ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر؛ وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعاً. وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين:
الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس. أي استقرار الشعور على أن هناك عبداً ورباً. عبداً يَعبد، ورباًّ يُعبد. وأن ليس وراء ذلك شيء؛ وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار. ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود؛ وإلا رب واحد والكل له عبيد.
والثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة. التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله.
بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة؛ ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله.. كلها عبادة؛ وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها؛ وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه.
عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعراً أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى، جاء لينهض بها فترة، طاعة لله وعبادة له لا أرب له هو فيها، ولا غاية له من ورائها، إلا الطاعة، وجزاؤها الذي يجده في نفسه من طمأنينة ورضى عن وضعه وعمله، ومن أنس برضى الله عنه، ورعايته له. ثم يجده في الآخرة تكريماً ونعيماً وفضلاً عظيماً.
وعندئذ يكون قد فر إلى الله حقاً. يكون قد فر من أوهاق هذه الأرض وجواذبها المعوقة ومغرياتها الملفتة. ويكون قد تحرر بهذا الفرار. تحرر حقيقة من الأوهاق والأثقال. وخلص لله، واستقر في الوضع الكوني الأصيل: عبداً لله. خلقه الله لعبادته. وقام بما خلق له. وحقق غاية وجوده. فمن مقتضيات استقرار معنى العبادة أن يقوم بالخلافة في الأرض، وينهض بتكاليفها، ويحقق أقصى ثمراتها؛ وهو في الوقت ذاته نافض يديه منها؛ خالص القلب من جواذبها ومغرياتها. ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها. ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها، ثم الفرار إلى الله منها!
ومن مقتضياته كذلك أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها. فلتكن النتائج ما تكون. فالإنسان غير معلق بهذه النتائج. إنما هو معلق بأداء العبادة في القيام بهذه الأعمال؛ ولأن جزاءه ليس في نتائجها، إنما جزاؤه في العبادة التي أداها..
ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيراً كاملاً تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال. فينظر فيها كلها إلى معنى العبادة الكامن فيها. ومتى حقق هذا المعنى انتهت مهمته وتحققت غايته. ولتكن النتائج ما تكون بعد ذلك. فهذه النتائج ليست داخلة في واجبه ولا في حسابه، وليست من شأنه. إنما هو قدر الله ومشيئته. وهو وجهده ونيته وعمله جانب من قدر الله ومشيئته:
ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد، وشعر أنه أخذ نصيبه، وضمن جزاءه، بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل والجهد، فلن تبقى في قلبه حينئذ بقية من الأطماع التي تدعوا إلى التكالب والخصام على أعراض هذه الحياة. فهو من جانب يبذل أقصى ما يملك من الجهد والطاقة في الخلافة والنهوض بالتكاليف. ومن جانب ينفض يده وقلبه من التعلق بأعراض هذه الأرض، وثمرات هذا النشاط. فقد حقق هذه الثمرات ليحقق معنى العبادة فيها لا ليحصل عليها ويحتجزها لذاته.
والقرآن يغذي هذا الإحساس ويقويه. بإطلاق مشاعر الإنسان من الانشغال بهمّ الرزق ومن شح النفس. فالرزق في ذاته مكفول. تكفل به الله تعالى لعباده. وهو لا يطلب إليهم بطبيعة الحال أن يطعموه - سبحانه - أو يرزقوه. حين يكلفهم إنفاق هذا المال لمحتاجيه، والقيام بحق المحرومين فيه:
{ مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين }..
وإذن لا يكون حافز المؤمن للعمل وبذل الجهد في الخلافة هو الحرص على تحصيل الرزق. بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة، الذي يتحقق ببذل أقصى الجهد والطاقة. ومن ثم يصبح قلب الإنسان معلقاً بتحقيق معنى العبادة في الجهد، طليقاً من التعلق بنتائج الجهد.. وهي مشاعر كريمة لا تنشأ إلا في ظل هذا التصور الكريم.
وإذا كانت البشرية لا تدرك هذه المشاعر ولا تتذوقها، فذلك لأنها لم تعش - كما عاش جيل المسلمين الأول - في ظلال هذا القرآن. ولم تستمد قواعد حياتها من ذلك الدستور العظيم.
وحين يرتفع الإنسان إلى هذا الأفق. أفق العبادة. أو أفق العبودية. ويستقر عليه، فإن نفسه تأنف حتماً من اتخاذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة. ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله وجعل كلمته هي العليا. فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة النظيف الكريم. ومن جهة أخرى فهو لا يعني نفسه ببلوغ الغايات، إنما يعني نفسه بأداء الواجبات، تحقيقاً لمعنى العبادة في الأداء. أما الغايات فموكولة لله، يأتي بها وفق قدره الذي يريده. ولا داعي لاعتساف الوسائل والطرق للوصول إلى غاية أمرها إلى الله، وليست داخلة في حساب المؤمن العابد لله.
ثم يستمتع العبد العابد براحة الضمير، وطمأنينة النفس، وصلاح البال، في جميع الأحوال. سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها. تحققت كما قدرها أم على عكس ما قدرها. فهو قد أنهى عمله، وضمن جزاءه، عند تحقق معنى العبادة. واستراح. وما يقع بعد ذلك خارج عن حدود وظيفته.. وقد علم هو أنه عبد، فلم يعد يتجاوز بمشاعره ولا بمطالبه حدود العبد. وعلم أن الله رب، فلم يعد يقتحم فيما هو من شؤون الرب. واستقرت مشاعره عند هذا الحد، ورضي الله عنه، ورضي هو عن الله.
وهكذا تتجلى جوانب من تلك الحقيقة الضخمة الهائلة، التي تقررها آية واحدة قصيرة: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }.. وهي حقيقة كفيلة بأن تغير وجه الحياة كلها عندما تستقر حقاً في الضمير..
وأيضا لأننا خُلقنا للبقاء وليس للفناء، فهناك حياة أبدية تنتظرنا، إله عظيم لم يطلب منا سوى إطاعته، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وعدنا بالجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، لكن الشرط الوحيد هو الالتزام بالإسلام، بين لنا بأن المرض والموت والحياة والابتلاءات جزء من هذا الامتحان، حتى يميز الخبيث من الطيب، المؤمن من الكافر، المطيع من العاصي، فكل ما أعطاك الله إياه لم يرد منه التمليك الدائم لك، لأنه سيسترد منك الذي أعطاك. يقول الزنداني:
"عندما أخذ الله منك ما أعطاك لم يرد سلبك لأنه الذي أعطاك أول مرة. وإذن فالامتحان والاختبار هو المراد من التمليك المؤقت لما أعطاك ربك. وجعل كل ما في الدنيا أداة من أدوات الامتحان.ولأن الامتحان هو المقصود من الحياة فإن الله لم يرغم الناس على عبادته بل استخلفهم على الأرض، وأرسل إليهم رسلا ورسالات، وطلب منهم أن يخضعوا لأمره، وأن يطيعوه ويعبدوه باختيارهم، في المهلة المعطاة لهم على الأرض. قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ…} (الكهف:29).
Bookmarks