نظام الرق في الإسلام
مناقشة عقلية




بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد،

فهناك الكثير من الشبهات التي يثيرها المخالفين لدين الإسلام حول مسألة الرق في الإسلام وتقنينه وعدم تحريمه في الشريعة الإسلامية، ويرون أنه كان الأولى بدين العدل والرحمة أن يحرم تمامًا استعباد الإنسان لأخيه الإنسان. وأنا أعلم أن كثيرًا من العقلاء يرفضون هذه المسألة وتعامل الإسلام معها ويستنكرون تقنين الإسلام لها وعدم تحريمها بالكلية، لكني على ثقة ويقين أن هؤلاء العقلاء لو صورت لهم الأمور تصويرًا صحيحًا بعيدًا عن الخيال والمبالغات لاستطعنا أن ننتزع منهم اعترافًا بتفوق الإسلام التشريعي وأن فيه الحكمة البالغة والمصلحة المؤكدة، أو في أقل الأحوال سنجد منهم إقرارًا بأن تشريع الإسلام لا يمكن تناوله بالرفض والاستنكار السطحي وأن الأحكام السريعة المتعجلة لا تصلح في تناول مسائله وقضاياه.

لقد أغلق الإسلام أبواب الاستعباد المبنية على الظلم أو استلاب حق الحرية من المرء، فمنع أن يصير المرء عبدًا لأجل تسديد ديونه أو عند إفلاسه أو أن يبيع أبناءه مقابل المال أو أن يخطف الأطفال أو النساء أو حتى الرجال الأحرار من بلادهم عن طريق العصابات ليباعوا كرقيق في بلاد أخرى، حرم الإسلام هذه الأبواب تمامًا ومنعها.
ظل هناك بابٌ واحدٌ لم يغلقه الإسلام وهو أسرى الحروب، لأن الحرب واقعٌ في حياة البشر والشعوب ولا يمكن تفاديها أو إلغائها بالكلية. فإذا وضعت الحرب أوزارها وصار لدى جيش المسلمين عددٌ من الأسرى، فما مصيرهم؟
قد يعفو إمام المسلمين عن طائفة من الأسرى ثبت عدم تورطهم في محاربة المسلمين، وقد يحكم على بعضهم بالقتل لارتكابهم جرائم حرب تستوجب الإعدام، وقد يفتدي طائفة منهم مقابل الأسرى المسلمين أو مقابل فدية مالية، لكن بعد كل هذا قد تبقى طائفة من الأسرى لا يستحقون العفو ولا الإعدام ولم يمكن افتدائهم من الطرف المقابل، فما العمل فيهم؟
هل نضعهم في سجون كبيرة عملاقة، وتكون الدولة الإسلامية المنهكة من الحروب ماديًا وبشريًا مطالبةً بتوفير الطعام والشراب والمأوى والحراسة المشددة لهم؟
أليس من الأفضل في هذه الحالة أن يتم بيعهم كرقيق إلى مواطني الدولة الذين سوف يمتلكونهم ويوفرون لهم الطعام والشراب والمأوى؟ لاحظ عزيزي القارئ أننا نتكلم عن أناس قد فقدوا حريتهم بالفعل وصار الخيار أمامهم بين السجن شديد الحراسة مدى الحياة والسجن الأوسع داخل المجتمع المسلم، لا يشك عاقل منصف أن مساحة الحرية في حالة الرقيق أكبر، وأن قيد العبودية مهما كان هو أقل بمراحل من الحبس مدى الحياة، فالعبد يختلط بالبشر ومجتمعهم وله حق الزواج والإنجاب والتعلم واكتساب المهارات ومكاتبة مولاه على العتق، فالعبودية في هذه الحالة – حالة أسير الحرب- مصلحة كبيرة لهذا الفرد الذي خسر بالفعل حريته عندما أسره جيش المسلمين.
كذلك هي مصلحة للمجتمع المسلم الذي يستفيد من مجهوده البدني ومن مواهبه إن كان يجيد حرفة أو مهارة معينة، كما ينتفع العبد الكافر عند اختلاطه بالمسلمين ومعايشتهم فيتعرف على دينهم عن قرب فيكون ذلك سبيلاً لهدايته واعتناقه دين الحق.
وهي كذلك مصلحة كبيرة للدولة الإسلامية التي خسرت الكثير من أبنائها ومواردها البشرية في الحروب، فتكون هذه القوة البشرية الجديدة تعويضًا جزئيًا لها عما تكبدته من خسائر فادحة في الأيدي العاملة وأصحاب المهارات.
فنحن باختصار أمام وضع فيه مصلحة كل الأطراف.

وقد يعترض البعض بأنه سيكون من الأفضل في هذه الحالة عدم بيع الأسرى كرقيق وأن يتم استعمالهم بدلاً من ذلك كقوة بدنية وبشرية في المصانع والمزارع والجهات التابعة للدولة حتى نتفادى مسألة أن يمتلك إنسانٌ إنسانًا آخر. وهذا تفكيرٌ فيه وجاهةٌ لكن الدولة الإسلامية ليست كما يتصور البعض تملك المصانع والمزارع والاقتصاد، بل هي في الحقيقة تقتصر على حراسة الحدود وحراسة القانون، أما الاقتصاد من زراعة وصناعة وتجارة وسائر الموارد فيمتلكها أفراد الشعب والمؤسسات الأهلية بحيث يكون المجتمع قائمًا بنفسه بعيدًا عن السلطة السياسية، لهذا نجد في تاريخ الإسلام أنه قد تنهار الحكومات وتظهر أخرى وتنتقل السلطة والحكم من شخص إلى آخر أو من فئة إلى أخرى ولا يتأثر المجتمع ولا ينهار ولا يتداعى.
فخلاصة هذه النقطة هو أن عمل الأسرى في معسكرات اعتقال كبيرة في أعمال الدولة أمرٌ غير واقعي بالنظر إلى تكوين الدولة نفسها، يُضاف إلى هذا أنه حتى لو كان ممكنًا فسيظل نظام الرقيق أفضل لجميع الأطراف ومميزاته أكثر خصوصًا للأسير الذي مما لا شك فيه أنه يفضل أن يعمل داخل المجتمع مختلطًا به ومتمتعًا بقدر من الحرية في الحركة وممارسة الحياة الطبيعية والمكاتبة على العتق على أن يعمل في معسكرات ضخمة للأسرى. كما أنه سيحرم الأسير من فرصة التعرف عن قرب على الإسلام وإزالة ما بذهنه من تشويه وقناعات غير صحيحة بخصوصه، بينما في معسكرات العمل الضخمة قد يجد الأسير فيها من التعامل الصارم والقاسي ما يؤكد التصورات المشوهة حول الإسلام ويزيد كراهيته للمسلمين.

بعد هذا كله يبزغ السؤال عن الرقيق من النساء والأطفال الذين لم يحملوا السلاح، لماذا يقعون في الأسر وبالتالي في الرق والعبودية؟ نحن ندرك أن الجندي المحارب للمسلمين قد صار بموجب حمله للسلاح وقتله للمسلمين مهدر الدم ومستباح قتله فلا حرمة لدمه ولا صيانة لحياته، وبالتالي يكون الرق والعبودية في حقه عقوبة مخففة وميزة ومصلحة محققة. أما النساء فلم يحملن السلاح لذا لا يحل قتلهن ولا استباحة دمائهن، لكنهن يتعرضن للأسر والوقوع في الرق، لماذا؟
لأنهن كن ضمن الجيش المحارب يقدمن له الدعم المادي واللوجيستي من طعام وشراب وخدمة وتجسس ودعارة، فهؤلاء محاربات لجيش المسلمين بهذا المعنى، أي بتأييدهن لجيش الكفار المحاربين. ويقع في نفس حكمهن أهل المدن الذين يمتنعون من جيش المسلمين ويحاربونهم ويرفضون التسليم لهم ولا يتبرؤون من مقاتلتهم، فهم محاربون للمسلمين بهذا الاعتبار لأنهم أيدوا أعداء المسلمين وناصروهم وقدموا لهم الدعم بمختلف أشكاله وصوره ولم يتبرؤوا من مناوأة المسلمين، فحكمهم مثل حكم المقاتل الكافر الذي حمل السلاح ضد المسلمين، إلا أنهم لا يجوز قتلهم ويجوز استرقاقهم لأجل عداوتهم للمسلمين والتحريض عليهم وتقديمهم العون لأعدائهم والانحياز إلى هؤلاء الأعداء وإلحاق الضرر بالمسلمين.
فإذا فهمنا لماذا يقع هؤلاء النساء في الرق، احتجنا إلى أن نفهم لماذا أباح الإسلام التسري بهن أي أعطى الحق لأسيادهن المسلمين بمعاشرتهن. والحقيقة أن هذا الأمر جاء مراعاةً لجميع الأطراف، فهو يراعي الاحتياجات النفسية والعاطفية للمرأة من ناحية ولا يتركها دون وجود منفذ شرعي لتلبيتها، ونفس الأمر بالنسبة لسيدها، وهذا سيعود بالنفع على المجتمع المسلم الذي تكثر فيه الإماء، فإذا تركهن دون وجود سبيل شرعي لتلبية حاجاتهن، صار المجتمع كله عرضة لانتشار الفاحشة والدعارة، وصار الزنا –أو الاغتصاب- مع الإماء أيسر من الزواج بتكاليفه وأعباءه. لأجل هذا حدد الإسلام هذا السبيل الشرعي لتلبية حاجات الإماء العاطفية، ولو كان المعتبر في هذا الأمر شهوات الرجال فقط لجعل معاشرتهن أمرًا مباحًا لكل من هب ودب، ولجعل الواحدة منهن كالمراحيض العمومية يقضي منها أي رجل وطره دون مسئوليات أو تكاليف أو أعباء! بل شرع الإسلام أن يكون وطء الجارية مباحًا لسيدها فقط، وهو الذي يلزمه الإنفاق عليها وإطعامها وكسوتها وإيوائها وغيرها من وجوه المسئولية التي على السيد تجاه الرقيق عنده، ولا يحل أن يمسها غيره. وهذا الأمر بخلاف المشاهد في كل العصور حتى هذا العصر الذي نعيش فيه من اغتصاب جماعي لنساء البلاد التي يتم غزوها أو استعمارها، وقد شاهدنا هذا في البوسنة وفي العراق وفي غيرهما، والقصص في هذا أشهر من أن تحكى!
باختصار فإنه من المعلوم أن للمرأة حاجات عاطفية ومعنوية لابد من تلبيتها، وترك هؤلاء النساء سواء في مكان مخصص أو غيره سيجعلهن كقنبلة موقوتة مستعدة للانفجار في أي وقت، وسيكونن أكثر عرضة للفاحشة وإفساد أخلاقيات المجتمع. وفي هذه الحالة سيكون من الأفضل لكل واحدة منهن أن تكون تحت رجل واحد يلبي هذه الرغبات ويصون المرأة بدلاً من أن تكون عرضة للوقوع في الزنا والفواحش، كما أنه سيحفظ النسل ويجعل أبناءها معروفين الأب والنسب.
لكن قد يعترض البعض بأن المرأة قد تمانع في أن يعاشرها سيدها وتكره ذلك، وهذا قد يحدث فعلاً لكنه قليل، وتكون في هذه الحالة مفسدة في حق هذه المرأة، لكنها مفسدة صغرى بالمقارنة بالمفاسد الكبرى التي تترتب على ترك هؤلاء النساء في المجتمع المسلم دون تلبية حاجاتهن العاطفية.

تبقى بعد هذا كله نقطة أخرى تثير إشكالاً وهي الأطفال من الرقيق الذين لا ذنب لهم في محاربة المسلمين، فلم يقاتلوا ولم يحرضوا ولم يعاونوا المعتدين على المسلمين، فهؤلاء من باب الرحمة بهم يلحقون بأمهاتهم حتى يكونوا في عائلةٍ كأفراد فيها، ومن المؤكد أن إلحاق هؤلاء الأطفال بأمهاتهم كما هو إجماع علماء المسلمين أكثر رحمة ورأفة من جمعهم ووضعهم في دار أيتام أو إصلاحية حيث يبدل دينهم ثم يتركون بعد البلوغ في المجتمع ينهش فيهم وينهشون فيه. بل هذا الطفل سيظل مع أمه حتى البلوغ، ينفق عليه صاحب البيت المسلم، وتكون الكلمة المسموعة في البيت لصاحب البيت المسلم، ويحرم التفريق بينه وبين أمه كما تقضي الشريعة، حتى إذا وصل سن البلوغ كان له الحق في مكاتبة سيده ليعتقه، فينطلق حرًا في المجتمع بعد أن يثبت جدارته في تحصيل الرزق والاعتماد على نفسه، أو أن يظل في رعاية سيده المسلم.
لكن لماذا يكون هذا الطفل عبدًا لصاحب البيت المسلم؟ لماذا لا يكون حرًا حتى إذا وصل سن البلوغ انطلق مغادرًا البيت المسلم لا يلوي على شيء؟ وهذا تفكير وجيه، لكنه لا يراعي نقطتين:
أولاً: ما الذي يجبر صاحب البيت المسلم أن ينفق على أكل هذا الطفل ومشربه ومبيته وكسوته وتعليمه حتى يبلغ؟ ثم ما الذي يجبره على استمرار النفقة عليه إن اختار أن يظل في البيت المسلم ولا يغادره؟ أليس هذا ظلمًا لصاحب البيت؟
ثانيًا: ما النتيجة المترتبة على خروج هؤلاء البالغين إلى المجتمع المسلم دون أن تكون هناك طريقة لمعرفة من هو مؤهل للعمل والنجاح ممن هو غير مؤهل؟ أليس من الممكن أن يخرج هذا البالغ إلى المجتمع فيكون عالةًً عليه أو خطرًا عليه؟ إن هذا البالغ قد لا يكون أهلاً لتحمل المسئولية فيكون من الضرر إطلاقه في المجتمع المسلم يُقال له تكسّب من حيث استطعت!! فربما عمل بالسرقة وقطع الطريق وما شابه.
من الجميل فعلاً أن ننظر لمصلحة الطفل، لكن أليس من الواقعية أن ننظر لمصلحة بقية الأطراف؟ لهذا يقضي الشرع الإسلامي أن نلحق الطفل بأمه ويكون مثلها في الرق والعبودية، ثم هو عندما يشعر أنه مؤهل للخروج إلى المجتمع وكسب الرزق، يمكنه أن يكاتب سيده حتى يعتقه، وعملية المكاتبة في ذاتها تدل على أن العبد قادرٌ على كسب الرزق والعمل، وبالتالي هي اختبارٌ عمليٌ لكونه مؤهلاً للانطلاق في المجتمع من عدمه.

لأجل كل هذا نرى التفوق التشريعي للإسلام في باب الرق حيث مراعاة مصلحة جميع الأطراف رغم أن هؤلاء الرقيق كانوا أناسًا أعداءً للإسلام إما حملوا السلاح أو حرضوا ضد المسلمين وأعانوا عليهم، لكن الإسلام يعاملهم برحمة ورأفة ويحفظ لهم حقوقهم الإنسانية، فهو لم يتعامل بمثالية غير واقعية مع توابع الحروب، بل تعامل بشكل واقعي وقننها بما يحقق العدل والرحمة معًا. فكيف إذا أضفنا لكل ما سبق إحسان معاملة هؤلاء الرقيق حتى على مستوى الألفاظ فحرم أن تقول عبدي وأمتي، بل تقول فتاي وفتاتي وغلامي؟ وإني أحسب أن العاقل المنصف بعد أن يستوعب الحكمة في تشريع الرق سوف يقر بما فيه من عدل ورحمة ومصالح، وأنه تقنينٌ لأوضاع قائمة وتوابع معروفة للحروب، وليس أمرًا يقوم عليه دين الإسلام، بل لو انتفى الرق من العالم بالكلية – كما هو الحاصل اليوم- لما تعسر القيام بأي من الواجبات أو النوافل الإسلامية كما هو معلوم.

والله أعلم وأحكم.