لله ما أخذ، وله ما أعطَى، وكل شيء عنده بقدْر مسمَّى. العينُ تدمع والقلب يحزن، ولستُ أقول إلا ما يُرضِي الرب. فإنا للَه وإنّا إليه راجعون؛ تسليمًا لِمَا أمضاهُ، ورِضَىً بما قضاهُ.
أكتبُ تلك الكلمات ودمْعُ العيون لا يزال واكفًا، وحُزْنُ القلوب على سُوَيْدائها ما بَرِحَ عاكفًا، ماذا أقول بعد أنْ مَدَّ الهمُّ إلى جسْمِي يدَ التجريح والسَّقْم، وجَرَّ الأسَى على مَقَاسِمِي ذيولَ الدمع بالدّمِ.
ماتت أمي بعد أنْ رَمَتْني (بفراقها) بسهم أصاب مني كلَّ مَعْقِد ومَفْصِل، ولنْ يزال بالقلب حسرات عليها حتى ألقاها.
قد شاء الله أنْ أُبَاشِر غُسْلَها بيدي (مع مساعدة بعضهن)، فكلما قلَّبْتُها ذات اليمين وذات الشمال أرَى يشائر الرضا على قَسَمات وجهها بارقة مُضِيئة، مع السكينة والوقار وجمَال الطُّمَأنِينة.
الآن بدأتْ تطْرُقُنِي عيونُ المُواساة: اصبِرْ شيخنا. تجمَّلْ مولانا. رِفْقًا أُستاذنا!
وأنا أقول في نفسي:
ومَا تنفعُ الآدابُ والعلمُ والحِجَا ... وصاحبُها عند التمام يَمُوتُ!الله المستعان. فإن المصيبة أعظم مِن أن توصَفَ بحال. ومصيبتنا في مولانا وسيدنا أبي القاسم (صلى الله عليه وسلم) أعظم وأشد وأبقَى.
وكذا مصيبتنا في أسلافنا الأوائل: أبي بكر وعمر وعثمان وعلِيّ والحسن والحسين ومَنْ سار على دَرْبهم مِن شموس الأئمة، وأقمار الأمة.
بل يعلم الله أنّ حُزْني على إخواننا المعذَّبِين الآن في جَنَبات الأرض، والشارِدِين في بلْدانها بالطول والعَرْض= لا يقِلّ عن حُزني بأهلي وأحبابي.
ولن تزال الكبد لهؤلاء حَرَّى، والعين عَبْرَى، والنفس حَيْرَى، والهم عليهم طارِقٌ ووارِد، والأُنْسُ مِن أجلهم طائِر شارد.
وإذا صح لي تعزيةُ نفسي بفقِيدة نفْسي، وتسْلِية قلبي بحبِيبة قلبي، فيكفي أنْ أنْفُثَ هنا تلك الأبيات؛ علَّها تكون ترياقًا لِنَازِلاتِ أحزاني، ودواءً ناجعًا لباعثات آلامِي وأشجاني.
أُمَّاه يا روحِي ومُقْلةَ ناظري *** وجمالَ نفْسي إنْ عَراهُ فُتور
يا بسْمةً كانتْ على الثَّغْر الذي *** ما إنْ بدا فاحتْ هناك عُطور
قد كنتِ لي نورَ الحياة وشمْسَها *** فغدوتُ أعمَى في الظلام يسير
ضحكاتُ فرحُكِ لا تزال تهزُّني *** وتُطيلُ أنَّاتِ الْجَوَىَ وتُثِير
دقَّاتُ قلبُكِ في الفؤاد طوارقٌ *** يصْدعْنَ نفسي والإلهُ خبير
أُمَّاه قد عظم المصاب وإنني *** أبداً على العهد القديم أسِير
كأسُ المنيَّةِ قد أصابكِ بغْتةً *** فَشَرَبْتِ ماء الموتِ وهْو مَرِير
قد كان لا يحلو غيابُكٍ ساعةً *** كيف التَسَلِّي والغيابُ دهور
يا ليتني قد كنتُ قبلكِ ثاويًا *** حُفَرَ الترابِ فَيَشْتفي المصْدُور
ما طابَ عيشي في الحياة رفِيقَتِي*** مُذْ غاب بدرُ جَمالكِ المستور
كبدي يَسيل مرارة أبدًا وإنْ *** مرَّتْ عليَّ صوارفٌ وعُصور
فإلى اللِّقاء حبيبتي في عالمٍ *** ما فيه حُزْنٌ بل هناك سرور
في جنَّةٍ فيها الأحبَّةُ تلْتقي *** والرَّبُّ راضٍ .. والشَّرابُ طَهُور
Bookmarks