قواعد في إصلاح النفس : أوضاع غير سوية في التفكير و السلوك


ما هي المشاكل و المعيقات التي تواجهني و تعيق تقدمي و نجاحي في نواحي الحياة و رضائي عن نفسي و هو الأهم ؟

مسائل عالقة في النفس تحتاج إلى بسط و تحليل و حلول .. و قد تكون مستحكمة متحكمة في طريقة تفكيري و مشاعري و تصرفاتي و مواقفي.
ذلك ما سأعرض له في المحطات التالية.


المحطة الأولى : أسباب القوة


أعاني من نكسة نفسية أو اجتماعية قريبة أو بعيدة الأمد ، أو اكتئاب ، أو اضطرابات نفسية ، أو ضعف عزيمة و فتور دائم ، خجل و فرار من المجتمع ... كل ذلك يقينا هو من عدم الأخذ بأسباب القوة،
فأنا لا أحافظ على ذكر الله الذي هو قوة لروحي و لا الصلاة المفروضة التي جعلت لذكره في زمانها و لا مكانها و لا أعتني بقراءة القرآن و هو شفاء لما في الصدور ، و لا النظر في الكتب النافعة ، و لا أحرص على نظافة العقل أو البدن التي فيها راحة ، و لا الرياضة ، و لا مخالطة الناس ذوي الصلاح على الأقل في المسجد و في العمل و لا أستعيض عن ذلك في حال تعذر كما ينبغي فلم أجد بجواري صديقا حميما و لا أخا في الله أستعيض عن ذلك بالزواج الذي جعله الله أيضا لهذه الغاية فزوجتي رفيقة دربي إن كانت أقل مني علما أحرض على أن أعلمها و أزكيها و أعلم نفسي و أزكيها من خلالها فهكذا سأستعين بها على الحق و نوائبه بإذن الله،
أنا بدلا من ذلك أسترسل في أسباب الضعف و العجز لأجد نفسي تحت ركامه و أنقاضه و الأسوء أن أعيش على إثر ذلك في هالة من التصورات الخاطئة عن نفسي و أهلي و عن الناس و المجتمع و الحياة. و النتيجة أني أوقع نفسي في الفشل و اليأس و خوف من المجهول لا مبرر له، و ربما كان علي الأخذ بسبب واحد من أسباب القوة و العزم و النجاح و التوافق النفسي و الإستقرار العائلي و هي متاحة لي بحمد الله.

فالحقيقة أني لم أعتد على بذل الجهد لتحقيق المكاسب فعلي تحفيز نفسي و تعويدها خاصة في الأيام التي تتحمس فيها نفسي لأنها الأنسب لذلك.
و كنتيجة لإهمالي أسباب القوة :
- أفلت زمام الأمور : إما بالتسليم للقدر تسليما سلبيا أو أترك أموري للصدف و أقنع بالإمكانيات الهزيلة أو أتكل على تحركات الآخرين نحوي فلا أحاول التصرف من تلقاء نفسي و التأثير بشيء للزيادة في مكاسبي أو حتى لتفادي المشكلات المتوقعة.
- يعتريني تفاوت حاد في درجات الهمة و السعي : يكون اجتهادي مؤقتا و لا أحافظ على نفس الريتم في السعي و النشاط و الطلب و محاولة تحسين الأوضاع.
- أركن إلى العجز و الضعف و أعتذر بمصيبة من مصائب الدهر أو إعاقة خلقية : ليس شيء أسوء من العجز و الضعف و الركون إليهما و الأسوء منهما الإعتذار بمصيبة أو إعاقة إذا ابتلي بها ابن آدم ، لكن لا بد للإثنين من علاج و علاج الأول بالتدريب و بذل الجهد تلو الجهد و علاج الثاني يكون بالرضى و التماس البدائل و بذل الوسع و على الله التكلان.


المحطة الثانية : التفكير في الحياة بسوداوية


لطالما اعتبرت الحياة حلبة للصراع و الخسارة و الهزيمة و ليس للمكاسب و الإنجازات و فرص الربح و التطور من الحسن إلى الأحسن. كما أنني أنئى بنفسي عن بساطة البسطاء في التفكير و الحياة و أنزع إلى رؤية الأشياء معقدة و غامضة و عسيرة مما يكسر من اندفاعي و يسبب إحجامي إزاءها مع أنها أشياء قد تكون في غاية البساطة و اليسر و الوضوح.
و ربما احتقرت الحياة أصلا و بالتالي لا أريد أن أبذل جهدا في شيء قد يتقدم بي على الأقل خطوة أو خطوتين إلى الأمام .. لا أعطي قيمة لشيء و هذا لعله آت من نظرتي إلى نفسي .. فأنا لا أنظر إلى نفسي باحترام كاف لأحترم أي خطوة أقوم بها أو مجهود أبذله و من تم أحترم إنجازاتي و أعتد بمكاسبي و أحافظ عليها و أطورها.
لماذا أحتقر نفسي في حين أن هناك ملايين من الأشخاص أسوء مني حظا ولديهم مكاسب أقل من مكاسبي وربما كان أحدهم صاحب إعاقة أو فقيرا أو أسود ذميم الخلقة لكنه يحب نفسه و يحب الحياة .. لأن الناس لا ينظرون إلى الإنسان بما صدر إليه و لكن بما صدر عنه. و بهذا يرفع الله أقواما كانوا بالأمس القريب في الحضيض و يخفض أقواما كانوا زمنا في رفعة و شأن. تأمل فقط سير الصحابة رضي الله عنهم .. بل غير بعيد عنك أنظر إلى معاقين صاروا أصحاب مشاريع و إلى فقراء اغتنوا فنفع الله بهم أو متعلمين في آخر الصف أو على هامش الحياة أو طردوا من المدارس حتى، صاروا علماء، و انظر بالمقابل إلى أغنياء أفلسوا و ملوك انتهى بهم الحال إلى المحاكمة و السجن أو الإعدام بل إلى مشاهير طالما حسبهم الناس أسعد الناس فانتحروا و انطفأ نجمهم في لحظة.
لماذا أنت ترى نفسك أقل حظا و أسوء حالا .. مع أن السعادة لا تكتسب بأكثر من رضى الإنسان عن الله ثم عن نفسه و لو كان من أفقر الناس أو أحوجهم إلى العافية في البدن أو الأهل فقط خذ بالأسباب التي في متناولك و في مستطاعك.
أنظر إلى البسمة الدائمة على شفاه الفلسطينيين مثلا نساء و أطفالا و شيوخا على الرغم من إعاقاتهم و تهدم بيوتهم و فقرهم المدقع و حرمانهم من حقوقهم في حياة كريمة. ليست المكاسب هي التي تسعد الإنسان و توفر له الراحة و الثقة في النفس .. يكفي أن تعلم أن ظاهرة المرض النفسي انتشرت في البلدان الغربية الغنية قبل البلدان المسلمة الفقيرة و طبعا بعد أن تخلت عن مبادئ دينها الحنيف و قواعده في التربية و السلوك و المعاملة الحسنة.


المحطة الثالثة : العجلة


دائما أتعجل الأمور و أستبق النتائج و النهايات و كسب أشياء أو الخلاص من أشياء أو أشخاص، بل كل ما أفعله أفعله بعجلة و لا أتأنى فيه حتى التفكير و الأكل و الكلام و المشي و الالتفات و النظر ... إلخ مما يسبب لي فوضى و لا أعرف ما أريد حقا.
الخير كل الخير في التأني حتى فيما يطلب منك التعجل فيك لأنك لن تؤديه على أحسن وجه إلا بحسن النظر فيه و التدقيق في تفاصيله و ما ينبغي لإنجازه أو استكماله.
أضف إلى أن العجلة لا تسبب إلا الحوادث و الفوضى و المشكلات و الخصومات لذهاب العقل و التركيز حال التصرف و التعاطي مع الشيء بعجلة و تسرع و قلة إهتمام بالشيء أو الشخص الذي أمامك. لذلك قال النبي عليه الصلاة و السلام :" التأني من الله و العجلة من الشيطان " حسنه الألباني ..
و في فضل الأناة قال عليه السلام لأحد الصحابة الكرام : "إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة" صحيح مسلم. فالله تعالى يحب الأناة لأنها تنفع العبد في دينه و دنياه بخلاف العجلة إلا إذا اقتضاها الحال كالإسراع في إنقاد إنسان أو حيوان أو شجر أو عمران. لكن عند تعلم العلم تنبغي الأناة و عند تعليمه أو مدارسته تنبغي الأناة و عند قضاء أي أمر كبير أو صغير يعود على الدين أو الأهل أو البدن أو عامة الناس بالنفع فتنبغي الأناة و ينبغي التركيز و الاهتمام.


المحطة الرابعة : عدم الرضا عن عملي و ما حققته حتى الآن


و تحته أمور :
. عدم النظر إلى حال من هم أسفل مني و هم الأكثرية .. أو حتى من هم فوقي فلا أنظر إلى حالهم إن كانوا راضين فعلا عن مكاسبهم و سعداء بها و أن سنة الله في خلقه تقتضي ابتلاء الكل بالخير و الشر.
. عدم تقييمي لوضعي : بالنظر إلى مكاسبي و هل ما حققته منها كان منتهى ما استطعته و لم أجد بديلا لأرضى، أو أنه كان برغبتي و بإمكاني فعل ما هو أحسن.
. عدم الرجوع إلى الأصل في كل حال و هو الإيمان بالقدر في تصريف الأمور و أحوال الناس فالله تعالى قدر كل شيء و هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر و هو المعطي و المانع و هو مالك الملك المعز المذل الخافض الرافع .. و إذا شاء بارك في الشيء أو نزع البركة منه. كما أن له الحكمة المطلقة في كل ما يفعل فربما كرهت الشيء و يكون لك فيه خير كثير كما قال تعالى عن النساء : فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا و يجعل الله فيه خيرا كثيرا (19: سورة النساء)
. إهمالي للأساسيات و هي الأهداف : رضى الله تعالى ، سعادتي و سعادة أهلي ، الشكر للنعم الحاصلة و للنقم المدفوعة بفضل الله و رحمته ، حصول الكرامة و الاكتفاء في حين أن هناك أغنياء غير مكتفين و أصحاب مناصب ربما لا يجدون مع رؤوسهم أو مديريهم أو أولياء أمورهم حسا بالكرامة.
. أخيرا الحمد لله على نعمة الوسط فلست بغني مفتون بغناه و لا فقير مبتلى بفقره.


المحطة الخامسة : اشتراط الكمال للقيام بما يتوجب و لتحسين الحال



من عادتي اشتراط الكمال و عدم الاقتناع بالحال المؤدي إلى التقلب أو الكف و الإنقطاع عن العمل و فتور السعي و الوقوع في المحذور و إهمال الأسباب الممكنة و القدرات و المكاسب المتاحة.
و طبعا اشتراط الكمال هذا و تعجله من التكلف و الغلو و هو ضد ممارسة الحياة ببساطة و واقعية و مراعاة للإمكانيات و سنة التدرج بالسير خطوة خطوة و درجة درجة.
و من آثار ذلك أني أتقلب بين الإستقامة على الدين و الإنحراف عنه و لو يسيرا لأني أضع شروط الكمال بين يدي و أستعرض كل النقائص في نفسي و في المجتمع لأقوم مثلا بفريضة صلاة أو صيام أو بالصدقة أو بنافلة من ذلك أو بالتعلم أو الدعوة و التغيير و النصح للعالم. مع أنه يمكن الشروع في أي تفصيل و يمكن اغتنام أي شيء مفيد على أي حال أكون عسى الله أن يجعل فيه خيرا و يبارك فيه لأننا أمرنا أن لا نحقر من المعروف شيئا. ما يهم هو إخلاص العمل لله مهما قل فمن الصحابة رضي الله عنهم بل من عموم الناس فيمن قبلنا من لقي الله بعمل واحد أو اثنين عظيم أو يسير شكر له به و غفر له و أدخله به الفردوس فالله تعالى يبارك ما يشاء لمن يشاء.
فليس بالضرورة إلزام النفس بمجالس العلم و العلماء و تعلم كل شيء و عمل كل شيء بما في ذلك دعوة الناس على كل حال. فقد قسم الله تعالى في كتابه الناس إلى أقسام : من يلزم المساجد و من يتعلم العلم و من يجاهد و من يبتغي من فضل الله و هذا قد يتصدق و ينفع المسلمين بماله و قد يغفر له بصلته رحمه بهذا المال و هكذا. و لا ننسى أن من الصحابة الكرام من اعتزل الناس رأسا لما رأى في ذلك خيرا لدينه و راحة لنفسه و أمانا لها و لهم من الشر و الفتنة المحتملة، فاهتم بأمر نفسه دونهم.
كما أنه ليس بالضرورة ليفعل الإنسان الخير و يوفق إليه و فيه أن ينخرط في جامعة أو جماعة أو جمعية مع أن هذا قد يكون أفضل له في توسيع مكاسبه و عطاءاته لكن الله أعلم بما يصلح للعبد و ما قد يبارك له فيه و يشكره له كما ذكرنا فلا تشترط و لا تسوف.


المحطة السادسة : لم لا أستمتع بكل شيء جميل في الحياة و أذر الإهتمام للقبيح ؟


هناك أشياء كثيرة جميلة في الحياة مما أنعم الله به علي خاصة و أنه سبحانه قد أنعم علي بكمال الذوق مما يعينني على استشعار هذه الجماليات و تحسسها بعمق، فعلي الوقوف عندها طويلا بل يجب أن أهتم بها فقط و أجعلها محور حياتي. فما من شيء قبيح يستحق أن أكدر به صفاء نفسي و أرهقها من أجله فينبغي من باب أولى التغاضي عنه و الانصراف بالكلية عن جهته إلى الجهة التي أرتضيها حيث كل ما هو جميل رائق للنفس و ماتع للقلب و مريح له.


المحطة السابعة : الغضب


لماذا عندما أغضب مع أحد أقاربي أو أصدقائي و معارفي أتصور كأني وحش ظالم و عدو غاشم يريد أن يأتي على الأخضر و اليابس مع أني إنسان في غاية الوداعة و اللطف ؟ ربما هذا من تلبس الشيطان بي فهو يجري مني و الحال هذه مجرى الدم فيريد أن يشعرني بأني كذلك .. ذلك أني مهما استشطت غضبا لا يتعدى ذلك عندي انفعالات مجردة حتى من قبح الكلام و سفه القول و بذاءة اللفظ إلا يسيرا. فلا أستطيع إنفاذ الغضب و لا تعدي هذا الكلام اليسير إلى ما سواه اللهم إلا إذا بدا لي مقاطعة أحدهم حين يبلغ كرهي له مداه. و مع ذلك لا أرى من هذا الشخص الذي أقاطعه بعد ذلك كراهية لأنه لم ير مني شرا يقدحني به أو غضبا متعديا يكافئني عليه على الأقل بالكراهية.
فعلي أن أعرف حدود غضبي حتى لا أتهم نفسي بما ليس في .. و لا أتخذ بسبب الإحساس العارم بالغضب و الذي يكاد يملأ نفسي مواقف لا أرغب بها .. فيجب أن أحذر و أكون متزنا إزاء هذا الشعور بالغضب لأنه ليس حقيقيا .. و أحاول التعامل مع الموقف بثبات و عقلانية بمدافعة هذا الغضب الذي لا أعتقد أنه مني و إنما هو في كل الأحوال صفة وراثية ألهمنا الله إياها.


المحطة الثامنة : ما هو هدفي من الحياة ؟



لا بد أن إنسانا بلا هدف لا يعيش الحياة، ليس له من الوجود إلا إسم بلا رسم، فلا بد له من هدف أيا كان قريبا أم بعيدا لا تخلو منه ساعة لأن الهدف كالمحرك يحدد جهة أفكاره بدل أن تصير دوامة من الوساوس و الأوهام و الهلاوس تعصف به في كل اتجاه. و بدلا من أن يظل قلبه فارغا و يمسي أفرغ من ذهنه فيصير كثقب أسود يوشك أن تنسحق داخله كل الأحاسيس و الآمال و الأحلام و الرغبات.

أما هدفي في الحياة إن صح أن يسمى هدفا فقد كان قبل فترة طويلة بعيدا أبعد من النجوم العوالي ليس لبعد همتي و قوة عزيمتي و شكيمتي و لكن لأني طالما كنت حالما فقط أحلم بالمدينة الفاضلة التي قرأت عنها في القصص و تطلعت إليها من خلال كمالات الرجال و مواقف العظماء و من طريق حب عظيم سكن قلبي ملكته للعالم بين جوانحي حتى إني لا أدري كيف أصرفه .. لكن ما لبث أن انكسر هذا الحب العظيم و تفتت حينما اصطدم بصخرة الواقع و أذى الشياطين و نزغهم المستمر بيني و بين الناس و خاصة من أقربهم و يقربونني، فاعترى ذلك الحب العظيم ضمور شديد، و استحال قلبي بعده إلى أرض قفراء أو مستنقع لا حياة فيه و لا به نفع لأحد. و قد كان أخضر مزهرا و كالشلال متدفقا منهمرا.
إن هدفي كان ساميا بسمو مشاعري و رقتها و شدة حساسيتها .. كان يسع كل فقير و محتاج بحاجته عاني و كل مريض أو مبتلى يعاني .. يسع الشباب و الشيوخ كما الأطفال و النساء .. يسع المسلمين و الضالين .. و بني البشر أجمعين و الحيوان و النبات .. لا أتحمل أن أرى الأذى و الألم بل مجرد قبح أو إعاقة خلقية .. و لا أطيق النظر إلى الظلم و الإساءة مهما كان نوعها أو حجمها.
كنت أطمح إلى أن يتغير العالم .. إلى أن يمتلأ حبا و رحمة و برا و تعاونا.. إلى أن تصفو القلوب و تخلو من كل ضغينة و غل و حسد و سوء فهم .. أن تنمحي الدعاوى و الأكاذيب و قبائح الأخلاق و المظاهر فيصبح كل شيء جميلا و نظيفا .. و يغدو الصعب بل المستحيل في متناول الضعيف كما القوي .. واضحاً سهلاً غير ملتو و لا عَسِر.
يعني كنت أطمح ببساطة إلى جنة على الأرض.
و الآن ماذا صار هدفي ؟
إنه لا يجاوز لقمة عيش أضعها في فيِّ أولادي .. وأما العالم فأكيد لرب العالم.
و إنما وصيتي لنفسي و لكل أخ لي بالحذر من نزغ الشياطين فهم يعلمون بما قد لا تعلمه عن نفسك من الخير فيضعفونه فيك حتى لا تنتفع به و يوهمونك بما قد تتصوره عن نفسك أو عن الناس من الشر الذي ليس فيك و لا فيهم أصلا.


المحطة التاسعة : الموت


كل شيء ليس متصلا بما بعد الموت لا معنى له و لا قيمة .. و بذل الجهد فيه أو في سبيله عبث محض. و مع ذلك فمعظم أفعالنا و أقوالنا و أكثر أفكارنا و أحاسيسنا هي من قبيل هذا العبث المحض.
لا نعتبر بمن مات لأن موته لا يعنينا .. و لو كان قريبا جدا منا. نمضي مؤملين الحياة بعده و زينتها و طموحها .. و ربما لهونا و ضحكنا بعد موته بأيام. بل ربما يكون ذلك في الغد.
عبث محض يأتي حتما من جهلنا بحقيقة الموت و ما بعد الموت.
و عند التدبر فإننا نعامل أنفسنا على أننا موتى فنتصرف كأننا أرجعنا للتو فنتحرى الفرص على حين غفلة .. فرص النجاة من حساب عسير و خطايا سرعان ما تملأ صحيفتنا و أكثرها و الله من حصائد الألسن.

نحن جاهلون بالموت و ما بعده رغم علمنا بأنه أمر أشد من كل شديد و أعظم من كل عظيم و أخطر من كل خطير. فلو كان لقاءنا بعد الموت بملك عظيم لخشينا لقاءه بما لا يليق لهيبته فنحرص على أن نستعد و نتجمل للقاءه بما يحب و التخلص مما يكره. لكن هل هناك أعظم من الرب المليك المقتدر لنخشاه و نتهيب لقاءه ؟

إنه ربنا الذي فطرنا و ألهم أنفسنا فجورها و تقواها و قد وعد من زكى نفسه منا بالفلاح و الفوز العظيم و توعد من دساها بالخيبة و الخسران و الهلاك المبين.

فهلا نستعد للقاءه .. هلا زكينا أنفسنا بكثرة ذكره و بما أمرنا به و بما أحل لنا من الطيبات فلا نستبدل بها الذي هو أدنى من الخبائث و الفواحش ؟

هلا طيبنا أنفسنا بإخلاص الدين له فلا يشوب أقوالنا كذب و لا فسوق و لا أفعالنا معصية و لا عقوق و لا نوايانا رياء و لا تصنع و لا إعجاب بالنفس أو تكبر على الخلق.

هلا حرصنا على عمل الخير أي خير حرصنا على الطعام و الشراب و النساء و البنين و الأموال و الشهادات و الوظائف الدنيوية ؟
فإن عجزنا عن كثير عمل فحقيق بنا أن لا نعجز عن الباقيات الصالحات : سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و كثرة الإستغفار.

هلا أحببنا لقاء الله و قربه حبا حقيقيا فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه و ليس بيننا و بينه إلا الموت و هو حق مثلما نحن نبصر. و أيم الله كل مسؤول عن نفسه فلينظر إلى ما قدّم و ما سيقدم عليه و ليغتنم و ليبادر فلعله يلقى الله في يومه أو غده بل في ساعته هاته التي هو فيها.


المحطة العاشرة : الإهتمام



يجب أن لا يكون ما يهتم به الناس عادة أكبر همي أو من همي .. يجب أن أهتم فقط بما يعنيني .. هكذا فقط أستجمع قوتي و تركيزي .. بل لقد ندب الإسلام المرء إلى ترك ما لا يعنيه و جعل ذلك من حسن إسلامه لأنه باشتغاله بما لا يعنيه يتكلف و يتعنت و يستنزف طاقته و يشتت اهتمامه فلا يحسن شيئا و لا يفلح في شيء يعنيه و لو قل و يسر.
علي أن أقصر همتي و همي على ما يعنيني و ليس يعنيني غير مصيري و مصير أهلي و من أعول.
الناس عابرون و أقوالهم و آراءهم عابرة .. و حتى خيرهم أو شرهم و مدحهم أو ذمهم ينبغي أن لا يؤثر في العاقل .. ما أجنيه إنما هو تلك الثمار التي أغرس أشجارها و أباشرها و أتعهدها من حين إلى حين. فلأنظر فقط إلى أصل ما أجني ثمره.


المحطة الحادية عشرة : المتاح و البديل



من الحكم التي تمر على أسماعنا دون أن نتدبرها و نعمل بها : أن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام. ضع بحسبانك دائما ''العمل بما هو متاح'' كبديل عن الوسيلة المطلوبة أو حتى الهدف إذا تعذر حصولهما في اللحظة الراهنة أو حتى خلال شهور أو أعوام و لا تندب حظك و تقول ليت و ليت و لو كان كذا و كذا.
فديننا دائما يعلمنا إذا اعترانا الضعف أو المرض أو أعاقنا شيء أو أحزننا نقص شيء أو فقده أن لا نعجز وإنما نصبر و ننظر فيما ينفعنا بدله و نعمل على قدر استطاعتنا و وسعنا، يقول الله تعالى : و اتقوا الله ما استطعتم. و يقول : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. و يقول النبي صلى الله عليه و سلم : إحرص على ما ينفعك ...

ستجد دائما أن العمل بما هو متاح خير لك من أن لا تعمل شيئا أصلا و تركن و تستسلم إلى عجزك، ستلقى فيه إراحة لضميرك و مكاسب يسيرة تفضي بك حتما إلى مكاسب فوقها أو محاولة للتخفيف من أضرار إن هي لم تخف زادت و استعصى معها عمل أشياء أو أفضت إلى أضرار دونها. ذلك أن الخير مبارك و لأن السعي و الحركة و بذل الجهد لا تخلو من مزية و الإتصال خير من الإنقطاع و حلقة صغرى تصل السلسلة بحلقة أكبر أفضل من عدمها.
عادة ما نشترط الكمال في هذا أيضا .. و لو كان الأمر كذلك ما سمعنا بأشخاص تفوقوا في الحياة على الرغم من إعاقتهم و عجزهم الخلقي في ناحية من أجسادهم و أطرافهم أو حتى من أدمغتهم و نواحي تفكيرهم أو في حالة أحدهم الأسرية بفقد المعيل الأكبر و هو الأب أو الأبوان معا فتكون الإعاقة في هذه الحال مادية و معنوية و مع ذلك نرى نجاح كثيرين منهم عن طريق بدائل يجدونها أو يبحثون عنها أو يصنعونها لأنفسهم.

هنا التحدي .. ليس في أن تجد المطلوب و المرغوب جاهزا متوفرا على الهيئة التي تريد و للوهلة الأولى. بل أن تعمل عليه و تصنعه مما حضرك من الإمكانيات و الوسائل التي آتاك الله تعالى أن تجد و تجتهد لاكتسابه حتى تشعر بحلاوته .. فقط ما يتوجب عليك هو إعمال عقلك و النظر لعلك تجد البدائل و ارض و سلم فربك أقدر على أن يجعلك تصل إلى هدفك الأسمى أو يبدلك خيرا مما فقدته.
في طلب الرزق و في التجارة على سبيل المثال : أنت لا تحتاج منذ اللحظة الأولى بالضرورة لمليون دولار حتى تغتني و تصل إلى هدفك كتاجر ناجح .. هذا لا يسمى نجاحا أصلا .. الأغلبية الساحقة من التجار الناجحين أو أصحاب الصناعات و الشركات الكبرى إنما بدءوا بالقليل الميسر و المتاح لهم و منهم مشاهير نعرفهم .. هذا هو النجاح، أن تغتني بتوظيف المال اليسير الذي في يديك في المكان و الزمان اللذين تيسرا لك و تحاول استثماره و مضاعفته من خلال الأرباح التي تحصلها شيئا فشيئا و من خلال الإمكانيات المتوفرة لديك و الأساليب التي تبتكرها موازاة مع هذه الأرباح فلا تقف عند حد أو تشترط حصول المطلوب لسعة الكسب و لكن تتوسل إليه بما هو متاح.

ليست عندك سيارة للتنقل إلى محل عملك و لقضاء حوائجك .. أنت لا تتخلى عن عملك او حاجتك لانعدام هذه الوسيلة المثالية و إنما تتوسل بحافلة ركاب .. أو دراجة نارية أو عادية أو قدميك حتى أو أي إمكانية تتيح لك التنقل. المهم إعمل على وسعك و ابذل جهدك فهذا خير من لا شيء و بعدين ستحصل سيارة في حدود إمكانياتك ما لم تتوقف عن السعي و تشترط.

أضطررت إلى التغرب في بلد ثان و نئيت عن الأهل و الأصدقاء و لا تعرف هنالك أحدا لا تنزوي و تنطوي و تندب حظك فقد يكون أهلك و أصحابك و أصدقائك في البلد الثاني و من خلال سنة التعارف التي شرعها الله لعباده أضعاف عددهم في بلدك الأصلي أو في الحي الذي انتقلت إليه ففي النهاية كل مسلم هو من أهلك و هو خير صديق إذا وجدت فيه و وجد فيك الصدق و الأمانة و حفظ المودة و العهد و الأرض لا تخلو من مثله.

ليس عندك إمكانية لشراء دواء صناعي لمرضك وجدته باهض الثمن أو تعذر عليك الوصول إليه .. أمامك الأدوية البديلة فقد وجد الناس عجائب الشفاء في العسل و الحبة السوداء و غيرها من الأعشاب أو حتى الخضار و الفاكهة و كذا ممارسة رياضة تناسب مرضك بل وجدوه في الماء و استنشاق الهواء النقي .. و من الناس من وجد الشفاء في قراءة القرآن فعلى الأقل إرق نفسك بالقرآن و أدعية الشفاء فهذا أقرب شيء إليك و لا يكلفك شيئا و هو ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم و الصحابة رضي الله عنهم عندما يلتمسون فلا يجدون دواء كما أمروا .. فهل الشفاء في النهاية إلا من عند الله ؟ و في كل الأحوال بل في أحسنها توكل على الله فكفى بالله وكيلا.

أنت عندما تصاب أو يصاب أحد أقاربك أو ترى أي إنسان بجانبك أصيب في حادث من المفترض أنك تعرف الإسعافات الأولية و تسعفه بها ففي ذلك إنقاد لحياته أم أنك ستشترط حضور الإسعاف و الطاقم الطبي و المستشفى .. و إذا رأيت آخر يغرق و أنت لا تعرف السباحة أو لا تجيدها أليس من المفترض بك أن تبحث عن حبل أو أي شيء لا يصل هو إليه فتقربه منه أو تلقي به إليه أو تنادي على من ينقذه بدلك ؟

إن العمل على ما هو متاح و الأخذ بالبدائل سنة من سنن الله عز و جل التي شرعها لنا في سبيل النجاح و النجاة و الرضا عن الذات و التوافق النفسي و الإجتماعي و نفع أنفسنا و ذوينا و أمتنا و لولا هذه السنة ما تقدمت الحضارة الإنسانية هذه الأشواط الهائلة و لا اكتشف المكتشفون و لا اخترع المخترعون .. بل قد نلحظ هذه السنة في عالم الحيوان أيضا و حتى في عالم النبات، و أنت أيها الإنسان أولى أن تأخذ بها لأنك أذكى و ذو علم و آفاق واسعة و آمال و همة من المفترض أن لا تقف عند حد و أن تتلمس و تلتمس و تتوسل بأي شيء متاح و مباح لأجل الوصول .. و أنت من أنيط به الإبتلاء و الإختبار و تحمل الأمانة و المسؤولية على هذه الأرض .. فقط لا تكن عجولا فالعجلة تفسد كل شيء و تأتي على النجاح في أول طريقه و حيث بدأ.