مصطلح " العدم " من أعقد المصطلحات التي يستخدمها الإنسان ، و هو مصطلح يصعب جدا على الذهن البشري إدراكه و استيعابه ...
ففكرة الانتقال من العدم إلى الوجود فكرة صعبة على العقل ، كما أنّ فكرة الانتقال من الوجود إلى العدم صعبة على العقل أيضا ...
و سأحاول أن أضع النقاط على الحروف في هذه المسألة ، و أجمع الطرفين على كلمة سواء ...
يتفق المؤمنون و الملحدون على استحالة وجود العدم المطلق في الخارج ...
بمعنى أنه يستحيل أن لا يكون هناك شيء موجود في الخارج ، و عليه فيجب أن يكون هناك موجود أزلي في الخارج ، و عليه فالوجود أزلي بوجود موجود أزلي في الخارج ..
يقول المؤمنون بأنّ الموجود الخارجي الأزلي هو واجب الوجود و هو الخالق .
و يقول الملحدون بأنّ الموجود الخارجي الأزلي هو المادة .
عندما ننظر إلى الخارج الآن ، نجد موجودات كثيرة ، و حتما هذه الموجودات الجزئية في الخارج ليست أزليّة ، فلا البسكويت أزلي ، و لا الشجرة أزليّة ، و لا الأرض أزلي ، و لا المجرّة أزليّة ..!
و هنا ينقسم الطرفان ، ليقول المؤمن : كلّ الموجودات الجزئيّة في الخارج ليست أزليّة ، لأنّ الخالق الأزلي أوجدها من العدم !
بينما يقول الملحد : صحيح أنّ كلّ الموجودات الجزئيّة في الخارج ليست أزليّة ، لكنّها صور لشيء جوهري أزلي ! فالمادّة في جوهرها أزليّة ، لكن صورتها المتملثّة في المجرات و النجوم و الكواكب و الكائنات ، صورة غير أزليّة !
و هنا يسأل المؤمن : و ما هي المادّة الأزليّة في جوهرها بدون صورها الجزئيّة المستحدثة ؟!
فيجيب الملحد : لا أعلم ماهيّة المادّة الحقيقيّة ، قد تكون أوتار فائقة ، قد تكون موجات طاقة ، المهم هناك شيء مادي أزلي ، منه جاءت البروتونات و الالكترونات و الذرات و الجزيئات و العناصر و المركبات و النجوم و المجرات و باقي الكائنات ... !!
و هنا نلاحظ أنّ هناك اتفاق بين الطرفين على وجود العدم الجزئي ، و هو عدم وجود الشيء المعيّن ...
فالشمس مثلا ، أصبحت موجودة بعد أن لم تكن موجودة .. و عليه ، فالشمس كانت عدما ، و انتقلت من عالم العدم إلى عالم الوجود .
و هنا سيقول الملحد : الشمس قبل وجودها ، كانت مادّتها موجودة في نجم آخر ، و عندما انفجر ذلك النجم ، تحولّت مادّتها إلى نجم جديد هو الشمس .
فيردّ المؤمن قائلا : و من أين جاء ذلك النجم المنقرض ؟
فيجيب الملحد : من مجرّة سابقة منقرضة ، من مادّتها تكوّنت نجوم أخرى .
فيسأل المؤمن : و من أين جاءت تلك المجرّة المنقرضة !؟!
فيجيب الملحد : من كيان آخر قبله ، و ذلك الكيان من كيان آخر قبله ، و هكذا !
فيقول المؤمن : إلى متى سترجع إلى الوراء ؟؟ هل سترجع إلى الملانهاية ؟ أم سترجع إلى نقطة بداية ؟!
هنا تبدأ حيرة الملحد .. فإن قال بأنّه سيرجع إلى المالانهاية ، سيقع في تسلل العلل للمالانهاية ... و هذا محال عقلي
و إن قال بأنّه سيرجع إلى نقطة بداية ، فأمامه ثلاث خيارات مرّة :
[color="#800000""]الخيار الأوّل[/color] : نقطة البداية ، عبارة عن كيان أزلي ، و هو جوهر المادّة ، بدون صورة خارجيّة ، و هو أصغر موجود في الوجود .
الخيار الثّاني : نقطة البداية ، عبارة عن العدم ، و من العدم جاء كلّ شيء بالصدفة و بمرور الزمن.
الخيار الثالث : نقطة البداية ، عبارة عن كيان أزلي ، و هو خالق المادّة ، الذي شاء أن يخلق المادة و يجعلها تتشكل في صورها المختلفة ، و هو أعظم موجود في الوجود.
فإن قال الملحد الخيار الأول ، فمعناه أنّ هناك شيء في الخارج لا صورة له ، بمعنى أنّ هناك العدم ، و العدم المطلق محال عقلي !
و إن قال الملحد الخيار الثاني ، فمعناه أن يمكن أن يأتي شيء من اللاشيء بدون شيء ، و هو الرجحان بلا مرجح ، و هو محال عقلي !
فلم يبق أمام الملحد سوى الخيار الثالث ...
و طبعا الملحد لن يستسلم بسهولة ، و يحاول إنقاذ نفسه قائلا : و كيف خلق الخالق المادة من العدم ؟؟!!
فأمامك أيّها المؤمن أحد خيارين ، و كلاهما مرّ :
الخيار الأول :أنّ الخالق خلق المادة من نفسه ، أي أخذ بعض ذاته و حوّلها إلى ذات أخرى و هي المادة .. فالمادة جزء من ذات الخالق !
الخيار الثاني : أنّ المادة جاءت من العدم ، و محال عقلي وجود الشيء من اللاشيء ، و هو الرجحان بلا مرجح .فإن جاز مجيء المادة من العدم ، بالخالق ، جاز ذلك بلا خالق !
و هنا يدافع المؤمن عن نفسه قائلا : بل هناك خيار ثالث ، فهناك فرق شاسع أيّها الملحد بين مجيء شيء من لا شيء بلا شيء ، و هو ما تقوله يا ملحد ، و بين مجيء شيء من لا شيء بشيء قادر على كل شيء ، و هو ما نقوله نحن المؤمنون ...
فالقادر على كلّ شيء ، قادر أن يأتي بشيء من لا شيء .. لكن العدم غير قادر على الإتيان بشيء من لا شيء
و هنا جوهر الفرق بين مجيء كل شيء من العدم ، عند المؤمن ، و بين مجيء كل شيء من العدم عند الملحد ...
و للحديث بقيّة ،،
Bookmarks