التشابهات بين الكائنات الحية .. بين الخلق والتطور



إن مسلك الداروينيين في الاستدلال بالتشابه بين الكائنات على صحة التطور والأصل المشترك يذكرنا بمسلك المستشرقين والمنصرين مع قضية مصدر القرآن، فتجد المستشرق النحرير يعدد لك مواضع التشابه بين قصص القرآن وقصص التوراة، وكلما أورد لك موضعًا، حسب أنه ألقمك حجرًا! كأن المسلمون ينكرون مواضع التشابه بين القرآن والكتب السابقة، أو كأن القرآن شرط أن يخالف كل ما سبقه، أو كأن القرآن ما وصف نفسه بأنه مصدق لما بين يديه.
.
لكن لعدم معرفة القوم بالفرق بين فرضيات الادعاء وبين الأدلة على صحته، فهم يعتبرون مواضع التشابه هي أدلة الادعاء نفسه! وعندما تطالبهم بدليل واحد على ادعاء النقل عن أهل الكتاب، يغضب منك المنصر الذكي؛ لأنه لم يعجبك كل ما قدم لك من "أدلة"!
وها هم الداروينيين يفعلون نفس الشيء: فهم يزعمون أن الكائنات الحية كلها تعود إلى أصل مشترك واحد، ويقدمون لنا الدليل على ذلك بوقوع التشابهات الكثيرة المتنوعة بين الأنواع المختلفة من الكائنات الحية، وطبعًا هم على أتم استعداد لاستعراض كل هذه التشابهات ومقارنتها مع البيان والتوضيح، يحسبون أنهم بذلك قد ألقمونا الدليل تلو الدليل، والحجر تلو الحجر!
وريتشارد دوكينز على المنصة يبتسم في سماجة، وقد يلقي مزحة أو مزحتين عن الخلقيين المساكين بظرافته التي لا يطيقها حمار الحقل الجلد الصبور.
وجوقة المشجعين في منتديات الملاحدة واللادينيين يصيحون ويهللون ولا يظنون أن المسلمين قادرون على رد هذا كله، وحتى إن ردوا بعض هذه الأدلة، فستبقى هناك الكثير من الأدلة من كلام علماء الأحياء!
.
فماذا سيفعل المسلمون؟ وكيف سيتصرفون مع هذه الأدلة "الدامغة"؟ وكم من أدلة التشابهات سيستطعون ردها أو تفنيدها؟
حسنٌ .
سنكون أكثر الناس كرمًا مع الداروينيين!
سنسلم لهم بكل "الأدلة" التي جاؤوا بها على سبيل الإجمال.
سنسلم لكم بالحقيقة الواقعة التي لا مجال لإنكارها!
سنسلم بوجود تشابهات دامغة قاهرة لا يمكن إنكارها بين الكائنات الحية.
أليس هذا هو أقصى ما يتمناه القوم؟ أليس هذا هو أعظم ما يطمح إليه الملاحدة واللادينيين وهم يرقبون معركة الداروينية والإسلام؟
عظيمٌ.
السؤال الآن: وما الغضاضة من ذلك؟
أليس الله على كل شيء قدير؟
هل يخرج من قدرة الله تعالى أن يخلق الكائنات متشابهة في الخلقة كما هي متشابهة في الوجود والحياة على كوكب الأرض؟
طبعًا، الله يفعل ما يشاء، والعقل يجوز أن يخلق الله عز وجل كل هذه الكائنات على صنوف متنوعة من التشابهات والتقارب في الخلقة. فالذي خلق هذه الأنواع الكثيرة هو الله سبحانه، فله الأمر الكوني جل شأنه.
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ۚ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة النور 45]
.
ولم يحاول الدراوينيون أن يبينوا لنا وجه الحجة فيما يدعون، فلم يوضحوا لنا وجه التلازم المنطقي بين التشابهات والأصل المشترك، وإنما عدوا ذلك من المسلمات التي لا تحتاج إلى توضيح أو شرح، ناهيك أن تحتاج إلى إثبات!
اكتفى السادة العلماء في بحوثهم بمحاولة إثبات وقوع التشابهات معتقدين أنهم لو نجحوا في هذا فالبقية معروفة للجميع، فما دامت الكائنات الحية متشابهة، فالأصل المشترك حقيقة لا ريب فيها، وما عدا هذه "الحقيقة" إنما هو خرافات تتناقلها الشعوب!
الطريف في الأمر أن الطائفة التي ينتمي إليها القوم -طائفة الملاحدة خاصة العرب منهم- لا يملون أبدًا من تكرار نغمة بعينها مفادها أن الناس لا بد أن يفكروا تفكيرًا علميًا، وأن يعملوا عقولهم، وأن يمنطقوا الأمور دائمًا، فقد خاب وخسر من عادى العلم، وخاب وخسر من رفض العقلانية!
.
هؤلاء المتبجحون الذين يطنطنون بهذه الشعارات الجوفاء، هم أبعد الناس عن العقل والمنطق!
لن نسعى لإثبات ذلك لك هنا قارئي الكريم، لكننا ندلك على أصل المسألة، ونجعل هذا الأمر مثالاً على بعد هؤلاء المتبجحين عن العقل والمنطق.
.
كنا نتمنى أن يورد القوم أي وجه عقلي للتلازم الحتمي -عندهم- بين وقوع التشابهات والأصل المشترك، كنا نتمنى ذلك كي نبطله بفضل الله تعالى، لكنهم حرمونا ذلك فلم يعبؤوا بتقريره أصلاً!
وهذا جهل بأبسط قواعد المنطق، فإن العقل لا يمنع أن يخلق الله الكائنات الحية متشابهة، وهم لا يجدون أصلاً أى داعى لذكر هذا المانع، لأنه -على عادة قومهم من الملاحدة واللادينيين- لا يرون ضرورة لإرفاق أى دعوى بدليل، وإلا فلو تزمتوا كما نريد لكان عليهم ترك الإلحاد الجاهل نفسه!
.
وحقيقة الأمر أنه لا تلازم عقلي ولا منطقي بين وقوع التشابهات والأصل المشترك.
فوجود التشابهات بين الكائنات الحية لا يستلزم بالضرورة والحتمية تطورها جميعًا من أصل مشترك واحد؛ فهو قد يعني الأصل الواحد وقد يعني الخالق الواحد. فليس الأمر معقودًا على وجود ارتباط وتلازم حتمي بين التشابهات والأصل المشترك، وإنما يحتاج إثباته إلى أدلة من نوع آخر.
.
وهذا الكلام ينطبق على جميع أنواع التشابهات سواء التشريحية أو الفيسولوجية أو البيوكيمائية، ولا يفوتني في هذا المقام التنويه على أن القوم ينكرون خبر الوحي من هذا الخالق الواحد بأنه هو خالق كل شيء بزعم أنها غيبيات!
فنحن في حقيقة المسألة أمام ظاهرة تحتمل تفسيرين: الخالق الواحد أو الأصل الواحد، ثم جاءنا خبر الوحي من هذا الخالق الواحد، فكان الاستنتاج العبقري للداروينية هو أنه لا خالق وأن الأصل الواحد المشترك حقيقة!