مند سنوات والصراع بين الإلحاد والدين قائم بين مدّ وجزر، خاصة بعد تطور العلوم الإنسانية في كل مجالاتها و تطور وسائل البحث العلمي الذي صعّد من وتيرة المواجهة بين الطرفين. فقد انتشر الإلحاد في العصور الوسطى بشكل كبير خاصة بعدما بدأت الاكتشافات العلمية الحديثة التي أثبت العلم صحتها بالدليل العلمي تتعارض مع تعاليم الكنيسة. ولم يجد القساوسة بدا من محاربة العلم و العلماء ولو كانوا على حق، والتاريخ لازال شاهدا على تلك المذابح التي عانا منها العلماء في مختلف مجالات علومهم. مما أدّى بكثير من العلماء أن ينكروا ويرفضوا هذا الإله الذي لا يعلم حقيقة ما خلق، ويجهل قوانين كون من المفروض أنه هو الذي وضعها فيه. فكان من المنطقي ألا يقبلوا بإله جاهل لما فعل.وبدؤوا يبحثون عن أصلٍِ ل (فكرة الله) ومن أين جاء بها الإنسان القديم. وتوصلوا إلى أن فكرة الله الخالق والقوي و و و كانت من اختراع خيال الإنسان القديم الذي عجز عن تفسير الظواهر الكونية فردها إلى قوة خارقة غير مرئية. حتى قال بعضهم أن الإنسان هو الذي خلق الله. وعندما أدرك الإنسان قوانين الطبيعة وفهم ظواهرها وشرح أسبابها، ادعى أن العلم دفن الإله وأنه لم تبق هناك حاجة لوجود الله أو فكرة الإله التي تجاوزها العلم.وقد كتب أحد ملاحدة هذا العصر كتابا أسماه ( وَهْمُ الإله) وهو ريتشارد دوكينز. وسيكون لنا رد على هذه الكتاب في القريب العاجل إن شاء الله تعالى. وقد رد عليه جماعة من العلماء من ذوي التخصص.
ولكي نعلم هل للكون إله أم لا، لابد من الرجوع إلى أصل الكون أي بداية وجوده والغوص في أعماقه بحثا عن الحقيقة و بعيدا عن كل تعصب أو تحيز.إنها طريقة الطفل الصغير الذي اشترى له أبوه لعبة وعندما أراد أي يعلم كيف تعمل كسّرها ليكتشف ما بداخلها وليفهم سر عملها الميكانيكي. وهو منهج علماء الكون و الطبيعيات وغيرها من العلوم الذين يغوصون في الماضي السحيق للكون ويبحثون عن بداية وجوده ليدركوا حقيقته، ويعلموا كيف وُجِد؟ ومن أوجده إن مكان له مُوجِد؟ أما السؤال لماذا وُجِد، فهذا ليس في استطاعتهم وسنرى لماذا؟ ومن هنا يبدأ موضوعنا بإذن الله تعالى.
اتفق العلماء على اختلاف مجالاتهم أن الكون يتّسِع باستمرار والمجرات تتباعد بسرعات مهولة، ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ )) الذاريات (47وهذا يعني أنه عندما نعود بالزمن إلى الوراء سينكمش الكون كله إلى أن يصل إن نقطة مفردة صغيرة جدا بحجم رأس الإبرة لكنها تحوي الكون وطاقته كلها. هذه النقطة المفردة تفجرت وأعطت هذا الكون الشاسع والمبهر. وهو ما يسميه العلماء بالانفجار العظيم - مع تحفظي الشخصي على هذه التسمية، لأن طبيعة الانفجار لا تعطي نظاما ولا قوانين رياضية أو فيزيائية . وهناك بعض العلماء الكبار الذين صرحوا بأن هذه التسمية خاطئة، ولكنهم احتفظوا بها- طبعا نحن هنا لا ندخل في التفاصيل العلمية لأنها ستأخذ منا وقتا طويلا ولكننا نطرح حقائق متفق عليها علميا وعالميا. وتوصلوا إلى أن عمر الكون هو 13 مليار سنة و 700 مليون سنة. وهنا توقف العلم والعلماء على حد سواء. فقالوا بأن للكون بداية.أي نقطة انطلاق، ولم يكونوا يدركون ما هي العواقب الفلسفية والفكرية التي سيجُرُّها هذا القول.وبدأت الأسئلة تنهار منها على سبيل المثال.من أين جاءت هذه النقطة؟ وكيف جاءت ؟ هل أوجدت نفسها بنفسها أم أوجدها شخص آخر؟ من وضع فيها تلك الطاقة المهولة؟ ومن أين جاءت تلك القوانين الفيزيائية المعقدة والمعادلات الرياضية الدقيقة التي تنظم الكون كله؟ وهلم جرا... .
السؤال الأساس إذن .كيف بدأ الخلق؟ وهو مفتاح هذه المشكلة العلمية المعقدة.وهذا السؤال ربما لم يكنُ يُطرح من قبل، لأن الجميع كان يعتبر أن المادة أزلية. وحتى 1929 كان أينشتاين نفسه يعتقد بأزلية الكون.لكن بعد اكتشاف الصدى الكوني من طرف طوماس الذي أخذ عليه جائزة نوبل، وإيدوين هابل الذي اكتشف توسع الكون سنة 1924 وأن هناك مليارات المجرات. وأثبت تمدد الكون. ثم بعد ذلك بسنوات أثبت العلم أن للكون بداية. يقول العالم الفيزيائي الكبير ستيفن هوكينغ المتربع على كرسي الأستاذية الذي حظي به من قبل إسحاق نيوتن.(( عِلْمُنا يقف عند الانفجار العظيم. ونحن العلماء لا نُسأل عما كان قبله. وعندما سُئل عن النقطة المفردة قال اسألوا عنها الفلاسفة ورجال الدين)). والطرح الديني يقول بأن هذه النقطة الأولى خُلِقَت من عدم.(( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )) الأنعام (73) . وفي الحديث الشريف الذي رواه البخاري عنْ عِمْران بْنِ حُصيْنٍ قال:«إِنِّي عِنْد النّبِيِّ صلّى اللّهُ عليْهِ وسلّم ...، قالُوا قبِلْنا جِئْناك لِنتفقّه فِي الدِّينِ ولِنسْألك عنْ أوّلِ هذا الْأمْرِ ما كان، قال: كان اللّهُ، ولمْ يكُنْ شيْءٌ قبْلهُ، وكان عرْشُهُ على الْماءِ، ثُمّ خلق السّمواتِ والْأرْض، وكتب فِي الذِّكْرِ كُلّ شيْءٍ)) هذا باختصار هو الطرح الديني الإسلامي وإن شئت فقل القرآني، لأن الإنجيل حين تحدث عن بداية الخلق كان ما كان فيه من المغالطات والتناقضات ما جعل علماء الغرب يرفضونه و يرفضون الإله الذي كتبه.طبعا هذا بسبب التحريف. ولكي أكون منصفا فقد رفضوا - في حقيقة الأمر- التحريف ولكن ليس هذا موضوعنا اليوم. نعود فنقول هذا هو الطرح القرآني لبداية الخلق. فهو يعلنها صراحة أن للكون بداية وهي بداية من عدم. والله الذي خلق هذا الكون لا يحده مكان ولا يجري عليه زمان ولا يمكن أن يكون من مادة. واقرأ قوله تعالى(( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) الشورى (11) لاحظ عزيز القارئ كيف جمع الحكيم العليم بين خلق الكون والإنسان والأنعام ثم مَيَّز ذاته سبحانه و تعالى عن غيره من المخلوقات.
و المسألة إلى يومنا هذا تتلخص في طرحين: الطرح الأول – الخلق من عدم. وهو قول المتدينين أو المؤمنين والطرح الثاني الخلق بالصدفة والتلقائية وهو طرح الملاحدة والماديين ومن سار على شاكلتهم. يقول ستيفن هوكينغ (( إن قوانين الكوانتيم (فيزياء الكم ) اشتغلت على الفراغ فأنشأت الكون تلقائيا. لكن هذا يجعلنا نتساءل هل القوانين تستطيع أن تخلق شيئا طبعا لا. وقد أعطى العلماء مثلا على ما نقول فقانون الجاذبية مثلا يُثبِّت الحياة على الأرض ولكنه ليس هو الذي خلق الأرض. والأمثلة على ذلك تُعد بالآلاف. ولنا عودة إلى القوانين الكونية وهل لها دور في الخلق أم لا في الجزء الثاني من هذا البحث إن شاء الله تعالى. إن القول إذن بأن القوانين تخلق ليس جوابا علميا ولا دقيقا. إن كل حركة تحتاج إلى أربعة عناصر:1 فاعل يقوم بالحركة. 2 طاقة تحرك الفاعل. 3 زمان يقوم أثناءه الفعل 4 ومكان يقوم فيه الفعل. فإذا كان عندنا عدم فمن أين للعناصر الربعة أن توجد؟ إن فعل ( أنشأت ) الذي استعمله هوكينغ يحتاج لفاعل وزمان ومكان وطاقة. وكلمة - نشأت تلقائيا - هكذا ليست علمية البتة. إن مشكلة الملاحدة هي عجزهم التام عن تفسير وجود النقطة المفردة التي انفجرت وأعطت الكون. وهم عاجزون كذلك عن تفسير كيف ومن وضع فيها القوانين الفيزيائية والمعادلات الرياضية التي بدأت بتسيير الكون مع الانفجار مباشرة. ويتساءل العالم الكبير ستيفن هوكينغ قائلا : من أشعل الفتيل الذي أدّى إلى الانفجار العظيم الذي أدى بدوره إلى اشتغال القوانين الفيزيائية في الكون ؟ هناك سؤال آخر يطرحه علماء الكون :من أين جاءت القوى الأربعة للكون، الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوة النووية القوية والقوة النووية الضعيفة؟ إن نظام الكون والقوانين التي تضبطه والمسافات الدقيقة التي تفصل بين النجوم وتوابعها بحيث لو نقصت أو زادت ببعض آلاف الكيلومترات لانهار الكون برمّته كل هذا لا يمكن أن تكون بمحض الصدفة والعشوائية. فمن وراء هذا النظام البديع الذي يفوق كل إمكانيات العقل البشري. يقول الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير ((...لا أستطيع أن أتصور أن هذه الساعة وُجِدَت بدون ساعاتي صانع لها )) ويقصد بالساعة نظام الكون. يقول ستيفن هوكينغ : (( لو أن الانفجار العظيم تأخر بجزء من مليون مليون جزء من الثانية لانْهار الكون كله ولمَا كان هناك شيء أبدا )) وأنا أسأل في هذه النقطة : من هذا الذي يستطيع أن يتحكّم في حركة مدّتها جزء من مليون مليون جزء من الثانية؟ واقرأ قوله تعالى : (( وما أمْرُنا إِلّا واحِدةٌ كلمْحٍ بِالْبصرِ)) القمر50.
إن مشكلة الملاحدة الماديين أنهم يطلبون دليلا مادّيا على وجود الله. وأنا أعكس المسألة وأقول. هل يمكن إثبات عدم وجود الله إثباتا ماديا تجريبيا ؟ طبعا سيقولون لا والسبب أنه غير موجود. وأنا أقول حسنا أثبتوا لي عدم وجوده. وهذا هو المشكل، فطبيعة الدليل لابد أن تتوافق مع طبيعة المدلول عليه. فعندما نريد أن نَزِن التفاح أو القمح نزنه بالكيلوغرام وعندما نريد أن نقيس المسافة نستعمل المتر، وللماء نستعمل اللتر، والكهرباء بالكيلووات وهكذا. فكيف يريدون أن نعطي برهانا ماديا على شيء ليس ماديا؟ إن الله ليس مادة لأن هذه الأخيرة فانية، والله أزلي فلا يمكن أن يكون جزءا من الكون لأن هذا الأخير مخلوق وله بداية. والله ليس كذلك. إننا نحب آباءنا وأزواجنا و أبناءنا. و نحب الخير للآخرين ونتعايش مع هذا الحب يوميا، بل إنه يؤثر على سلوكنا ومواقفنا.
وهو شيء نؤمن به .فهل يمكن أن نثبت هذا الحب إثباتا ماديا في المختبر بالتجربة؟ طبعا لا، ومع ذلك فالملاحدة أنفسهم يؤمنون بوجوده مع استحالة إثباته ماديا. ومن قال بأن الكون أنشأ نفسه بنفسه كالقائل بأن هناك امرأة أنجبت نفسها.ولكي يخلق الكون نفسه بنفسه يجب أن يكون موجودا وغير موجود في آن واحد. ومن قال بأنه وُجِد من عدم فقد رأينا خطأ هذا الادعاء من قبل. والعدم لا يمكن أن يوجِد شيئا لأنه هو نفسه يحتاج لمن يُوجِده. ومن قال بأن الكون نشأ صدفة وعشوائيا فالعلم أثبت اليوم بطلان هذه المقولة، وحين نتكلم رياضيا فاحتمال تكوّن بروتين واحد عشوائيا أو صدفة هو 1 على 10 أس 950 : بمعني عدد 1 وعن يمينه 950 صفر.فالاحتمال يساوي 0. فهذا الإدعاء مرفوض علميا ومنطقيا. ماذا يبقى إذن ؟ احتمال واحد. الطرح العلمي يقول: إذا أثبتنا عجز الطبيعة عن الخلق فلا يبقى لنا سوى القول بالخالق العليم وهو ما يسمى بالبرهان السلبي. إن للكون إله خالق عليم قدير. إنه الأول بلا بداية و الآخر بلا نهاية والموجود لا من علة و الواحد لا من قِلّة.ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى عما تصفون. يبقى هناك سؤال محيّر جدا. من الذي يجبر موجودات الكون على الالتزام بتلك القوانين ويجعلها خاضعة لها مند 13.7 مليار سنة مع أنها موجودات ليست عاقلة؟ ومن الذي جعل الإلكترون يدور بسرعة مهملة في حيز من المكان لا يرى بالعين المجردة؟ ومن الذي جعل الأرض تدور حول الشمس في محور ثابت دقيق يبحث يعطينا تعاقب الفصول و من الذي جعلها تدور حول نفسها لتعطينا تعاقب الليل و النهار؟ ألها عقل تفكر به أم لها ضمير ترجع إليه؟ أم لها رب حكيم أمرها فامتثلت لأوامره. (( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا )) فاطر (11)من الذي يضبط مسار المجرات في الكون كله. من الذي يسيّر حركة النجوم ويحفظ تناسقها مع غيرها؟ من الذي يراقب النيوترونات والإلكترونات والبروتونات تدور داخل نواة الذرة دون توقف ومن الذي يجبرها على الدوران بتلك السرعة؟ ولو بقيت أضع الأسئلة لما انتهيت. فهل هذا كله بالصدفة و العشوائية ؟ أترك للقارئ الكريم الإجابة.
إن العدم لا يستطيع أن يخلق مادة. و الانفجار لا يمكن أن يعطي نظاما. والعشوائية لا تستطيع أن تخلق قوانين. فمن يبق إذن؟ وأختم هذا الجزء بآية مبهرة في كتاب العزيز العليم. يقول الله عز وجل في كتابه الحكيم (( سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) فصلت (53) - إن الله تعالى يخبرنا أنه سبحانه و تعالى سيرينا آيات خلقه ومعجزاته في علوم الكون ( الآفاق ) وفي علوم الحياة ( وفي أنفسهم) حتى تتجلى لنا الحقيقة ( أنه الحق) فإن سألت أي حق ذالك أقول لك.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ الأنعام (1) -
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ النمل (93) -
و الحمد لله على نعمة الإسلام .