((خَلْقُ الله عز وجل لأفعال العباد))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله .. وبعد؛
أجمع أهلُ السنة والجماعة على ما دلَّتْ عليه آياتُ القرآن الكريم .. وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على أن الله عز وجل هو خالقُ أفعال العباد .. وهذا هو الحق الذي يتمشى مع إفراد الله عز وجل بالخلق والأمر .. فلا خالق سواه .. ولا رب غيره سبحانه وتعالى.
فإِنْ قيل: وكيف يكتب الله عز وجل على الناس الشر والمعصية؟ أليس هذا جبرًا لهم على ما لا يريدون؟ ثم كيف يعذبهم على ما أراده بهم؟
فالجواب على ذلك: بأن هذا القول هو قول الجبريَّة الضُّلال .. الذين يعتقدون أن الله عز وجل قد جبر عباده وأرغمهم على أفعالهم وأن العباد لا إرادة لهم في أفعالهم .. يريدون أن الله قد سلب إرادتهم وجبرهم على ما يشاء هو سبحانه وتعالى..
وقول الجبرية هذا كلامٌ مغلوطٌ .. وسوء ظنٍّ بالله عز وجل ..
وحاشى لله من هذا القول الشنيع
وقد تواترت الآيات والأحاديث .. وتواطأت النصوص الشرعية .. والبراهين العقلية على أنه سبحانه أعدل الخلق وأحكم الخلق .. إذا أراد شيئًا إنما يقول له كن فيكون .. لا رادَّ لقضائه .. ولا شريك له في حكمه.
وأنه سبحانه وتعالى لا يجبر أحدًا من خلقه على معصيةٍ .. ولا يريدها من عباده .. وإنما خلق الشر والمعاصي ليتم الابتلاء .. ويُعْلم الصادق من الكاذب .. المطيع من العاصي.. فيجزي الله عز وجل المطيع على اختياره الطاعة خير الثواب .. كما يجازي العاصي على اختياره المعصية.
فالخلق غير الإرادة.
الخلق شيءٌ والإرادة شيءٌ آخر.
وإنما ضلَّتِ الجبرية حين خلطتْ بين الأمرين.
ولو كان مجرد الخلق كافيا للدلالة على الإرادة لم يكن للرسل فائدة.
وإنما جاءت الرسل لتبلغ للناس إرادة الله عز وجل بهم .. وما يريده منهم .. ولهذا لم يكن الحساب على مجرد الخلق.
فلا يحاسب الله عز وجل الإنسان بمجرد خلقه له وكفى .. وإنما حاسبه بناءً على إرادته منه الطاعة وابتلائه بإيجاد الشيء ونقيضه .. الخير والشر .. ثم أمر الله عز وجل الإنسان وأراد منه أن يتبع الخير.
ولو لم يخلق سوى الخير وفقط لم تكن ثمة فائدة من إرسال الرسل وإنزال الكتب وخلق الجنة والنار وخلق إبليس والشيطان.
وهذا لا يليق أبدا بعدل الله وقضائه وتفريقه بين عباده بناءً على اختياراتهم هم وإرادتهم هم لا بناء على مجرد خلقه لهم.
ونحن نرى جميع الطلاب في المدارس توفر لهم المدرسة كافة ما يلزم من كتب وأماكن دراسة ومدرسين وشروحات ولا تكتفي بهذا .. ولا تجعل من هذا التوفير سبيلا لإسعاد بعضهم بتعيينه في وظيفة كذا أو سبيلا لعقاب آخرين بطردهم من المدرسة مثلا.
وإنما تضع الاختبارات النهائية في آخر العام أو غيره بحيث يظهر من هذه الاختبارات التي هي بمثابة ابتلاء (اختبار) للطلبة جميعا ليظهر منها الجاد الذكي النابه المستحق للنجاح .. كما يظهر الفاشل الغبي المستحق للطرد من المدرسة ليوفر مكانه لغيره من الجادين.
مجرد توفير المدرسة بمحتوياتها لم يكفِ لمعرفة الذكي من الغبي أو الجاد من الفاشل.
كذلك الحال فإن قضية خلق الله عز وجل للخير والشر تنتهي عند خلقهما ولا يُبْنَى عليها ثوابٌ أو عقابٌ.. وإنما الثواب والعقاب يأتي بعد الابتلاء الذي هو الاختبار للناس كافة.
ولا يكون الاختبار والابتلاء إلا بعد إقامة الحجة كما قال الله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِيْنَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}.
فيرسل الله رسله وينزل كتبه لإبلاغ الناس بإرادته منهم .. أن اعملوا صالحًا أيها الناس .. اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت .. اتبعوا ما أنزل الله ولا تتبعوا سبل الشيطان ووعوده الكاذبة.
هذه هي إرادة الله عز وجل من عباده .. وهي كما نرى قضية أخرى تماما غير قضية الخلق المجرد (وهذا ما لم تفهمه الجبرية والقدرية الضالة).
وهنا يأتي الثواب والعقاب .. من أطاع فلنفسه .. ومن عصى فعليها .. بناءً على اختيار العبد لنفسه .. بعد أن يأمره الله عز وجل وينهاه .. ويبلغه إرادته منه عن طريق رسل الله وكتبه.
فإن قيل: نفهم من كلامك أن للعبد اختيار وإرادة من كسبه هو؟
فالجواب: نعم للعبد اختيار وإرادة من كسبه هو .. وهل محل الثواب والعقاب.. وعليها يكون الجزاء .. إن خيرا فخير .. وإن شرًّا فشر.. وقد سبق أن الله عز وجل لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه .. وإقامة الحجة تستلزم وجود إرادة لدى الإنسان يختار بها هذه الحجة .. وقد قرر سبحانه وتعالى هذا المعنى في آياتٍ كثيراتٍ .. كما قررته السنة النبوية .. وتواطأت النصوص كلها على إضافة إرادة العبد وكسبه لنفسه .. وأنه يجازى على اختياره هو .. ولو لم يكن العبد مختارًا لما طلب الله عز وجل منه الطاعة .. ولا نهاه عن المعصية.
ونحن نرى قوانين الدول بأكملها توضع للناس وتنشر فيهم .. من فعل كذا عوقب بكذا .. وللناس أن تختار لأنفسها .. ومن اختار الخروج على القانون وارتكاب الجرائم عوقب بعد ذلك بالعقوبة المقررة بناء على اختياره هو لا بناء على مجرد وجود العقوبة أو القانون.
فالعقوبة موجودة من زمن .. والقانون موجود .. ومع هذا لم تحل العقوبة بفلان من الناس إلا حينما اختار بنفسه ارتكاب جريمة كذا فعوقب بعقوبتها.
فلدينا هنا عقوبة .. وجريمة بأسبابها .. وإرادة.
والعقوبة لا تأتِ إلا بعد الإرادة .. ووجود الجريمة لا يستلزم منه العقوبة أبدا كما ترى.
كذلك الحال (ولله المثل الأعلى) عندنا .. خير وشر .. ووجودهم لا يعني الثواب أو العقوبة .. وإنما يأتي الثواب على عمل الخير .. وتأتي العقوبة على عمل الشر .. بناء على إرادة الإنسان لعمل هذا أو ذاك.
فإن قيل: فهل يعني وجود الإرادة في الإنسان أنه هو الذي خلقها في نفسه؟
فالجواب على ذلك: أن هذا هو قول القدرية الضلال الذين جعلوا مع الله إلهًا آخر فخالفوا الجبرية الضلال أيضًا فقالت الجبرية: الإنسان مجبر ومسلوب الإرادة .. فخالفتهم القدرية فقالت: بل الإنسان مريد ولكن القدرية زادت على ذلك فجعلت الإنسان هو خالق إرادته .. فجعلته بهذا شريكا لله عز وجل في الخلق.
وقول الجبرية والقدرية هو أفسد الأقوال ولا يمت للصواب بصلة .. وقد ذكرنا الصواب في ذلك آنفًا ولنذكر هنا الجواب على السؤال الحالي وهو: هل يعني وجود الإرادة في الإنسان أنه هو الذي خلقها في نفسه؟
والجواب على ذلك بالنفي لأن الإنسان مخلوقٌ كله .. روحه وجسمه وإرادته وأفعاله .. ولا يمكن للمخلوق أن يكون خالقًا أبدا .. فلا يمكن أن يقال: إن بعض الإنسان بشر وبعضه إله .. فهذا هو قول النصارى في عيسى عليه السلام .. وهو قولٌ باطلٌ وزور.
وقد دلَّتِ الآيات والأحاديث على أن الله عز وجل هو خالق كل شيء .. وأنه لا يقع في ملكه إلا ما يشاء سبحانه وتعالى .. والإنسان كله من مُلْكِ الله عز وجل .. روح الإنسان وجسمه وأفعاله وإرادته كلها من مُلْك الله .. فإرادة الإنسان مخلوقة .. خلقها الله فيه .. وجعله الله قادرًا على إرادة الأشياء .. ثم أعطاه سبحانه وتعالى القدرة على فعل الأشياء التي يريدها .. كل هذا أوجده الله عز وجل في الإنسان وخلقه فيه.. ولكن لا يلزم من وجود ذلك وخلقه في الإنسان أن يعاقب أو يجازى عليه.
وإنما يجازى الإنسان بناء على استخدامه هذه الإرادة وهذه القدرة التي وهبها الله له .. فإن أراد الإنسان الخير واستخدام ما وهبه الله له من قدرة على فعله في عمل الخير .. أثابه الله على ذلك .. وإن أراد الشر وفعله باختياره هو عاقبه الله عز وجل على اختياره هذا.
فالثواب والعقاب كما نرى ليسا على وجود القدرة لدى الإنسان على إرادة الأشياء وفعلها .. وإنما هي على كسبه واختياره هو في توجيه هذه الإرادة وهذه القدرة على عمل الخير أو الشر.
ومن هنا نفهم مسألة كون مشيئة العبد وإرادته وأنها تحت مشيئة الله عز وجل وإرادته .. فلا يشاء العبد شيئًا ولا يريد أمرًا إلا بعد أن يخلق الله عز وجل له المشيئة والإرادة التي من خلالها يقدر العبد على أن يشاء أو يريد أمرا ما .. ويترك الله عز وجل له حرية الإرادة والمشيئة هنا يختار ويشاء ما يريد .. من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. كما قررت النصوص القرآنية والنبوية في هذا الموضوع.
ولهذا يقول سبحانه وتعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الإِنسان: 30].
فإن قيل: ولكن الله عز وجل كتب على بعض الناس النار وعلى آخرين الجنة قبل موتهم كما ورد ذلك في بعض النصوص؟ فأين الاختيار الذي تتحدث عنه؟
فالجواب على هذا: أن الله عز وجل كتب الجنة والنار على الناس بناءً على سابق علمه لا بناء على جبره لهم أو تقديره ذلك عليهم حتمًا منه بغير اختيار منهم .. وإنما كتبه سبحانه بناء على أنه يعلم ما في كونه .. لأنه ما يكون في كون الله عز وجل من شيءٍ إلا وهو يعلمه قبل أن يكون .. وبناء على هذا كتب الله عز وجل ما عَلِمَ أن العباد سيختارونه برغبتهم .. فكتب عليهم أعمالهم التي سيختارونها هم بناء على علمه بما سيفعلونه باختيارهم.
وهذا معنى أنه لم يكن ولن يكون في الكون إلا ما يعلمه الله عز وجل .. وأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة ..
وقد تبرأ الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما من هؤلاء القدرية الذين يقولون: إن الأمر أُنُف .. يعني أن الله عز وجل لا يعلم ما يحدث إلا بعد حدوثه .. فتبرأ منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في قصته التي في أوائل ((صحيح الإمام مسلم رحمه الله)) ..
وحَقٌّ على كل مسلمٍ أن يتبرأ من قول القدرية الشنيع في أن الله عز وجل لا يعلم الأمور إلا بعد حدوثها بل الله عز وجل يعلم ما كان وما يكون الآن وما سيكون في غدٍ إلى أن يشاء الله عز وجل بطلاقة علمه الذي لا يغيب عنه مثقال ذرةٍ.
وهذا هو سبب خلط القدرية في هذا الباب .. وقد تشابهت بعض أقوالهم مع النصارى .. كما تشابهت بعض أقوالهم مع المجوس لعنة الله عليهم.
وأختم كلامي بما ذكره الإمام البيهقي في كتاب ((الاعتقاد)) (237) قال: ((وإنما سموا قدرية لأنهم أثبتوا القدر لأنفسهم ونفوه عن الله سبحانه وتعالى ونفوا عنه خلق أفعالهم وأثبتوه لأنفسهم فصاروا بإضافة بعض الخلق إليه دون بعض مضاهين للمجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة وأن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة)).
وما ذكره العلامة ابن باديس في كتاب ((العقائد الإسلامية)) قال: ((53 - ومن توحيده تعالى في ربوبيته
اعتقاد ان العبد لا يخلق أفعال نفسه فهو كما لم يخلق ذاته ولم يخلق صفات ذاته كذلك لم يخلق أفعاله فهو كله مخلوق لله ذاته وصفاته وأفعاله غير انه له مباشرة لأفعاله باختياره فبذلك كانت أعمالا له وكان مسؤلا عنها ومجازى عليها وتلك المباشرة هي كسبه واكتسابه
فيسمى العبد عاملا وكاسبا ومكتسبا ولا يسمى خالقا
لعموم قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} {لها ما كسبت وما عليها ما اكتسبت} {فمَن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}.
54 - ومن توحيده تعالى في ربوبيته
اعتقاد ان العبد لا يخرج في جميع تصرفاته عن مشيئة الله غير انه له اختيارا يجده بالضرورة من نفسه ومشيئة يجدها كذلك فيما يمكنه من أفعاله كان بهما مكلفا ثم هو لا يخرج بها عن مشيئة الله
لقوله تعالى: { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما} {وما تشاؤون الا ان يشاء الله رب العالمين}
وقوله تعالى: {ولو اننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا الا ان يشاء الله} {ولو شاء ربك ما فعلوه} {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر})).
ونسأل الله السلامة من الخذلان.
Bookmarks