فنقول إن هذا التعارض المزعوم بين القدر والاختيار مخالف للنقل والعقل والحس جميعا.
فأما مخالفته للنقل فإن الله تعالى قد قرر في محكم التنزيل أن الإنسان مختار لنفسه، وأنه قد ألهم الفجور والتقوى (أي أوتي من التمييز والعقل ما به يرى الحق بدليله والباطل بدليله، فيختار على علم)، فارتهنت نفسه يوم البعث بما كسب وبما عملت يداه، فحق عليه الجزاء وقامت عليه حجة ذلك، واعترف يومها بما اقترف، فلا ظلم ولا بخس، وهذا مستفيض في القرءان، منها على سبيل المثال لا الحصر:
((لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)) [البقرة : 286]
((كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)) [المدّثر : 38]
((فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)) [آل عمران : 25]
((لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) [إبراهيم : 51]
((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)) [آل عمران : 30]
((ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ)) [آل عمران : 182]
((هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ)) [الأعراف : 53]
((وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ)) [فاطر : 37]
((وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)) [آل عمران : 145]
فهذا المعنى مستفيض في القرءان، ومع ذلك يقول جل في علاه:
((وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) [الإنسان : 30]
((مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)) [الأعراف : 178]
ويقول كذلك جمعا بين المعنيين:
((بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ)) [الروم : 29]
((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)) [الجاثية : 23]
فانظر كيف أن هذا الكفار قد اختار اتخاذ الهوى إلها، اختيار حرا على علم مسبق، ومع هذا، فقد كان - في نفس الوقت - موصوفا بأن هذا إضلال من الله له، وبأنه لا يهديه أحد من دون الله قطّ إن كان الله قد كتب عليه خاتمة الضلالة (نسأل الله العافية)!
لقد سأل الصحابة رضي الله عنهم - وهم أبر الناس قلوبا وأنقاهم عقولا - رسول الله صلى الله عليه وسلم، في وجه كونهم مطالبين بالعمل والسعي في الحياة الدنيا مع أن آجالهم قد قدرها الله لهم من قبل أن يخلقهم، فقال بأبي وأمي: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له". هذه الكلمات المعدودات، من جوامع الكلم، وفيها فقه المسألة لمن عقلها وتدبرها، نسأل الله الرشاد.
فالنبي عليه السلام يقرر أن أعمالنا هذه قد كتبت وقضي أمرها من قبل أن نخلق، ومع ذلك فقد أوجب الشارع علينا أن نسعى وأن نختار، مع علمنا بأننا مهما اخترنا من أمرنا فلن نخرج عما كتبه الله لنا من قبل خلقنا، ولكننا معاشر المخاطبين بالرسالات لن نصل إلى ذلك الذي كتبه الله إلا من طريق تقوم به حجة الحساب علينا يوم الحساب، ألا وهو خيارنا الذي اخترناه فيما بين أيدينا من الأمر، وعلمنا بالحس والمشاهدة والعقل جميعا أننا قد اخترناه لأنفسنا ولم نجبر عليه، وكان بوسعنا أن نختار خلافه قبل الإقدام عليه ولكننا اخترناه بعلم ورضى. فهذا هو وجه استحقاقنا للأجر أو العقوبة، فيما علمناه من معنى الثواب والعقاب والعدل وتقرر عندنا بموجب اللغة والحس والقياس العقلي المجرد.. وبهذا لا تقوم لأحد حجة يوم القيامة إن أراد الاحتجاج بالقدر، فقد أحياه الله وأبقاه في الأرض ما كان يسعه به أن يختار خلاف ما اختار، وكان يعلم عاقبة ما ارتضاه لنفسه من اختيار، فلما جاءه أجله، خرج من الدنيا على نحو قد اختاره بعلم فاستحق ما قامت عليه الحجة به!
وهذا وجه قولنا إنه لا تعارض في الحس والمشاهدة والعقل كذلك، فنحن نرى أننا مختارون وندرك ذلك ولا نجهله، ولا نرى جبرا من أحد على أفعالنا، ولا نرى "تسييرا" لأفعالنا بقوة خارجية تغلب إراداتنا وتقهرنا فلا نملك لها دفعا! وفي الوقت نفسه فإننا نقرر بضرورة العقل أن هذا الكون لا ينضبط إلا بخالق قد كتب في تقديره لكل ذرة من ذراته مستقرا ومستودعا، على علم مسبق تام بما هو كائن في كل ركن من أركان خلقه، فلا يأتي حدث من الأحداث فيه إلا وقد علمه وقدره تقديرا، وعلم ما كان قبله وما هو كائن بعده، وما كان من سواه من احتمالات أخرى لو كانت كيف يكون الحال، وإلا فإن تخلف هذا الوصف عن الخالق = نقص وجهل تأباه العقول السوية في حقه، ولا حقيقة له إلا خروج ذلك الكون عن حكمه وسلطانه التام، ومصيره إلى ورود الخلل على نظامه المحكم، ثم إلى الفوضى والزوال، وهذا باطل بيّن بالعقل والحس جميعا.
وفي الحقيقة فإن سبب الخلل الذي ساحت فيه عقول الفلاسفة من قبل، ومن تعلق بكلامهم من المتكلمين، إنما هو الخلط في المعاني والمصطلحات، ولا أراه إلا خلطا متعمدا من حيل وألاعيب الشيطان، لتزيين الباطل في أعينهم.
فعندما يسأل أحدهم السؤال: هل الإنسان مخير أم مسير، فإنه ينبغي أن يحرر مراده أولا بهذا التسيير، هل يقصد به الجبر، الذي حقيقته اضطرار الإنسان إلى عمل يخالف اختياره على علم؟ فإن قالوا نعم فقد كذبوا، فإن هذا يخالف الحس والمشاهدة، ويخالف ما جاء به المرسلون! وإن قالوا لا، ليس هذا ما نقصد، فأين التعارض إذن مع كون الإنسان مخيرا؟؟ لا تعارض البتة! لأن القدر المحسوم مسبقا لمصير الإنسان واختياراته لا يتعارض مع حرية تلك الاختيارات والإرادات على وجه من الوجوه! تلك الحرية التي علم الإنسان - بموجب فهمه لمعنى العدل في سائر ألسنة البشر - أنه يستحق من أجلها الجزاء على اختياراته بعد قيام الحجة الرسالية عليه. ونقول نعم أنت ميسر لما تختار ولكنك لست مسيرا (بما ينفي معنى الاختيار نفسه!). فصحيح قد قدر الله لك اختيارك وكتبه عليك من قبل أن يخلقك، ولكن لا حجة لك في ذلك يوم الحساب لأنك قد تحقق العلم والإقرار لديك بمعنى الاختيار - الذي رأيته في الدنيا بالحس والمشاهدة - وبوجوب الجزاء والحساب بناء على ذلك الاختيار! فمن عقل هذا المعنى وتأمل فيه، فإنه ينزل معنى الاختيار ومعنى الجبر ومعنى الجزاء والحساب والعدل، كل منها في منزله الصحيح، بلا إفراط ولا تفريط، ومن ثمّ يزول لديه الإشكال من أساسه! لأنه لم يظهر ذلك الإشكال أصلا إلا من الخلط في المعاني بانسحاب معنى القدر على الجبر، الذي يقابل معنى الاختيار ويناقضه، وليس الأمر كذلك ولله الحمد! فإذا تقرر ذلك لدينا، سهل علينا الرد على كل جاهل من أقزام الإلحاد ورؤوسهم، يقول إن القدر ينافي حرية الاختيار!
Bookmarks