السؤال الواحد و الثلاثين : لماذا أنتم مختلفون أيّها المسلمون حول نشأة العالم ؟! ألا تقولون أنّ الإسلام قد أجاب على سؤال بداية الكون ، فلماذا أنتم مختلفون حول هذا الموضوع ؟! فبعضكم يقول بأنّ أوّل ما خلق الله هو القلم ! و البعض الآخر يقول بل أوّل مخلوق هو العرش ! و البعض الثالث يقول بل أوّل مخلوق هو الماء ! و بعضكم يقول بأنّ العالم قديم ! و بعضكم يقول بقدم نوع العالم ! و بعضكم يقول بوحدة الوجود ! و كلّ هذه الأقوال منسوبة إلى الإسلام ! فهل معنى ذلك أنّ دينكم لم يجب على قضيّة كيفيّة بداية وجود العالم ؟! و إن كان لم يجب ، فلماذا تلومون الملحدين حينما يستبعدون إجاباتكم هذه التي لا تقوم على دليل ؟؟!! و لماذا تحاولون أن تقولوا بأنّ الإسلام يتوافق مع نظريّات نشأة الكون ، و دينكم يتحدث عن نشأة الماء قبل الكون ؟؟!! في حين أن الماء مركّب من هيدروجين و أكسجين ، فكيف يكون الماء موجود قبل وجود غاز الهيدروجين و الاكسجين اللذين باتحداهما تكوّن الماء ؟!!! و عن أيّ قلم تتكلّمون ، وكيف ينوجد قلم قبل وجود الزمان و المكان ؟!
الجواب :
أولا : جميع المسلمين يتّفقون أنّ لهذا الكون خالق ، و من لا يقرّ بوجود خالق فهو قد خرج من الإسلام . و نقطة الخلاف الجوهريّة بيننا و بين الملحدين هو في مسألة : هل لهذا الكون خالق أم لا ؟ و ليس خلافنا مع الإلحاد في مسألة : ماهو أوّل مخلوق خلقه الله ؟ أو مسألة : كيف خلق الله العالم ؟ فهذه الأسئلة تأتي بعد الاعتراف بوجود خالق. و عليه ، فالسؤال الجوهري هو : هل الكون مخلوق ؟ و جاء جواب الإسلام واضحا بـ " نعم " ، الكون مخلوق ، و الله خالقه . قال تعالى :" الله خالق كلّ شيء و هو على كلّ شيء وكيل " الزمر:62
ثانيا : هناك آية في القرآن تقول : " قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق " العنكبوت : 20 ، و هذه الآية تدلّ أنّ مسألة كيفيّة بداية الخلق هي مسألة قابلة للبحث و النظر و التأمّل. و مسائل البحث و النظر و التأمل قابلة للاختلاف ، و عليه فاختلاف المسلمين في هذه المسألة ليس طعنا في الإسلام بقدر ما هو تحقيق للأمر الإلهي بالنظر في المسألة و محاولة التوصّل إلى إجابة لها.
ثالثا : المسلمين الذين قالوا بأنّ أوّل ما خلق الله هو القلم ، اعتمدوا على روايات قالت ذلك ، و لم يأتي هذا الكلام من فراغ ! و بالمثل ، من قال بأن أوّل مخلوق هو العرش أو الماء ، جاء كلامهم استنادا لروايات أخرى قالت ذلك . فإن كان في طرحهم مشكلة فسبب ذلك هو في عدم التيقّن من صحّة الروايات القائلة بذلك أو سوء فهمها . و لن تجد آية قرآنية تحدّثت عن أوّل مخلوق ، سوى قوله تعالى : " و هو الذي خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام و كان عرشه على الماء " هود:7 .. و الآية تحتمل أكثر من احتمال : الاحتمال الأوّل : أنّ العرش كان على الماء قبل أن يخلق السماوات و الأرض ، وبالتالي فهناك أسبقيّة خلق للعرش و الماء قبل السماوات و الأرض . الاحتمال الثاني : أنّ كون العرش على الماء هي صفة تصف العرش و الماء حال وجودهما . كقوله تعالى : " و كان ربّك قديرا " فهنا لا تعني الآية أنّ الله كان قديرا و لم يعد كذلك - تعالى عن ذلك علوّا كبيرا - . بل " كان " هنا للوصف ، بمعنى أنّه مادام الله موجود فهو قدير . و كذا قوله تعالى : " و كان الإنسان أكثر شيء جدلا " فهذه صفة الإنسان في الماضي و الحاضر و المستقبل . و بالتالي لا يُشترط في قوله " و كان عرشه على الماء " أن تعني التسلسل الزمني بل قد تعني وصف علاقة العرش بالماء حال وجودهما.
رابعا : يجب التفريق بين عالم الغيب و عالم الشهادة ، و الخلط بينهما من أكبر الأخطاء التي يقع فيها غير المسلمين و بعض المسلمين. و عالم الشهادة بالنسبة لنا هو عبارة عن السماء الدنيا و ما فيها من نجوم و كواكب و أقمار و كائنات . و ما عدا هذا العالم فهو يدخل ضمن عالم الغيب. فمن ضمن عالم الغيب السماء الثانية أو الثالثة و مافيهما من كائنات ، كما أنّ من ضمن عالم الغيب الجنّة و النّار و مافيهما من كائنات. و التعامل مع الألفاظ القرآنيّة يجب أن يقوم على هذا الأساس بتحديد سياق الكلام ، هل هو ضمن عالم الغيب أم ضمن عالم الشهادة . فمثلا يقول تعالى : " مثل الجنّة التي وعد المتّقون فيها أنهار من ماء غير آسن " محمد:47 .. فلا يصحّ القول بأنّ ماء الجنّة هو نفسه ماء الدنيا المكوّن من غازي الهيدروجين و الاكسجن ! و ذلك لأنّ ماء الجنّة من ضمن عالم الغيب ، و قياس عالم الغيب بعالم الشهادة من أكبر المغالطات المنطقيّة . فضلا على كون الله قد أوضح قائلا : " فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرّة أعين " السجدة:17 . و بالتالي فنحن لا نعلم حقيقة ما ينتظرنا في الجنّة سوى أنّ الله ذكر لنا أسماء نحبّها ، فنشتاق لتلك الأشياء حبّا في الاسم الذي اختاره الله لها . و ليس لأنّ ماء الجنّة هو نفسه ماء الدنيا ، و إلا لأصبحنا نعلم ما أخفي لنا من قرّة أعين ! و الرسول صلى الله عليه و سلّم قد صرّح قائلا : " فيها ما لا عين رأت " و أعيننا رأت ماء الدنيا ! و عليه ، فماء الجنّة ليس هو ماء الدنيا ؛ لأنّه ماء من عالم الغيب ، بينما الثاني ماء من عالم الشهادة . و بالمثل : قوله تعالى : " و كان عرشه على الماء " وصف لشيئين من عالم الغيب ، فلا العرش هو كعروش عالم الغيب ، و لا الماء هو كماء عالم الغيب . فلا يوجد إلزام بأنّ الماء هو الماء و بالتالي فلا يمكن أن يوجد الماء قبل السماوات باعتبار أن الهيدروجين و الاكسجين جاءتا بعد نشوء الكون لا قبلهما ! فالإشكال ساقط ؛ لأنّه مبني على أساس باطل . و رغم أنّ بعض علماء المسلمين يقولون بأنّ الماء في الآية هو الماء الذي نعرفه ، فهذا لا يعني أنّ الله يقصد من كلمة " الماء " الماء الذي نعرفه ، و إلا لزم أن يكون ماء الجنّة أيضا هو الماء الذي نعرفه ، و هذا لا يقوله هؤلاء العلماء .. مما يؤكد أنهم أخطئوا في رأيهم هذا . فلا يجوز أن تتهم الإسلام بقول لم يقله ، و تساوي بين أقوال العلماء و أقوال القرآن و صحيح الأحاديث !
خامسا : بالنسبة للقلم ، فلم يرد ذكره في القرآن الكريم لا تصريحا و لا تلميحا ! و بالتالي فهو موجود فقط في الروايات . و بغضّ النّظر عن صحّة هذه الأحاديث أو عدم صحّتها ، فالاستشكال المطروح في السؤال ساقط ؛ لسبب بسيط و هو : أنّ الزمكان الذي يتحدّث عنه علماء الفيزياء و الفلك ، هو الزمان و المكان الخاصة بهذا الكون الذي نعيش فيه. و هذا الكون الذي نعيش فيه يتكوّن من السماء الدنيا و ما تحويه من أجرام سماويّة . فإذا كان الانفجار العظيم يفسّر نشأة الكون ، فهو يفسّر فقط نشأة السماء الدنيا و أجرامها . و لا علاقة لنظرية الانفجار العظيم بنشأة السماء الثانية و الثالثة و الرابعة و الخامسة و السادسة و السابعة ! كما أنّه لا علاقة بين النظرية و بين نشأة الملائكة و الجن و كلّ كائن ينتمي إلى عالم الغيب ! فكيف تريد أن تشكل على نشأة " القلم " و هو ينتمي إلى خارج السماء الدنيا ! و عليه ، فطبيعي جدا أن يكون القلم موجودا قبل وجود السماء الدنيا ، لأنه ليس من عالم السماء الدنيا أصلا ! و المكان و الزمان الفيزيائين هما زمان و مكان السماء الدنياو أجرامها فقط . فالإشكال ساقط !
سادسا : بالنسبة لاختلاف المسلمين حول كيفيّة الخلق ، فهذا الاختلاف جائز مادام لا يتعارض مع نصوص قرآنيّة صريحة. و يجوز تبنّي أحد التصورات الآتية :
التصوّر الأوّل : كان الله و لم يكن معه شيء ، و لم يخلق الله شيء . ثم شاء أن يخلق فخلق . فخلق أول مخلوق و منه خلق المخلوق الثاني فالثالث فالرابع و هكذا . أو أنّه خلق مجموعة مخلوقات متوازية ، ثم بدأ يخلق من المخلوق الأول مخلوقات أخرى من جنسه ، و من الثاني مثل ذلك و هكذا . و بالتالي فخلق الله كلّ شيء لا من شيء ، أي كان كلّ شيء عدما ثم أصبح لها وجود.
التصوّر الثّاني : كان الله من الأزل خالقا ، فلا توجد لحظة يوجد فيها الله إلا وجدناه قد خلق شيئا ما . و بالتالي فنوع العالم قديم ، ليس لأنّ العالم موجود بذاته ، بل لأنّ الله لا يزال يخلق من الأزل إلى الأبد . فيكون الكون الذي نعيش فيه هو أحد العوالم التي خلقها الله ، و قبله عوالم لا نهائية و بعده عوالم لا نهائيّة ؛ لأنّ الله ربّ العالمين . و بالتالي فكلّ شيء في الكون كان بعد أن لم يكن ، و لكن لا توجد لحظة إلا و في الخارج عالم مخلوق لله.
التصوّر الثّالث : كان الله و كان معه المادّة ، و لم تكن المادّة متغيّرة . فخلق الله من المادّة الكون الذي نعيش فيه ، و وضع فيها القوانين التي تجعلها في تغيّر مستمرّ حتى صار الكون بصورته الحاليّة. فالمادّة لم تكن لها صورة في الخارج بل كان جوهرا لا صورة له ، و الله هو من أعطاها صورة في الخارج و جعلها شيئا مذكورا . فالله خالق كلّ شيء في الكون ، لأنّه الذي صوّر كلّ شيء ، لا أنّه أحدث جوهرها ، فالجوهر أزلي مع الله .
هذه التصوّرات كلّها لا تخرج من الإسلام ، لكن أصحّ هذه التصوّرات حسب اعتقاد معظم المسلمين هو التصوّر الأول . و يجب عدم تفسيق أو تكفير أصحاب التصوّرين الآخرين ، إذ لا مانع شرعي - حسب وجهة نظري - من صحّتهما.
الخلاصة : نحن المسلمون قد حسمنا القضيّة الجوهريّة فتوصّلنا إلى وجود خالق ، و انتقلنا بالبحث إلى مراحل متقدّمة في فهم العالم الذي نعيش فيه . فانتقلنا من المرحلة الابتدائيّة و ذهبنا إلى المرحلة الاعداديّة بل و الثانويّة و أحيانا الجامعيّة ! لكن الملحد لازال حائرا في المرحلة الابتدائيّة ، تائها في معرفة وجود خالق من عدمه ، فضلا على أن يعرف أوّل مخلوق ، فضلا على أن يعرف كيفيّة الخلق . فهذه المباحث أعمق بكثير و أعقد من المبحث الذي عجز عن التوصّل إلى إجابته رغم بساطته و ضوحه. مما يدلّ أنّ هذا العجز نابع عن عدم الرغبة في الجواب المنطقي الواضح !
و تستمرّ سلسلة الأسئلة و الأجوبة ،،
Bookmarks