مقاربات لتجلية فهم حديث سجود الشمس:
1- لا ينبغي معالجة الحديث على انفراد، بل يجب ربطه بما جاء في كتاب الله تعالى أولاً، ثم ما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً، وعن كل المتعلقات المرتبطة.
2- الانتباه إلى أن تضعيف الحديث لعلة ما، تضعيف عام لتلك العلة حيثما ترد، في القرأن أو السُنّة.
3- مراعاة جواز صحة أصل الحديث، وأن روايته قد تكون بلغة الراوي، على ما قد يكون اعتراه تبديل بعض الألفاظ، أو إسقاطها أو إضافتها بغرض التفسير، والتي إن حدثت، فغالباً ما تكون حسب فهم الراوي، والمرتبط بالثقافة الشائعة في عصره.
4- مراعاة التمييز بين الجري الحقيقي للشمس بجِرمها، والحركة الظاهرة لها في السماء، والناتجة عن دوران الأرض حول محورها. وهل قصد الحديث جرياً حقيقيا، وذلك ما تمليه اللغة والسياق، أم محض ظهور الشمس في السماء كما هي مرئية على الأرض كما يمليه الفهم السريع، وهذا يتضح أكثر وأكثر بجعل القرآن مرجع الفهم أولاً، ثم الوقائع المادية الكاشفة لمزيد من التفصيلات العينية لموضوع الدراسة؛ أي "الشمس" في مسألتنا هنا، ثانياً. ومن ثم:
5- مراعاة عدم إهمال الظواهر الطبيعية المحققة في موضوع الحديث. فما كان من حديث عن الشمس، وجب استحضار ما علمه الإنسان عنها علماً جازما أو راجحاً، كلٌّ بقدره.
نقول: إذا راعينا الاعتبارات السابقة، فلا بد أن نصل إلى أنه:
1- إذا تم رد الحديث لما ورد فيه من أن الشمس تسجد، سواء لاستنكار مبدأ السجود بسبب عدم تصوره، أو لعدم القدرة على الجمع بين سجود الشمس ودوام حركتها، فسيكون رفضاً ضمنياً، أو تشكيكاً، لكل خبر ورد فيه ذكر سجود للشمس أو ما يُلحَق بها من جنسها، على ما تيقّن للإنسان من علم لاحق؛ أي: "النجوم"، أو حتى عموم الأجرام. ومن ذلك قول الله تعالى "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَ.."(الحج:18)، وقوله تعالى "وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ"(الرحمن:6)، ويلحق به قوله تعالى "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ..."(الإسراء:44)، وقوله تعالى "كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ"(النور:41). هذا بالرغم من أن الله تعالى قد يسر علينا قبول هذه الحقائق، الغائب عنّا كثير من أسرارها، بقوله تعالى "وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ"(النور:41).ويُعد الرفض مشكلة كبرى في حق الرافض! لأن تكذيبه أو تشكيكه سيطال أثره هذه الآيات الصادقات من حيث ينتبه أو لا ينتبه!
2- إذا تم رد الحديث لما يتبادر إلى الذهن أو الوهم من انتقال حقيقي للشمس من موضعها في قلب مجرة درب التبانة - التي هي عليه الآن - إلى مسامتة العرش والسجود (الشبيه أو غير الشبيه بالسجود الإنساني) تحته مباشرة، فهو رفض الأصل لوجه تأويلي واحد - شديد الضعف - وكان يناسب ثقافة قديمة، وقد قيد به صاحبه معنى الحديث من عند نفسه. هذا رغم أن الوجوه التفسيرية منفتحة بقدر ما ينفتح من العلم الصحيح أبواب بالمسألة، تعمل على مزيد من الإحاطة بها.
3- إذا تم رد الحديث لتصور تعارض بين سجود مؤقت للشمس عقب غروبها، باعتبار أنه وقت لا يزول لدوام غروب وطلوع الشمس بلا انقطاع عن مواقع متتابعة على الأرض، فهو رفض ينال قول الله تعالى "كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ"(الرحمن:29) بشكل من الأشكال، باعتبار أن اليوم – والذي علامته طلوع الشمس- ظاهرة مستمرة لا تنقطع عن الأرض. ولما كان المعنى الراجح لهذه الآية الكريمة أنَّ شأن الله تعالى لا ينتهي مثلما لا ينتهي دوام الأيام واتصال بقائها، والتي تتوالي مع كل أنة من أنات الزمان، فكذلك سجود الشمس عند غروبها، هذا إن كان ذلك هو المعنى الفريد للحديث! غير أنه ربما لا يكون الأمر كذلك بالضرورة على سجود الشمس في مستقرها على ما سيتبين! رغم أن الشمس قد تكون مُسبحة دوماً تسبيحاً عاماً، إضافة إلى سجود خاص في المستقر، مثلما أن المسلم مكلف بسجود عام متجدد خمس مرات كل يوم إضافة إلى سجودات خاصة بالجُمَع والأعياد والحج والعمرة.
4- إذا تم رد الحديث لاستعصاء تصور مدلول الحديث – من ذهاب للسجود تحت العرش - في إطار طلوع الشمس وغروبها اليومي على الأرض، فليس هناك ما يمنع من أن الحديث لا يعالج الحركة الظاهرة للشمس كما أملتها الثقافة القديمة والبسيطة، بل يعالج ذهاباً حقيقياً، وجرياً موضوعياً للشمس بعيداً عن تبعات دوران الأرض حول نفسها، وأن سياق الحديث قد اشتبك مع الغروب عَرَضَاً، لعلة مخصوصة تناسب إطار الدرس التعليمي للنبي صلى الله عليه وسلم للأمة – وكما أوردناه في قصة الغلام وأمه وأبيه الصياد أعلى - بحيث لا يستنكره ناقل الحديث، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن تمييز الناس إلى ثلاث فئات: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير (وهذه هي الفئة الأولى)، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا (وهذه هي الفئة الثانية التي حفظت لنا علماً ننتفع به الآن وإن لم تنتفع هي به لاستعصائه عليها)، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ (وهذه هي الفئة الثالثة التي لم تنتفع بالعلم، ولم تحفظ العلم لغيرها، بل أنكرته أو أضاعته)، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم (أي: الفئتان الأولى والثانية)، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (الفئة الثالثة)"(رواه البخاري). ومثال لهذا الذي استعصى على الفئة الأولى، لعدم اكتمال نصابه بعد، وأنكرته الفئة الثالثة لظنها بكمال العلم في نفسها بما يمكنها به نبذ ما لا تستسيغه - هو مسألة سجود الشمس - والتي يمكن فهمها على النحو التالي:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم عن ذهاب حقيقي للشمس للسجود الخاص بها ("صلاتها وتسبيحها")، وهذا يناسبه أن تكون الشمس غير مرئية، إذ لا مفر من أن يستنكر السامع حكاية النبي عن ذهاب الشمس في وقت تكون الشمس أمام عينيه، لذا ناسب الحكمة أن يتوحد ذهابها الظاهر مع ذهابها الحقيقي. ويكون البعيد هو المقصود، وإن لم يعيه السامع والراوي وظل عليه مشتبهاً، ومن ماثله في الثقافة (وهذه هي الفئة الأولى في الحديث السابق)، لأن رسالة الحديث على تفصيلها ستُفهم لاحقاً (من الفئة الثانية)، وإن كان مضمونها يشمل الجميع، وهذا هو الحال الذي نُرجِّحه مع الآيات المتشابهات، وخاصة ما كان منها يتعلق بالأمور الكونية، والتي أُمر المؤمنون باعتقادها رغم اشتباهها عليهم.
5- أن عبارة " فقال يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس" هي لفظ الراوي (أبو نعيم)، وأن صحيحها "أين تذهب الشمس" كما نقلتها رواية محمد بن يوسف. ومما يؤكد ذلك أنها وردت في الروايات الخمس التي استقصيناها من الصحيحين على الصورة "أين تذهب"، وفي رواية واحدة فقط وردت "أين تغرب". وربما أن الرواي قد أتى بلفظ "أين تغرب" وهو يقصد الذهاب حسبما فهم هو من الحديث، وأنه أتى بلفظه هو دون ما كان عليه النص الأصلى لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وربما أن "تغرب" كانت عند الراوي بنفس معنى "تذهب"، لذا لم يجد غرابة في ترادفهما، كما تقول العرب (غرب الجبل وغاب، إذا ما أبعدوا عنهم حتى اختفى عنهم)، وكما جاء في لسان العرب: (الغَرْبُ الذهابُ والتَّنَحِّي).
6- إذا تم رد الحديث لتصور أن "تحت العرش" لا تعني إلاً فوق السموات السبع وتحت العرش مباشرة كما ذكر ذلك الألوسي – في روح المعاني- حين قال: [المراد من تحت العرش مكانا مخصوصا مُسَامِتاً لبعض أجزاء العرش] فهذا تحكُّم ممن يرفض الحديث، لقيام رفضه على تخصيص معنى بما لا مخصص له في أصل النص. وقريباً منه من يفهم من قول الله تعالى (على لسان إبراهيم عليه السلام): "وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ"(الصافات:99) بأنه ذاهب إلى لقاء ربه لقاءاً عيانياً!. وإذا كان الخبر يتكلم عن ذهاب الشمس، فلا بد أن يذكر لها موضعاً تذهب إليه، وإذا كان تصور الموضع العيني للسامع القريب مُشكل، عُمم له الكلام، ليستسيغه، وسيفهمه مَنْ وراءه - إذا جاء أجل ظهور المعنى - بما يكشفه الله تعالى له من قرائن. ومن المواطن الشبيهة التي نتعرض لها أن يسأل بدوي عن موضع جبال الجليد – ولا خبرة له بالجغرافيا – فنُجيبه بأنها وراء البحر المحيط. أو يسأل طالب صغير عن موضع الإلكترونات، فنجيبه بأنها تحت السطح المرئي للمادة، والمعنى الفريد في كلا هذين السؤالين أخص من التعميم الوارد في إجاباتها. وكذلك هنا في حالة الشمس. إذ أن "تحت العرش" عام – الكون بأكمله - أريد منه خاص. ولن يُعْلَم هذا الخاص إلا بالقرائن. وقد ناسب ذكر هذا العام "تحت العرش" غرض الذهاب، أي السجود. فكان تعميماً يُسَوّغ المعنى للسامع، ويناسب غرض الذهاب، ويُعلًّق فيه خاص المعنى على ما يظهر لاحقاً من قرائن.
7- إذا كان رد الحديث بسبب ما جاء في فهم المفسرين من ثقافة قديمة، علمنا لاحقاً أنها تبدلت بما كشفه الله تعالى من معارف جديدة، فالسالك هذا المسلك – إن كان على منهج علمي مُطَّرِد - عليه أن يرد أيضاً الآيات التي فُهمت بثقافة قديمة لم يعد لها من العلم المعتبر نصيب، وهو منهج معهود لغير المؤمنين بالقرآن، لأنهم يتعللون بما يوافق أغراضهم، حتى وهم يعلمون أن هذه العلل المفهومية من أخطاء البشر، ولا علاقة لمعاني القرآن بها. وأمثلة ذلك ما قيل(5) في معنى قول الله تعالى "وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ"(الانفطار:2): من أنها (تساقطت على وجه الأرض). وهذا التفسير مردود بكل المعايير. ولو أراد أحدٌ ممن ينكر القرآن ويبحث عن ذريعة يُبرِّر به جُرأته، لكفاه هذا التفسير لرد الآية، ولارتكس من حيث زعم أن مراده الحق. وأمثلة هذه التفسيرات المردودة الآن من الكثرة البالغة، مما لو اعتمدها أحدٌ على أنها المرادة من عين ما تفسره، لنفض يده من الدين، كل الدين. بل الحق أن الدين هو النافض يده من تكلُّس قد استحكم على بعض الأفهام. لا تستفهم إلا في إطار ثقافتها، فإن امتنع عندها الفهم، قدمت الإنكار أو التعطيل!
مقاربات في الفروق اللغوية:
1- بين يقِر ويستقِر، ومن ثم؛ بين القرار والمستَقر:
2- بين الفلك والمستَقر:
3- بين السباحة والجريان:
4- بين يجري إلى، ويجري لـ :
نعمد الآن إلى تفصيل هذه الفروق:
1- بين يقِر ويستقِر، ومن ثم؛ بين القرار والمستَقر:
يقر: يسكن في قرار، فلا ينزاح عنه، كالماء يسكن في وعائه. و"القار": لا يعهد له بقاء إلا في محل قراره، بمعنى التحيُّزْ الدائم في مقره، كالماء الساكن في قعر القارورة، ومنه جاء اسمها. ومنه سُمِّيت اليابسة المتصلة على الأرض "القارة" continent لجمودها المعهود على مدار الزمان كما يراه الإنسان. كما سُمّيَ "القرار" decision الذي يقرّه أصحابه لنيتهم في عدم الرجوع عنه. وسُمِّي المَقَرْ headquarter كمركز رئيسي لحكومة أو شركة لكونه الأصل لها، الذي لا أصل أرسخ منه، وهكذا.
أما (استقر)، فهو مَزِيد عن (قرّ) بالـ (أ، س، ت)، ومعهودها في لغة العرب (طلب حصول الشيء) أي طلب حصول القرار، ولأنه قد ينزاح عنه سُمِّي مستقرا. فيكون الاستقرار طلب المستقر، والمستقر مطلوب غير مأمون، وإلا كان قراراً. وعلى ذلك يكون:
الاستقرار هو: [طلب (القرار) مع دوام وجود عوارض تحول دون تمام الخلوص إليه على مدار الزمن].
ويكون المستَقر هو: [(القرار) المطلوب الخلوص إليه، مع وجود عوارض تحول دون تمام ذلك].
ونسبة المستقِر إلى المستَقر، كنسبة القار إلى القرار.
ويمكن النظر للفرق بين القار والمستقِر (ومثلهما: القرار والمستَقر) من وجهتين، كلاهما صحيح، كما أن مجموعهما صحيح.
الأول (وجود العوارض ولو لحظياً): أن القار لا يبرح قراره (الذي هو قار فيه) لانعدام الدافع لذلك. أما المستَقر فالدافع قائم لكنه يغالبه بالتمسك بالمُستَقر، وإلا تركه لمستقر غيره.
الثاني (المُكث الزمني): أن القار لا يبرح قراره لزمن ممتد، فيَقِر فيه لأمد. أما المستقِر فلا يلبث أن يتزحزح أو يتقلب فيه مع الزمن، حتى وإن قرّ فيه لبرهة عابرة أو فترة زمنية قصيرة غير مأمونة. أي أنه يتعمد المكث فيه لفترة غير محددة، وإلا لم يعد له مستَقَرّا فضلاً عن أن يكون قراراً.
وبناء على هذا التحليل يمكن فهم الفرق بين كون الأرض قرارا للإنسان في قول الله تعالى "اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا"(غافر:64)، وبين أن فيها مستقراً للإنسان في قول الله تعالى "وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ"(البقرة:36). فالأرض بجملتها قرار للإنسان، بمعنى أنه لن يتركها ويبقى له دوام وجود في غيرها، وفي هذا تعريج سلبي على طموحات انتقال الإنسان إلى كواكب أخرى صالحة للحياة، إلا إذا كنا مخطئين في تحليلنا، أو أن يعم لفظ الأرض كل كوكب ثابت تحت أقدام الإنسان ويجد فيه أسباب البقاء. أما نواحي الأرض المختلفة، ففيها مستقر للإنسان حيثما يتيسر له من أسباب الحياة، ولهذا يتنقل الإنسان بين هذه المستقرات بلا قطع لأسباب البقاء مثلما ينقطع عنه في حال تركه للأرض الثابتة.
ويفيدنا هذا التحليل أيضاً في فهم أن صفة القرار للأرض متعلقة بالإنسان، ومثله الأحياء والجمادات وكل ما يطلب قراراً له بحكم خلقته التي خلق عليها، وليست متعلقة بذات الجرم من حيث السكون والحركة. ولو كان ذلك هو المقصود لجاء وصف الأرض بأنها "قارة" وليست قرارا. فالقار هو القار بذاته نسبة إلى محيطه وحامله كالقارات على الأرض، وكالجنين في بطن أمه كما قال تعالى "ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ"(المؤمنون:13)، وكالماء في القارورة. أما القرار فهو بالنسبة لما يحمله هو كالأرض لكل ما عليها، وكرحم الأم لجنينها، وكالقارورة لما تحمله من مائع. ومن ثم لا يمتنع أن يكون الشيء قرارا ويتحرك بنفسه لأسباب خاصة به؛ كالأم تحمل الجنين في بطنها، والقارورة وفيها الماء، والأرض تحمل أثقالها. وعلى ذلك يكون من تعلل بقول الله تعالى "اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا"(غافر:64) على أنه دليل على سكون الأرض قد أخطأ في الاستدلال.
والخلاصة: أن المستقًر يمكن لساكنه أن يذهب عنه ويعود إليه، ويكون ذهابه هو الأقل، ومكثه فيه هو الغالب والأصل. أو ينتقل لمستقر آخر، كالإنسان على الأرض يتنقل، بلا انعدام لوجوده، بخلاف القرار، حيث لا انتقال منه. وعلى ذلك، فمَنْ فهِم أن "مستقر الشمس" موضع تذهب إليه الشمس دون نزوع عنه فيما بعد، فقد جعل هذا الموضع لها قراراً، ولأن الله تعالى سماه مستقراً وليس قراراً فيكون هذا الفهم غير صحيح. ويكون المستقر الذي تجري الشمس له يشبه مستقرات الإنسان الفرد على الأرض؛ وهو يتنقل من أحدها إلى الآخر. ولهذا جاء نكرة، ولم يضف إلى الشمس؛ أي لم تأتِ الآية على الصورة "والشمس تجري لمستقرها"، لأنه عندئذ يتعين وينفرد. ولأنه نكرة يصبح غير متعين، أي متعدد، غير أن تلك المستقرات يجمعها فضيلة واحدة وهي أنها مواضع تحقق طلب الشمس الاستقرار فيها دون سواها من مواضع.
2- الفلك والمستَقر:
الفلك: معلوم أن معاني الألفاظ تتبدل مع تغير الثقافات، وأن اللفظ الواحد يكون له من المعني في أصل اللغة ما يتم تجاوزه في العلوم المختلفة لمعاني خاصة. وقد يشتهر المعنى الخاص أكثر من أصل المعنى حتى يسود عليه، وينسى الناس الأصل ويلتصقوا بما تبدل به، أو خص له من معنى. وهذا التباس عظيم في التفسير لمن ينكص عن اقتفاء أصول المعاني، ولا يقف على حدودها.
والأمثلة على هذا المسلك الخطر كثيرة، وسبق أن استعرضنا منها ما جاء في تفسير ("أقطار") في قوله تعالى "إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا"(الرحمن:33)، وعرضنا لمن قال في معناها أنها الأقطار الهندسية، وقد بنى على ذلك أخطاء علمية شنيعة، وفنَّدنا هذا المعنى في دراسة "خطيئة لُغوية وانتكاسة علمية".
وهنا ..، وفي محاولة التقصي عن معنى "فلك"، وجدنا أن نفس الإشكال يتكرر، وإن كان بصورة خفية، لا يرى فيها المتسرع من إشكال، غير أن الإشكال يتفاقم وينتج عنه تشويشٌ، يضيع معه رهافة الفرق بين معنى السباحة في الفلك ومعنى الجريان! وهذا ما حدا بالمفسرين أن يجعلوهما من المترادفات.
وما نقصده بالخطأ الذي شاع للفظ "الفلك"، على خلاف معناه الأصلي، أن المعنى الأصلي للفلك في قوله تعالى "كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"(الأنبياء:33) هو المجرَى المستدير الذي يسبح فيه السابح، أي النطاق المنغلق على نفسه كما هي فلكة المغزل، شكل (1)، وكما هو فلكة عمود الخيمة. وفي المعاجم والتفاسير القديمة نجدهم يشبهون هذا الفلك بالطوق، فنجد في لسان العرب: [والمنجمون يقولون سبعة أَطْواقٍ دون السماء قد رُكِّبَت فيها النجوم السبعة (يقصد الكواكب)، في كل طَوْقٍ منها نجم، (ونقل عن الزجاج قوله كلٌّ في فلكٍ يَسْبحون؛ لكل واحد، وترتفع (أي تظهر هذه الأفلك) عما حولها. وقال أبو هلال العسكري في الفروق: "الفلك: مدار النجوم"، (يقصد: حيث تدور النجوم)]
يتبع ======
Bookmarks