النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: حجاب الإماء: مباعث الاشتباه!

  1. افتراضي حجاب الإماء: مباعث الاشتباه!

    الحمد لله كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألّا إله إلا الله وحده، وأنّ محمدًا رسوله وعبده، وبعدُ..

    فإنّ موضوع حجاب الأمة رغم اندراس أسباب نقاشه، يُعدّ من المواطن التي تُشكِل على كثيرٍ من الناظرين، فمتصبّرٌ يرجو أن يقف على الحكمة والتعليل، ومتعجّل يبادر بالإعراض والتشكيك، وهو من المواطن التي تشارك طوائف مختلفةٌ في اتخاذها موضعًا لشبهةٍ تتخطّف القلوب لغاياتٍ شتّى، فيتخذها العلمانيون والليبراليون والجمعيات النسوية الحداثية كسبيلٍ للطعن في الحجاب، ويتخذها الملحدون والمشككون كسبيلٍ للطعن في حكمة التشريع، ويتخذها العقلانيون كسبيلٍ للطعنِ في المنقول، من أجل ذلك عزمتُ على تفصيل القول في هذه المسألة، بالرغم من أنّها لا يندرج تحتها عملٌ في أيامنا هذه، والله أسأل أن يلهمني رشدي ويرزقني الإخلاص والقبول والسداد!

    إنّ الأزمة في النظر في مسألة حجاب الأمة تنبع من عدة جهات:

    الجهة الأولى: الخلط بين المقصد وتفاصيل الأحكام!

    إن الشريعة الإسلامية أتت بمقاصد عامة منها ستر الأبدان لحفظ الأعراض، والعقل يحكم بحسن هذا المقصد إجمالًا، أمّا التفاصيل فلا يمكن الوقوف عليها بالعقل وحده، وذلك كمثل حكم العقل بحسن الزواج لحفظ النسل والعرض، لكن تفاصيل أحكام الزواج ليس للعقل أن يقف على أحسن ما تكون به، فمثلًا: ما قول العقل في زواج الأقارب؟ وما حد الأقارب الذين لا يحسن الزواج بهم؟! وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في التحسين والتقبيح العقلي، أنّ العقل يعرف الحسن والقبح إجمالًا، لكن الوقوف على التفاصيل لا يكون إلا بالشرع.

    وسبب الإشكال هو ما يلجأ إليه كثيرٌ من الدعاة من تضخيم قضية الحجاب(1) ، فرغم أهمية القضية إلّا أنّ بعض الدعاة قد رفعها فوق قيمتها، حتى أوشك أن يُلحقها بقضايا العقيدة من حيث الأثر، فخطاب بعض المطويات والملصقات على الجدران لنساء المؤمنين قد يصل حدّ قولهم "البسي حجابك لتتحرر القدس!"، وهذه قصة تُذاع أن امرأةً منتقبةً قد ضاع ابنُها فنصحها الناس أن تكشف وجهها ليعرفها ابنها فقالت "يضيعُ ابني ولا يضيع حيائي!"(2) ، وما شابه ذلك من القصص والتوجيهات التي تضع الحجاب والنقاب بكافة تفاصيله في مقام الأصول الكبار، ليس بصريح العبارة ولكن بالاهتمام وتضخيم الأثر!

    أورث ذلك المسلمين عمومًا والمتابعين والمتأثرين بالخطاب الدعوي خصوصًا، أورثهم خلطًا لاشعوريًّا بين قيمة الستر والحشمة وتفاصيل الحجاب، فتجد أحدهم مثلًا ينفي وقوع الخلاف في تغطية المرأة لوجهها ويدّعي الإجماع على وجوبه، وتجد من ينفي أن تكون هناك امرأةٌ على خلق كاشفةً لشعرها، هذه الأحوال هي التي تجعل الواحد من أولئك المتأثرين يحسب أن أيّ تغيير في تفاصيل الحجاب لا يمكن أن توجد في الشرع، وأنّ أية إباحةٍ لكشف شيءٍ من جسد المرأة مهما كانت حال تلك المرأة، حتى لو كانت تلك الإباحة في شريعةٍ سابقة، يشعر هذا المتأثر أن التغيير هو نقضٌ للمبدأ وليس تغييرًا في التفاصيل!

    وقبل هذا التضخيم وما أورثه من خلط، قبل ذلك كان فقهاء المسلمين يتناولون مسألة حجاب الأمة بهدوءٍ واختصار، دون أن يعد أحدهم قوله أو ترجيحه من الدعوة لانحلال المؤمنات، كان فقهاء المسلمين يتكلمون عن جواز كشف الأمة لشعرها دون أن يستشعر أحدهم أنّه يدعو لنشر الفاحشة، معقولٌ جدًّا أن ترى امرأةً تكشف شعرها وهي في نفس الوقت محتشمةٌ ومحافظةٌ وعلى خلق، ترى ذلك في شوارع أوربا لا تنكره، وتراه في نساء النصارى في بلادنا فلا يكون كشف شعورهن في حد ذاته قرينةً على الانحلال، بل فيهن المحافظة والعفيفة بلا جدال، هناك فرقٌ بين الفاسدة ذات الخلق المنحل والمحافظة وإن كانت كاشفةً لشعرها، نعم .. تكون عاصيةً إن خالفت أمر الله، ولا تكون آثمةً إن كان الأمرُ لم يرد بالتغطية، لكن كشف الشعر في حد ذاته ليس دليلًا على زوال حسن الخلق والحشمة والستر وزوال كل جميل!

    بكلماتٍ أو أسطرٍ قليلة يقرّر الفقيه القديم ويرجّح، ولا يلجأ لإبطال قولٍ من جهةٍ أخلاقيةٍ إلا إن شعر أن هذا القولَ يُنافي مبدأ الستر أصلًا، كقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقًا على نسبة القول بأنّ عورة الأمة هي السوءتان فحسب للإمام أحمد بن حنبل، هنا قال رحمه الله: "وقد حكى جماعةٌ من أصحابنا رواية إن عورتها السوءتان فقط كالرواية في عورة الرجل، وهو غلطٌ قبيحٌ فاحشٌ على المذهب خصوصًا وعلى الشريعة عمومًا، فإنّ هذا لم يقله أحدٌ من أهل العلم، و كلام أحمد أبعد شيءٍ عن هذا القول، وإنما كان يفعل مثل هذا أهلُ الجاهلية .. حتى نهى الله تعالى عن ذلك وأمر بأخذ الزينة عند المساجد و سمّى فعلهم فاحشة"(3) اهـ، وماعدا ذلك من التفاصيل لا يبطلها الفقهاء بالتشنيع الأخلاقي عليها كما سيأتي بيانه، وهكذا لو أنّ النفوس تخلّصت من إسار مبالغات الخطاب الحالي واعتقال الوهم المبثوث، لأمكن لهذه الأنفس ألّا ترى في تغيير تفاصيل الحجاب بما لا يضرُّ بالستر شبهةً أو أزمةً كما سيأتي!

    الجهة الثانية: التزام المساواة!

    وهذه الجهة هي مبعث الشبهة من قِبل الليبراليين والعلمانيين، فهم لا يمانعون أن تكشف الأمة أو الحرة شعرها وكثيرًا غير ذلك، ويذرون لها تمام الحرية في ذلك الباب، وإنما مبعث شبهتهم عدم المساواة بين الحرة والأمة، يتخذون عدم المساواة سُلّمًا للطعن في الحكم كله، والصواب أنّ المساواة ليست شرطًا في حسن التشريع، بل الطعن يأتي من التفريق بين المتماثلين، أمّا إن وقع الاختلاف فالمنطقي أن يكون هناك تفريق، وأنت ترى أنّ هناك فرقًا بين عورة المرأة وعورة الرجل، ومع ذلك لا يثير عدم المساواة بين الرجل والمرأة كثيرًا من الاعتراض، ذلك أنّ الاختلاف بين الرجل والمرأة اختلافٌ ظاهر، وبالتالي فالتفرقة بينهم معقولةٌ مقبول، وعلى ذلك فلو أنّ المعترض وعى الاختلاف بين الأمة والحرة لعرف سر التفرقة، ولقبل الفرق بينهما كما يقبل الفرق بين الرجل والمرأة!

    وليست مسألة الحجاب هي المسألة الوحيدة التي وقع التفريق فيها بين الأمة والحرة، بل عدّ بعض أهل العلم المسائل التي وقع فيها الفرق بين الحر والعبد فزادت على الخمسين مسألة (4) ، ومن تلك المسائل مثلًا تخفيف حد الزنا على الإماء بقوله تعالى "فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحصَنَاتِ مِنَ العذاب" (النساء: 25)، فليس عليهن رجم وعلى من زنت من الإماء نصف حد الجلد لتكون على النصف من الحرة، فهناك من يرفض هذه التفرقة نفسها حتى ولو كانت تخفيفًا على الإماء، وهذا اعتراض من لا يفقه شيئًا من طرائق الشرائع والقوانين، لأن التفرقة في حد ذاتها ليست نقصًا في التشريع، بل التسوية بين المختلفين والتفرقة بين المتماثلين هي محل النقص والانتقاد، وما من تشريعٍ إلا ويفرّق بين الجرائم في العقوبة، وبين الرعايا في الواجبات والحقوق وفقًا لما يناسب الأحوال! ولذلك فوجود الفرق بين الأمة والحرة بما يفسّر سبب التفرقة في الحجاب ينفي الشبهة من هذه الجهة، لأن مجرد التسوية لا فضيلة فيها ولا نقص دون اعتبارٍ بحال المكلفين!

    الجهة الثالثة: عدم تصوّر واقع الإماء في المجتمع!

    ذلك أنّ عصر الإماء والعبيد قد انقضى منذ زمان، وكلّ المتكلمين في المسألة ما عايش حياة الإماء والعبيد، وأغلبهم لم يقرأ شيئًا يصوّر له هذه الحياة ويقرّبها قبل أن ينتهض للاعتراض، وسوء التصور هذا يورث غلطًا في الفهم والاستقبال ولا شك، فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ومن ذلك قوله تعالى "وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ" (النساء: 25)، فيتصور من لا يدري أن في هذا انتقاصٌ من الأمة المؤمنة، مع أنّ الله عز وجل قال " وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ" (البقرة: 221)، ومع أنّ القضية أنّ المسلم لو تزوج أَمةً فسيكون ابنه عبدًا لسيد الأمة(5) ، في حين لو لم يتزوجها وأنجبت من صاحبها فسيكون ابنها حرًّا وتصير هي أمّ ولدٍ لا يُفرّق بينها وبين ولدها، وإن لم يُعتقها أبو ولدها فإنّها تصير حرةً بوفاته، ولو شُرع أن تكون حرةً بمجرد زواجها لعضلها سيدها ومنعها من الزواج!

    يقول ابن عاشور رحمه الله في تفسيره: "وقوله (من فتياتكم) للتقريب وإزالة ما بقي في نفوس العرب من احتقار العبيد والإماء والترفع عن نكاحهم وإنكاحهم، وكذلك وصف (المؤمنات) وإن كنا نراه للتقييد فهو لا يخلو مع ذلك من فائدة التقريب.... ومن تلك المعاني أنه تعالى أمر بنكاح الإماء عند العجز عن الحرائر، وكانوا في الجاهلية لا يرضون بنكاح الأمة وجعلها حليلة، ولكن يقضون منهن شهواتهم بالبغاء، فأراد الله إكرام الإماء المؤمنات جزاءً على إيمانهن، وإشعارًا بأنّ وحدة الإيمان قربت الأحرار من العبيد"، وقال في بيان تقديم الحرة على الأمة في النكاح: "إذا استطعتم الصبر مع المشقة إلى أن يتيسر له نكاح الحرة فذلك خيرٌ لئلا يوقع أبناءه في ذل العبودية المكروهة للشارع لولا الضرورة، ولئلا يوقع نفسه في مذلة تصرف الناس في زوجه"، فانظر كيف يؤدي عدم العلم بالواقع إلى قلب الإحسان في الآية إلى شبهة وانتقاص!!

    يتصور أحدهم أن الأمة مثلها مثل الخادمة في أيامنا هذه، وأنّ اللاتي يضطرهن الحال للعمل في خدمة البيوت هنّ كمثل الإماء قديمًا، وفي عدد غير قليلٍ من الأسئلة التي تُوجه لجهات الإفتاء وأهل الفتوى تجد خلطًا بين الخادمات والإماء، وهذا التصور البئيس يلعب دورًا رئيسًا في إثارة الشبهة المتعلقة بحجاب الإماء، وسوف أضع تقريبًا لوضع الإماء ييسر للقارئ تصور حالهن والقدرة على تفهّم الأحكام المتعلقة بهن!

    الجهة الرابعة: الانسياق لأثر الغيرة مطلقًا!

    وذلك أنّ جلّ من يتكلم في موضوع حجاب الأمة من المتدينين، يتصور تلك الأمة من نساء بيته، فيغار ويرفض خروجها إلا أن تكون مستورةً كالحرة، يريدها أن تغطي كل جسمها، فهو لا يريد أن تكشف الأمة شيئًا يزيد على ما تكشفه الحرة من جهة غيرته عليها، يقول ابن عثيمين رحمه الله في توصيف هذا الواقع "وكثيرٌ من ذوي الغيرة من الناس تجدهم يميلون إلى تحريم ما أحل الله أكثر من تحليل الحرام، بعكس المتهاونين، وكلاهما خطأ"(6)، وفي الحديث "إنَّ من الغَيْرة ما يحبُّ الله ومنها ما يكره الله؛ فالغَيْرة التي يحبُّها الله الغَيْرة في الريبة، والغَيْرة التي يكرهها الله الغَيْرة في غير ريبة" (رواه أبو داود والنسائي وحسنه ابن حجر والألباني).

    والشرع الحنيف يُراعي هذه الغيرة في أحكامه، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يريد أن تُحجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح أنّه قال لرسول الله: احجب نساءك! فلم يفعل صلى الله عليه وسلم، وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن ليلًا إلى ليل قبل المناصع، فخرجت سودة بنت زمعة وكانت امرأةً طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس فقال: عرفتك يا سودة! حرصًا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله عز وجل آية الحجاب، فعاد الفاروق يريد أن يزيد الأمر عن الحجاب في الملبس، فتحجب النساء في البيوت، إذ خرجت سودة بنت زمعة-كما في الصحيح- ليلًا فرآها عمر فعرفها، فقال: إنّك والله يا سودة ما تخفين علينا! فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له وهو في حجرة عائشة رضي الله عنها يتعشى وإن في يده لعرقا، فأنزل الله عليه فرفع عنه وهو يقول: "قد أذن الله لكنّ أن تخرجن لحوائجكن"!

    هكذا يخالف الشرعُ في الجانب الذي يؤدي إلى التضييق على النساء، ومن تلك المخالفة لظنون الغيرة وآثارها نهيه صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلًا يتخونهم أو يطلب عثراتهم (رواه مسلم)، ومن تلك المخالفة كذلك ما رواه مسلم أنّ سعد بن عبادة الأنصاري قال: يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا!، قال ابن عبد البر رحمه الله معلقًا: "يريد -والله أعلم- أن الغيرة لا تبيح للغيور ما حرم عليه، وأنه يلزمه مع غيرته الانقياد لحكم الله ورسوله، وأن لا يتعدى حدوده، فالله ورسوله أغْيَر"(7).

    وهكذا نرى أن الشريعة قد أتت بمراعاة المحمود من هذه الغيرة كما وافقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بعض مراده، وأتت أيضا برد المذموم منها وإلجامه بالأدلة المحكمة، ومن أفضل ما يفيد في مقامنا ما ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا استأذنت أحدَكم امرأتُه إلى المسجد فلا يمنعها، فقال ابنه بلال: والله لنمنعهن! فأقبل عليه عبد الله فسبه سبًّا سيئًا ما سبّه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول والله لنمنعهن!؟ (متفق عليه)!

    فكون المرء يغار لا يمنحه الحق في أن يحكم على فعله بالصواب، بل قد تؤدي الغيرة إلى بغيّ على الناس، وتضييقٍ على النساء، واضطرابٍ في العلاقات الأسرية، وهذه الغيرة لا تصلح منطلقًا لتقويم الأحكام، وإنّما ندعو الله أن يذهب بكل غيرةٍ لا تنضبط بأحكام الشرع وتؤذي الخلق، كما قالت أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبها إنّ لها بنتًا وإنّها غيور، فقال: "أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة" (رواه مسلم)!

    وبعد بيان هذه المباعث الأربعة والتي تؤثر في النظر، فيحسب المرء أن هناك شبهة في الحكم، أرجو أن يتخلص القارئ من أية صورةٍ مغلوطةٍ عن الإماء بناها على تخيلاتٍ محضة، وأن يدع عنه التهويل الخطابي لقضية الحجاب ليتم وضعها بكل تفاصيلها في مصاف الأصول الكبار من جهة الأثر، وأن يدع عنه الغيرة المذمومة والانسياق لها، ويكتفي بما يستصحبه من حسن الحياء والحشمة والستر في الجملة، لننظر في الحكم ومناسبته للمكلّف دون توهمٍ أنّ المساواة مطلبٌ من مطالب التشريع ومعيارٌ من معيار الحكم بالصواب، وإنما الشأن في مناسبة الحكم لمقتضى الحال وهذا الذي سنراه قد وقع في حكم حجاب الإماء إن شاء الله!

    -------

    الهامش:
    (1) المقصود هو بيان تضخيم قضية الحجاب وأثرها في الشبهة، وليس المقصود التعرض لدراسة أسباب هذا التضخيم والبحث في كونه كان ردّ فعلٍ لدعاوى التغريب والتحرر أم كان إنشاء فعل، ولا المقصود البحث في مناسبته كرد فعل لدعاوى التحرر، فكل هذا خارج محل البحث.
    (2) ولستُ أورد هذه القصة عاتبًا على المرأة، وإنما الشأن في كون هذه القصة حدثت أصلا أو لا، وفي استعمال هذه القصة لبيان التقصير الذي تقع فيه بعض النساء بكشف الوجه، والحياء ليس قيمة مطلقة حاكمة على ما سواها لا يقف أمامها شيء، بل قد تتنازعه قيمٌ أخرى فتغلب عليه، والله عزّ وجل "حيي كريم" وفي الآية " إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ" ، وأم سليم رضي الله عنها لما جاءت تسأل عن غسل المرأة قدّمت بقولها "إن الله لا يستحي من الحق" كما ثبت في الصحيح.
    (3) ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 – 272،273).
    (4) جلال الدين السيوطي- الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية – صفحة 226 فما بعدها.
    (5) وقد راعي الإسلام في هذا المقام هذا المولود، فجعل الزواج بالأمة آخر الاختيارات بعد الزواج بالحرة والقدرة على الصبر ثم يأتي الزواج بالأمة، ومراعاته هي الأساس في توجيه الأمر في الآية الكريمة كما يتضح من كلام ابن عاشور رحمه الله في تفسير الآية، فإن أبى أحدهم ولم يجد ولم يصبر ثم تزوج بأمة، فما العمل؟!
    لو قلنا تصير الأمة حرة بمجرد الزواج : سيعضلها سيدها ويمنعها من الزواج، ولو قلنا تبقى أمة ويصير ابنها حرا: ستكون تلك تفرقة بين الأم وابنها، وعلوًا للابن على أمه.
    وهاهنا تظهر معضلة: هل يعلو على أمّه ويُلحق بأبيه لحريته أم يكون عبدًا له حسن المعاملة وإمكانية المكاتبة؟
    لا أحسب أن الإجابة على سؤال كهذا سهلا، نعم هي مسألة معضلة والتعامل معها شائك، لكن لا يُقال إن اختيار أحد الاختيارين من الوضوح والسهولة بمكان من الناحية الأخلاقية بحيث لا نفكر مائة مرة قبل اتخاذ الحكم، ولذلك فالمقصود أنّه في الجملة لا يوجد في التعامل الإسلامي مع قضية العبودية شيءٌ واضح البطلان من الناحية الأخلاقية، وإنما ستجد الحيرة العقلية متعلقة ببعض الأمور المعضلة فعلا، وهنا يمكن مطالبة الخصم –حتى لو كان ملحدًا- بالتسليم مادمنا وصلنا لنقطة محيرة مشكلة، مثل مقارنة مقام الأمومة المستقيمة بمقام الحرية مثلا .. الحكم ليس سهلا نعم، لكن لا نستطيع أن نتهم أيًّا من الاختيارين بالبطلان، ويمكننا أن نحكم من خلال الأثر بالنظر إلى شهادات من رأى التعامل مع الإماء والعبيد في ديار المسلمين من غير المسلمين وأعجب بحسن المعاملة، وفي النهاية فهذا مثال يدل على ما يؤدي إليه سوء تصور وضع الإماء إلى سوء فهم النصوص وإن كانت علاقته بموضوع حجاب الإماء الذي هو محل المقالات بعيدة.
    (6) مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين- 10:732.
    (7) التمهيد لابن عبد البر – تحقيق: سعيد أحمد أعراب- 21:256.
    " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "
    صفحتي على الفيسبوك - صفحتي على تويتر.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Aug 2011
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,970
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    5

    افتراضي

    جزاك الله خير الجزاء دكتور حسام ، أسأل الله لك دوماً التوفيق والسداد .
    لي تعقيب على قول حضرتك :
    فخطاب بعض المطويات والملصقات على الجدران لنساء المؤمنين قد يصل حدّ قولهم "البسي حجابك لتتحرر القدس!"،
    أتفهم وجهة نظر حضرتك أن ذاك مبالغ فيه وأنه ليس بالحجاب وحده ستتحرر القدس ، غير أن من قال ذلك من الدعاة أو فعله إنما قصد أن ترك الحجاب ذنب والذنوب تأتي بالمصائب بنص القرآن الكريم : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ )
    الإنسان - نسأل الله العافية والسلامة والثبات - إذا لم يكن له عقيدة ضاع، اللهم إلا أن يكون قلبه ميتا، لان الذي قلبه ميت يكون حيوانيا لا يهتم بشيء أبداً، لكن الإنسان الذي عنده شيء من الحياة في القلب إذا لم يكن له عقيدة فإنه يضيع ويهلك، ويكون في قلق دائم لا نهاية له، فتكون روحه في وحشة من جسمه
    شرح العقيدة السفارينية لشيخنا ابن عثيمين رحمه الله .

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    المشاركات
    1,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    2

    افتراضي

    جزاك الله خيرا على هذا المخطوط النافع .. فعلا بدأت ألاحظ تضخيما للفرعيات من طرف بعض الإخوة الدعاة، وعموما المسألة أيضا فيها عدم ضبط لأصول الفقه، وهو ما يسبب هذا التضخم وربما في بعض الأحيان تسطيحاً للناس، وقد لاحظ الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله تعالى هذا الشيء عند بعض الحركات الدعويّة وذكر بعضا من ذلك في كتابه " الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب ".ونبه في فصله الأخير إلى المبالغات الحاصلة خاصة في النقاش الفقهي.

    وفقكم الله.

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء