدع في حياة المسلمين، وتحته مسألتان
    المسألة الأولى‏:‏ وقت ظهور البدع
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :‏ واعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلوم والعبادات إنما وقع في الأمة في أواخر عهد الخلفاء الراشدين، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ ‏(‏من يعش منكم، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين‏)‏ ‏[‏رواه أبو داود والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏]‏ وأول بدعة ظهرت‏:‏ بدعةُ القدر، وبدعة الإرجاء، وبدعة التشيع والخوارج، ولما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية، ثم في أواخر عصر الصحابة، حدثت القدرية في آخر عصر ابن عمر وابن عباس وجابر وأمثالهم من الصحابة - رضي الله عنهم - وحدثت المرجئة قريبًا من ذلك، وأما الجهمية فإنما حدثوا في أواخر عصر التابعين بعد موت عمر بن عبد العزيز، وقد روي أنه أنذر بهم، وكان ظهور جهم بخُراسان في خلافة هشام بن عبد الملك‏.‏
    هذه البدع ظهرت في القرن الثاني، والصحابةُ موجودون، وقد أنكروا على أهلها، ثم ظهرت بدعة الاعتزال، وحدثت الفتن بين المسلمين، وظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء، وظهرت بدعة التصوف، وبدعة البناء على القبور بعد القرون المفضلة، وهكذا كلما تأخر الوقت زادت البدع وتنوعت‏.‏
    المسألة الثانية‏:‏ مكان ظهور البدع
    تختلف البلدان الإسلامية في ظهور البدع فيها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ ‏(‏فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج منها العلمُ والإيمان خمسة‏:‏ الحرمان، والعراقان، والشام، منها خرج القرآن والحديث، والفقه والعبادة، وما يتبع ذلك من أمور الإسلام، وخَرجَ من هذه الأمصار بدع أصولية، غير المدينة النبوية، فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء، وانتشر بعد ذلك في غيرها، والبصرة خرج منها القدر والاعتزال والنسك الفاسد، وانتشر بعد ذلك في غيرها، والشام كان بها النصب والقدر، وأما التجهم فإنما ظهر في ناحية خراسان، وهو شر البدع‏.‏
    وكان ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية، فلما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية، وأما المدينة النبوية، فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها من هو مضمر لذلك، فكان عندهم مهانًا مذمومًا، غذ كان بها قوم من القدرية وغيرهم، ولكن كانوا مقهورين ذليلين، بخلاف التشيع والإرجاء في الكوفة، والاعتزال وبدع النساك بالبصرة، والنصب بالشام، فإنه كان ظاهرًا، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدّجَّالَ لا يدخلها، ولم يزل العلم والإيمان ظاهرًا إلى زمن أصحاب مالك، وهم من أهل القرن الرابع‏)‏ .‏
    فأما العصور الثلاثة المفضلة فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة البتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين البتة، كما خرج من سائر الأمصار‏.‏
    2 ـ الأسباب التي أدت إلى ظهور البدع
    مما لا شك فيه أن الاعتصام بالكتاب والسنة فيه منجاة من الوقوع في البدع والضلال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام/153‏]‏‏.‏
    وقد وضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - قال‏:‏ ‏(‏خَطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا فقال‏:‏ ‏"‏هذا سبيل الله‏"‏ ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه، وعن شماله ثم قال‏:‏ ‏"‏وهذه سُبُلٌ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه‏"‏ ثم تلا‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏‏)‏ ‏[‏رواه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم‏]‏‏.‏
    فمن أعرضَ عن الكتاب والسنة؛ تنازعته الطرق المضللة، والبدع المحدَثَة‏.‏
    فالأسباب التي أدَّت إلى ظهور البدع تتلخص في الأمور التالية‏:‏ الجهلُ بأحكام الدين، اتباع الهوى، التعصب للآراء والأشخاص، التشبه بالكفار وتقليدهم، ونتناول هذه الأسباب بشيء من التفصيل‏:‏
    أ ـ الجهل بأحكام الدين
    كلما امتد الزمن، وبَعُدَ الناس عن آثار الرسالة؛ قَلَّ العلمُ وفشا الجهل، كما أخبرَ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏من يَعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا‏)‏ ‏[‏من حديث رواه أبو داود والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏إنَّ الله لا يقبضُ العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبضُ العلمَ بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يُبْق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهّالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا‏)‏ ‏[‏جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ‏(‏1/180‏)‏‏]‏‏.‏
    فلا يُقاومُ البدعَ إلا العلم والعلماء، فإذا فُقد العلم والعلماء أتيحت الفرصة للبدع أن تظهر وتنتشر، ولأهلها أن ينشطوا‏.‏
    ب ـ اتباع الهوى
    من أعرض عن الكتاب والسنة اتبع هواه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏القصص/50‏]‏‏.‏
    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجاثية/23‏]‏‏.‏
    والبدع إنَّما هي نسيجُ الهوى المتَّبع‏.‏
    جـ ـ التعصب للآراء والرجال
    التعصب للآراء والرجال يحول بين المرء واتّباع الدليل، ومعرفة الحق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا‏}‏ ‏[‏البقرة/170‏]‏‏.‏
    وهذا هو الشأن في المتعصبين اليوم، من بعض أتباع المذاهب الصوفية والقبوريين، إذا دُعوا إلى اتباع الكتاب والسنة، ونبذ ما هُم عليه مما يُخالفهما؛ احتجوا بمذاهبهم، ومشائخهم وآبائهم وأجدادهم‏.‏
    د ـ التشبه بالكفار
    وهو من أشد ما يوقع في البدع، كما في حديث أبي واقد الليثي قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سِدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها‏:‏ ذاتُ أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا‏:‏ يا رسولَ الله‏:‏ اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الله أكبر، إنها السنن‏!‏ قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى‏:‏ ‏{‏اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف/138‏]‏ لتركبُنَّ سُنَنَ من قبلكم‏)‏ ‏[‏رواه الترمذي وصححه‏]‏‏.‏
    ففي هذا الحديث‏:‏ أن التشبه بالكفار هو الذي حمل بني إسرائيل أن يطلبوا هذا الطلب القبيح، وهو أن يجعل لهم آلهة يعبدونها، وهو الذي حمل بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسألوه أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها من دون الله، وهذا نفس الواقع اليوم، فإنَّ غالب الناس من المسلمين؛ قلدوا الكفار في عمل البدع والشركيات، كأعياد الموالد، وإقامة الأيام والأسابيع لأعمال مخصصة، والاحتفال بالمناسبات الدينية والذكريات، وإقامة التماثيل، والنصب التذكارية، وإقامة المآتم، وبدع الجنائز، والبناء على القبور، وغير ذلك‏.‏

  12. افتراضي

    الفصل الثالث‏:‏ موقف الأمة الإسلامية من المبتدعة، ومنهج أهل السنة والجماعة في الرّدّ عليهم
    1 ـ موقف أهل السُّنَّة والجماعة من المبتدعة
    ما زال أهل السنة والجماعة يردون على المبتدعة، ويُنكرون عليهم بدعهم، ويمنعونهم من مزاولتها، وإليك نماذج من ذلك‏:‏
    ‏(‏ أ ‏)‏ عن أم الدرداء قالت‏:‏ ‏(‏دخل عليَّ أبو الدرداء مُغضَبًا، فقُلتُ له‏:‏ ما لكَ‏؟‏ فقال‏:‏ والله ما أعرفُ فيهم شيئًا من أمر محمدٍ إلا أنهم يصلون جميعًا‏)‏ ‏[‏رواه البخاري‏]‏‏.‏
    ‏(‏ ب ‏)‏ عن عمر بن يحيى قال‏:‏ ‏(‏سمعتُ أبي يُحَدِّثُ عن أبيه قال‏:‏ كنا نجلسُ على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال‏:‏ أخرجَ عليكُم أبو عبد الرحمن بعد‏؟‏ قلنا‏:‏ لا، فجلس معنا حتى خَرجَ، فلما خرجَ قُمنا إليه جميعًا، فقال‏:‏ يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفًا أمرًا أنكرتُهُ، ولم أرَ - والحمد لله - إلا خيرًا، قال‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ إن عِشْتَ فستراه، قال‏:‏ رأيتُ في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى فيقولُ‏:‏ كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول‏:‏ هللوا مائة، فيهللون مائة، فيقول‏:‏ سبّحوا مائة، فيسبحون مائة، قال‏:‏ فماذا قلتَ لهم‏؟‏ فقال‏:‏ ما قلتُ لهم شيئًا انتظارَ رأيك، أو انتظار أمرك، قال‏:‏ أفلا أمرتَهُم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنتَ لهم أن لا يَشيع من حسناتهم شيء‏؟‏
    ثم مضى ومضينا معه؛ حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال‏:‏ ما هذا الذي أراكم تصنعون‏؟‏ قالوا‏:‏ يا أبا عبد الرحمن، حصى نعدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال‏:‏ فعدا سيئاتكم، فأنا ضامنٌ أن لا يضيعَ من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تُكسر، والذي نفسي بيده‏:‏ إنكم لعلى ملةٍ هي أهدى من ملة محمد، أو مُفتتحو باب ضلالة‏.‏ قالوا‏:‏ والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير، قال‏:‏ وكم مريد للخير لن يُصيبه‏!‏ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايمُ الله لا أدري لعل أكثرهم مِنكُم‏.‏ ثم تولَّى عنهم‏.‏ فقالَ عمرو بن سلمة‏:‏ رأينا عامة أولئك يطاعنوننا يومَ النهروان مع الخوارج‏)‏ ‏[‏رواه الدارمي‏]‏‏.‏
    ‏(‏جـ‏)‏ جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - فقال‏:‏ من أين أُحْرِمُ‏؟‏ فقال‏:‏ من الميقات الذي وَقَّتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرم منه، فقال الرجل‏:‏ فإن أحرمتُ من أبعد منه، فقال مالك‏:‏ لا أرى ذلك، فقالَ‏:‏ ما تكرهُ من ذلك، قال‏:‏ أكره عليك الفتنة، قال‏:‏ وأي فتنة في ازدياد الخير‏؟‏ فقالَ مالك‏:‏ فإنّ الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور/63‏]‏‏.‏
    وأي فتنة أعظم من أنك خُصِّصْتَ بفضل لم يُختَصّ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏ذكره أبو شامة في كتاب‏:‏ الباعث على إنكار البدع والحوادث نقلًا عن أبي بكر الخلال ص14‏]‏‏؟‏‏!‏
    هذا نموذج، ولا زال العلماءُ يُنكرونَ على المبتدعة في كل عصر، والحمد لله‏.‏
    2 ـ منهج أهل السنة والجماعة في الرد على أهل البدع
    منهجهم في ذك مبني على الكتاب والسنة، وهو المنهج المقنع المفحم، حيث يرودون شبه المبتدعة وينقضونها، ويستدلون بالكتاب والسنة على وجوب التمسك بالسنن، والنهي عن البدع والمحدثات، وقد ألَّفوا المؤلفات الكثيرة في ذلك، وردُّوا في كتب العقائد على الشيعة والخوارج والجهمية والمعتزلة والأشاعرة، في مقالاتهم المبتدعة في أصول الإيمان والعقيدة، وألفوا كتبًا خاصّة في ذلك، كما ألَّفَ الإمام أحمد كتاب الرد على الجهمية، والف غيره من الأئمة في ذلك كعثمان بن سعيد الدارمي، وكما في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وغيرهم، من الرد على تلك الفرق، وعلى القبورية والصوفية، وأما الكتب الخاصة في الرد على أهل البدع، فهي كثيرة، منها على سبيل المثال من الكتب القديمة‏:‏
    1- كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي‏.‏
    2- كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية، فقد استغرق الرد على المبتدعة جزءًا كبيرًا منه‏.‏
    3- كتاب إنكار الحوادث والبدع لابن وضَّاح‏.‏
    4- كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي‏.‏
    5- كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة‏.‏
    ومن الكتب العصرية‏:‏
    1- كتاب الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ‏.‏
    2- كتاب السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات للشيخ محمد بن أحمد الشقيري الحوامدي‏.‏
    3- رسالة التحذير من البدع للشيخ عبد العزيز بن باز‏.‏
    ولا يزالُ علماء المسلمين - والحمد لله - يُنكرون البدعَ ويردون على المبتدعة من خلال الصحف والمجلات والإذاعات وخطب الجُمع والندوات والمحاضرات، مما له كبير الأثر في توعية المسلمين، والقضاء على البدع، وقمع المبتدعين‏.‏
    الفصل الرابع‏:‏ في بيان نماذج من البدع المعاصرة
    وهي‏:‏
    1- الاحتفال بالمولد النبوي‏.‏
    2- التبرك بالأماكن والآثار والأموات ونحو ذلك‏.‏
    3- البدع في مجال العبادات والتقرب إلى الله‏.‏
    البدع المعاصرة كثيرة؛ بحكم تأخر الزمن، وقلة العلم، وكثرة الدعاة إلى البدع والمخالفات، وسريان التشبه بالكفار في عاداتهم وطقوسهم؛ مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لتتبعُنَّ سُنَنَ من كان قبلكم‏)‏ ‏[‏رواه الترمذي وصححه‏]‏‏.‏
    1 ـ الاحتفال بمناسبة المولد النبوي
    وهو تشبه بالنصارى في عمل ما يسمَّى بالاحتفال بمولد المسيح، فيحتفل جهلةُ المسلمين، أو العلماء المضلون في ربيع الأول أو في غيره من كل سنة بمناسبة مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ فمنهم من يقيم هذا الاحتفال في المساجد، ومنهم من يقيمه في البيوت، أو الأمكنة المعدة لذلك، ويَحضُرُ جموعٌ كثيرة من دعماء الناس وعوامهم، يعملون ذلك تشبهًا بالنصارى في ابتداعهم الاحتفال بمولد المسيح، عليه السلام، والغالبُ أن هذا الاحتفال علاوة على كونه بدعة، وتشبهًا بالنصارى، لا يخلو من وجود الشركيات والمنكرات، كإنشاد القصائد التي فيها الغلو في حق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجة دعائه من دون الله، والاستغاثة به، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغُلوِّ في مدحه فقال‏:‏ ‏(‏لا تُطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم؛ إنما أنا عبد، فقولوا‏:‏ عبد الله ورسوله‏)‏ ‏[‏رواه الشيخان‏]‏‏.‏ وقد يصب هذا الاحتفال اختلاط بني الرجال والنساء وفساد الأخلاق وظهور المسكرات وغير ذلك‏.‏
    الإطراءُ معناه‏:‏ الغُلُوّ في المدح، وربما يعتقدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحضُرُ احتفالاتهم، ومن المنكرات التي تصاب هذه الاحتفالات‏:‏ الأناشيد الجماعية المنغمة وضربُ الطبول، وغيرُ ذلك من عمل الأذكار الصوفية المبتدعة، وقد يكون فيه اختلاط بين الرجال والنساء، مما يُسبّب الفتنة، ويجرّ إلى الوقوع في الفواحش، وحتى لو خلال هذا الاحتفال من هذه المحاذير، واقتصر على الاجتماع وتناول الطعام، وإظهار الفرح - كما يقولون -؛ فإنه بدعة محدثة ‏(‏وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة‏)‏، وأيضًا هو وسيلة على أن يتطور، ويحصل فيه ما يحصل في الاحتفالات الأخرى من المنكرات‏.‏
    وقلنا‏:‏ إنه بدعة؛ لأنه لا أصل له في الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح والقرون المفضلة، وإنما حدث متأخرًا بعد القرن الرابع الهجري، أحدثه الفاطميون الشيعة، قال الإمام أبو حفص تاج الدين الفاكهاني - رحمه الله -‏:‏ ‏(‏أمَّا بعدُ‏:‏ فقد تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول، ويسمونه المولد، هل له أصل في الدين، وقصدوا الجواب عن ذلك مبيّنًا، والإيضاح عنه معينًا، فقلت - وبالله التوفيق -‏:‏
    لا أعلم لهذا المولد أصلًا في كتاب ولا سنة، ولا يُنقلُ عملُه عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطّالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكَّالون‏)‏ .‏
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏(‏وكذلك ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا‏.‏‏.‏‏.‏ من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا، مع اختلاف الناس في مولده، فإنَّ هذا لم يفعله السلف، ولو كان هذا خيرًا محضًا، أو راجحًا؛ لكان السلفُ - رضي الله عنهم - أحقَّ به منَّا، فإنهم كانوا اشد محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كان محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته، واتباع أمره وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بُعثَ به، والجهادُ على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان‏)‏ ‏‏.‏‏.‏‏.‏ انتهى ببعض اختصار‏.‏
    وقد أُلِّفَ في إنكار هذه البدعة كتب ورسائل قديمة وحديثة، وهو علاوة على كونه بدعة وتشبهًا، فإنه يجرُّ إلى إقامة موالد أخرى كموالد الأولياء والمشائخ والزعماء؛ فيفتح أبواب شرٍّ كثيرة‏.‏
    2 ـ التبرك بالأماكن والآثار والأشخاص أحياء وأمواتًا
    من البدع المحدثة‏:‏ التبرك بالمخلوقين، وهو لونٌ من ألوان الوثنية، وشبكة يصطاد بها المرتزقة أموال السذج من الناس، والتبرك‏:‏ طلب البركة وهي‏:‏ ثبوت الخير في الشيء وزيادته، وطلبُ ثبوت الخير وزيادته إنما يكونُ ممن يَملك ذلك ويقدر عليه، وهو الله سبحانه، فهو الذي ينزل البركة ويثبتها، أما المخلوق فإنه لا يقدر على منح البركة وإيجادها، ولا على إبقائها وتثبيتها، فالتبرك بالأماكن والآثار والأشخاص - أحياء وأمواتًا - لا يجوز؛ لأنه إما شرك، إن اعتقد أنَّ ذلك الشيء يمنحُ البركة، أو وسيلة إلى الشرك إن اعتقد أن زيارته وملامسته والتمسح به، سبب لحصولها من الله‏.‏
    وأما ما كان الصحابة يفعلونه من التبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم وريقه وما انفصل من جسمه صلى الله عليه وسلم، خاصة كما تقدَّم ‏‏؛ فذلك خاص به صلى الله عليه وسلم ولم يكن الصحابة يتبركون بحجرته وقبره بعد موته، ولا كانوا يقصدون الأماكن التي صلَّى فيها و جلس فيها؛ ليتبركوا بها، وكذلك مقامات الأولياء من باب أولى، ولم يكونوا يتبركون بالأشخاص الصالحين، كأبي بكر وعمر وغيرهما من أفاضل الصحابة، لا في الحياة ولا بعد الموت، ولم يكونوا يذهبون إلى غار حراء ليصلوا فيه أو يدعوا، ولم يكونوا يذهبون إلى الطور الذي كَلَّم الله عليه موسى ليصلوا فيه ويدعوا، أو إلى غير هذه الأمكنة من الجبال التي يُقالُ إنَّ فيها مقامات الأنبياء أو غيرهم، ولا إلى مشهد مبني على أثر نبي من الأنبياء‏.‏
    وأيضًا فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه بالمدينة النبوية دائمًا لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يُقبّلُه، ولا الموضع الذي صلى فيه بمكة وغيرها، فإذا كان الموضوع الذي كان يطؤه صلى الله عليه وسلم بقدميه الكريمتين، ويُصلي عليه، لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله، فكيف بما يقال إن غيره صلى فيه أو نام عليه‏؟‏ فتقبيل شيء من ذلك والتمسّح به قد علم العلماء بالاضطرار من دين الإسلام‏:‏ أن هذا ليس من شريعته صلى الله عليه وسلم ‏‏‏.‏
    3 ـ البدع في مجال العبادات والتقرب إلى الله
    البدع التي أحدثت في مجال العبادات في هذا الزمان كثيرة، والأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرعُ شيء منها إلا بدليل، وما لم يدل عليه دليلٌ فهو بدعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏ ‏[‏رواه مسلم‏]‏‏.‏
    والعبادات التي تمارس الآن ولا دليل عليها كثيرة جدًّا، منها‏:‏
    الجهر بالنية للصلاة‏:‏ بأن يقول‏:‏ نويت أن أصلي لله كذا وكذا، وهذه بدعة؛ لأنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحجرات/16‏]‏‏.‏
    والنية محلها القلب، فهي عمل قلبي لا عمل لساني‏.‏
    ومنها‏:‏ الذكر الجماعي بعد الصلاة؛ لأن المشروع أن كل شخص يقول الذكر الوارد منفردًا‏.‏
    ومنها‏:‏ طلب قراءة الفاتحة في المناسبات، وبعد الدعاء، وللأموات‏.‏
    ومنها‏:‏ إقامة المآتم على الأموات، وصناعة الأطعمة واستئجار المقرئين، يزعمون أن ذلك من باب العزاء، أو أن ذلك ينفع الميت، وكل ذلك بدع لا أصل لها، وآصار وأغلال ما أنزل الله بها من سلطان‏.‏
    ومنها‏:‏ الاحتفال بالمناسبات الدينية، كمناسبة الإسراء والمعراج، ومناسبة الهجرة النبوية، وهذا الاحتفال بتلك المناسبات لا أصل له في الشرع‏.‏
    ومن ذلك‏:‏ ما يفعل في شهر رجب، وما يفعل فيه من العبادات الخاصة به، كالتطوع بالصلاة والصيام فيه خاصة، فإنه لا ميزة له على غيره من الشهور، لا في الصيام والصلاة والذبح للنسك فيه، ولا غير ذلك‏.‏
    ومن ذلك‏:‏ الأذكار الصُّوفية بأنواعها، كلها بدع ومحدثات؛ لأنها مخالفة للأذكار المشروعة في صيغها وهيئاتها وأوقاتها‏.‏
    ومن ذلك‏:‏ تخصيصُ ليلة النصف من شعبان بقيام، ويوم النصف من شعبان بصيام، فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء خاص به‏.‏
    ومن ذلك‏:‏ البناء على القبور، واتخاذها مساجد، وزيارتها لأجل التبرك بها، والتوسل بالموتى، وغير ذلك من الأغراض الشركية، وزيارة النساء لها؛ مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج‏.‏
    وختامًا نقول‏:‏ إنَّ البدعَ بريد الكفر، وهي زيادة دين لم يشرعه الله ولا رسوله، والبدعة شر من المعصية الكبيرة، والشيطانُ يفرحُ بها أكثر مما يفرح بالمعاصي الكبيرة؛ لأنَّ العاصي يفعل المعصية وهو يعلم أنها معصية فيتوب منها، والمبتدع يفعل البدعة يعتقدها دينًا يتقرب به إلى الله، فلا يتوب منها، والبدع تقضي على السُّنن، وتُكَرِّه إلى أصحابها فعل السنن وأهلَ السنة‏.‏
    والبدعة تباعد عن الله، وتُوجبُ غضبه وعقابه، وتسبب زيغ القلوب وفسادها‏.‏
    ما يعامل به المبتدعة
    تحرُمُ زيارة المبتدع ومجالسته إلا على وجه النصيحة له والإنكار عليه؛ لأن مخالطته تؤثر على مخالطه شرًا، وتنشر عداوته إلى غيره، ويجب التحذير منهم، ومن شرهم، إذا لم يكن الأخذ على أيديهم، ومنعهم من مزاولة البدع، وإلا فإنه يجب على علماء المسلمين وولاة أمورهم منع البدع، والأخذ على أيدي المبتدعة، وردعهم عن شرهم؛ لأن خطرهم على الإسلام شديد، ثم إنَّهُ يجب أن يُعلمَ أن دول الكفر تشجع المبتدعة على نشر بدعتهم، وتساعدهم على ذلك بشتى الطرق؛ لأن في ذلك القضاء على الإسلام، وتشويه صورته‏.‏
    نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه، ويُعلي كلمته، ويخذل أعداءه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه‏.‏

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء