النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: التحديات العظمى في آيات القرآن الكريم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2013
    الدولة
    مغرب العقلاء و العاقلات
    المشاركات
    3,002
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي التحديات العظمى في آيات القرآن الكريم



    التحديات العظمى في آيات القرآن الكريم
    سعيد شلندة


    بسم الله الرحمن الرحيم

    التحدي الأول
    قال تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ فأْتوا بسورة مِن مِثْله )


    تحدّى اللهُ تعالى أهلَ الفصاحة و البلاغة - العرب - أَن يأتوا بمثل هذا القرآن ، ثم تحدّاهم أن يأتوا بمثْل عشر سور منه ... ثم تحدّاهم أن يأتوا بمثل سورةٍ واحدةٍ منه ... كل ذلك كان في مكة المكرمة :

    ( قُلْ لَئِن اجتمعت الإنسُ والجنُ على أن يأتُوا بمِثْل هذا القرآنِ لا يأتون بمثله...) الإسراء - 88
    (أمْ يقولون افتراه ...قُل فأتوا بِعشْر سُوَرٍ مثله... ) هود -13
    (أم يقولون افتراه .. قل فأتوا بسُورة مثله...) يونس - 38

    وبعد أن أمضى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – في مكة نحوَ ثلاث عشرة سنة .. يهدى الناس إلى الحق ، ويتحداهم بالقرآن ، ثم لما هاجر إلى المدينة المنورة هو وأصحابه عاد القرآن مرة أخرى يتحدى ، فقال في سورة البقرة :

    ( وإِن كُنتم في ريْبٍ ممّا نزّلْنا على عبدِنا فأتوا بسُورةٍ من مِّثْلِه ، وادعُوا شُهداءَكم مِّن دُونِ الله اِن كُنتم صادقين ، فإن لَّم تفعلوا ، ولن تفعلوا ، فاتّقوا النّارَ .......)الآية 23 - 24 . قال القرطبي فى تفسيره جـ1 صـ32 : ( ولن تفعلوا : أي لن تطيقوا ذلك فيما يأتي .. وفيه ِإثارة لهِمَمِهم وتحريكٌ لنفوسهم ، ليكون عجزُهم بعد ذلك أبدع .. وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها ) انتهى .

    ويقول القاضي الباقلاني رحمه الله : كيف يجوز أن يقدروا على معارضة القرآن الكريم - السهلة عليهم - لو كان في استطاعتهم - وذلك يدحض حجته ، ويفسد دلالته ، ويبطل أمره ، فيعدلون عن ذلك إلى سائر ما صاروا إليه من الأُمور التي ليس عليها مزيد في المنابذة والمعاداة ، ويتركون الأمر الخفيف .. ؟ هذا ما يمتنع وقوعه في العادات ، ولا يجوز اتفاقه من العقلاء .

    ومعنى عبارة الباقلاني : انه إذا كان العربُ قادرين على الإتيان بمثل القرآن .. فلماذا دخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حروب طويلة سالت فيها الدماء وقطعت فيها الرقاب ...؟

    يقول الشيخ وحيد الدين خان في كتابه الإسلام يتحدي ( إنه أغرب تحدٍ في التاريخ وأكثره إثارة للدهشة .. فلم يجرؤ احدٌ من الكُتّاب في التاريخ الإنساني – وهو بكامل عقله - أن يقدِّم تحدِّياً مماثلا .. فليس هناك مؤلِّف يمكنُ أن يضعَ كتاباً يستحيلُ على الآخَرين أن يكتُبوا مثلَه أو خيراً منه .. فمن الممكن إصدارُ مثيلٍ من أي عمل إِنساني في أي مجال ، ولكن حين يٌدّعىَ أن هناك كلاماً ليس في إمكان البشر الإِتيان بمثله .. ثم تخفق البشرية على مدى التاريخ .. في مواجهة هذا التحدي .. حينئذ يثبت تلقائيا أنه كلام غير إنساني .. وأنها كلمات صدرت عن صميم المنبع الإلهي ، وكل ما يخرج من المنبع الإلهي لا يمكن مواجهة تحدياته) .

    ورغم أن العلماءَ قد اتفقوا على أن أحداً من الناس لم - ولن - يأتي بمثل هذا القرآن .. وأن البشر عاجزون عن معارضته بقرآن مثله .. إلا أنهم - من حيث الرّأْي في أسباب هذا العجز - قد انقسموا إلى فريقين :

    فقال أهل السّنة : أن البشر عاجزون لأن القرآن معجزٌ في ذاته ..
    وأما المعتزلة فقد قالوا أن البشر يمكنهم أن يأتوا بمثله ، ولكن الله يصرفهم عن ذلك بقدرته .. واصطلحوا على تسمية ذلك ب (الصَّرْفة) ..

    وقد قرر بعضُ المتكلِّمين الإِعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة ، وقول المعتزلة في الصرفة فقال : إن كان هذا القرآن معجزا ًفي ذاته ، ولايستطيع البشر الإتيان بمثله ، ولا في قُواهم معارضته ، فقد حصل المدّعَى وهو المطلوب .. ، وإِن كان في إمكانهم معارضته بمثله ، ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له ، كان ذلك دليلاً على أنه من عند الله لصرفه إِياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك انتهى . (من تفسير ابن كثير ج1 ص 61) ..

    وقال ابن كثير أيضاً : وهذه الطريقة – وإن لم تكن مُرْضية .. - لأن القرآن مُعجز في ذاته – إلا أنها تصلح على سبيل التنزّل والمجادلة والمنافحة عن الحق ، وبهذا أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر والكوثر .
    أقول : أغلب الظن أن المعتزلة لم يقرروا رأيهم الذي أشرنا إِليه .. إلا لأنهم نظروا إلى المعجزة القرآنية فلم يروا منها سوى جانباً واحداً هو جانب البلاغة والفصاحة ، أي أنهم نظروا إلى اللفظ القرآني ، دون التنبه إلى الجوانب الأخرى من الإِعجاز .

    ولعمري لو أنهم عاصروا أيامنا هذه ، ورأوا مصداق الآية الكريمة سَنٌريهم آياتِنا في الآفاقِ وفى أنفُسِهِم ، حتّى يتبيّن لهم أنّه الحق ) أقول : لو عاصروا أيامنا لما قالوا ذلك . فقد قرر القرآن أمورًا ما كان أهل زمان نزوله يعلمون عنها سوى ظاهراً من القول ، أمّا مغزاها الحقيقي فلم يظهر إلا بعد ذلك .. تبعاً لتقدم البشرية العلمي واختراع الإنسان أجهزة .. أعانته على رؤية الكون بشكل أوضح من ذي قبل .

    ونذكر من بين ما قرره القرآن فى هذا الشأن - على سبيل المثال ما يلي : -
    لما نزلت الآية الكريمة : ( والسّماء َبنيْناها بأيْدٍ وإنّا لموسِعون .. ) ، لم يكن لدى الصحابة أدنى فكرة عن اتّساع الكون ، ففسَّر الأقدمون الآية هكذا : [ بأيدٍ : أي بقوة . وإنّا لموسِعون : معناه : وإنا لذوو سعة بخلقها وخلق ما نشاء ] ، أي وفى وسعنا خلقها وخلق ما نشاء غيرها.

    ولكن الإنسان في العصر الحديث ، يرى من معطيات هذه الآية أكثر من ذلك بكثير ، فقد توصل العلماء إِلى أن الكون في بداية الوجود كان عبارة عن مادة جامدة وساكنة في أول الأمر ، في صورة غاز ساخن كثيف متماسك ، وحدث انفجار شديد في هذه المادة ، فبدأت هذه المادة تتمدد ، وتتباعد أطرافها ، ونتيجة لهذا أصبح تحرك المادة أمراً حتمياً .. لابد من استمراره طبقا لقوانين الطبيعة التي تقول : إن قوة الجاذبية في هذه الأجزاء من المادة تقل تدريجيا ، بسبب تباعدها ، ومن ثَََم تتسع المسافة بينها بصورة ملحوظة .
    يقول البروفيسور ( إيدنجتون ) : إن دائرة المادة أصبحت الآن عشرة امثال الدائرة الحقيقية للمادة .
    ويقول أيضا : إن مثال النجوم والمجرات كنقوش مطبوعة ، على سطح بالون من المطاط ، وهو ينتفخ باستمرار ، وهكذا تتباعد جميع الكرات الفضائية عن أخواتها بحركتها الذاتية في عملية التوسع الكوني أنظر science the limitations of ومثال تلك الآيات في القرآن كثير جداً .. لدرجة أنه ظهرت في العصر الحديث مؤلفات كثيرة ، تحمل عناوين تدل على الإعجاز العلمي في القرآن الكريم .
    سؤال
    وقد ينصرف الذهن إلى احتمال طرح السؤال التالي : ( إذا كان القرآن قد نزل كرسالة إلى الناس كافة ، - وبالتالي فان التحدي به يكون موجهاً إلى الناس كافة - وإذا كان قد نزل بلغة العرب ، فكيف يستقيم توجيه التحدي لمن لا يتكلم العربية ؟؟..
    ومن هنا نعلم أن القائل بذلك ، قد تناسىَ أو تجاهَلَ أن القرآن ، – كأي كلام بأي لغة - أنما هو ألفاظ ومعانٍ، وأن وجوه الإعجاز فيه لا تقتصر على الألفاظ ، بل تتعدى إلى ما تحمله هذه الألفاظ من معان .
    والمعاني – دائما ً- لها وعاء مشترك في كل إنسان .. هذا الوعاء هو العقل ... وحين يريد إنسانٌ ما نقْل هذه المعاني من عقله إلى عقل غيره ، فلا بد أن يصُبّها في قوالب - ألفاظ – مشتركة بين عقله ، وعقل مَن يريد أن ينقل إليه المعاني ، وقد تكون هذه القوالب - الألفاظ - عربية أو انجليزية أو فرنسية ... إلخ .
    وألفاظ القرآن – وإن كانت عربية – فإنه سهْلٌ على أي إنسان أن يعرف اللفظ العربي ، ونظيره من اللفظ الأجنبي ، وذلك بشيء من الدراسة . وإن التحدِّي المطلوب فى هذه الحالة .. هو في إيجاد المعاني المماثلة لمعاني القرآن ، وليس الألفاظ المماثلة لألفاظه .
    وإننى أرى بكل ثقة واطمئنان ، أن هذه الدراسة التي بين يدي القارىء هي خير شاهد على صدق ما أقول به الآن .
    فإذا كانت قراءة القرآن بلغته الأصلية صعبة على غير العربي ، فإن قراءته مترجَماً إلى لغة هذا الأجنبي سوف تكون سهلة عليه ، وفى هذه الحالة لن يكون مطلوباً منه الإتيان بمثل ألفاظ القرآن ، ولكن سيكون عليه أن يأتي بمثل معانيه ، وفى هذه الحالة سوف يكتشف بنفسه جانب الإعجاز التاريخي في القرآن .
    فإن كثيراً من الآيات تبدأ بحرف ال (س) المقترنة بالفعل المضارع فتجعله دالَّاً على حدوث هذا الفعل في المستقبل ، مثل قوله تعالى : ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّون الدّبُرَ ) وترجمتها إلى الإنجليزية – أكثر اللغات شيوعاً في العالم- هكذا :
    soon will their multitude be put flight
    and will show their backs
    وهى من ترجمة ( على عبد الله يوسف) المشهورة في أنحاء العالم .
    وقوله تعالى سَنُريهِم آياتِنا في الآفاق وفى أنفُسِهِم حتّى يَتَبَيّنَ لهُم أنّهُ الحَقّ ..)
    soon will we show them our signs
    in the(furthest) regions (of the earth),
    and in their own souls,
    until it becomes manifest to them
    that this is the truth''
    الآية 53 من سورة فصلت .
    وهكذا فإن حرف ال (س ) الدال على المستقبل باقترانه بالفعل المضارع ، له نظير في كل لغات العالم - وإن اختلفت الألفاظ والصيغ - وإنَّ اكتشاف صيغة ِ المستقبل في ترجمةِ القرآن لا تعدو أن تكون تحصيل حاصل لقارىء هذه الترجمة ، وعندئذ سيكون التحدِّي الموجَّه إليه أن يتنبَّأ كما تنبَّأ القرآن ...
    هذا وإن كان وارِداً أن يقبل التحدِّي ، فإنه من غير شكٍِ سوف تكون تنبؤاته عقيمة ، فحين يشرع في عمله سوف يكتشف أن التنبُّؤَ بالأحداث نوعان :
    النوع الأول يكون مبنياً على أساس قراءة الواقع بحيث يمكن وصفه بأنه تحصيل حاصل لمجريات الأمور في الحاضر ، مثل حساب موازين القوى ...إلخ
    أما النوع الثاني فهو الذي لا يرتبط فيه المتنبىء بالحاضر ، ولا صلة له بقراءة الواقع ، بل يتخطى حواجز الزمان والمكان مستشرفاً إلى آفاق المستقبل .
    النوع الأول يدَّعيه العباقرة ، وأحياناً المجانين ، وقد يُصيبون ، ولكن في الأغلب الأعم يُخْطِئون .
    أمّا النّوع الثاني فلا يجرى إلا على شفاه الأنبياء ، وهذا النوع - منطقيا ً- ليس فيه نسبة من الخطأ ، لأَنَّ الأنبياء لا يتكلمون من عند أنفسهم ، بل من عند الله..
    وسوف يكتشف الذي قَبِِِلَ التحدِّي ، أن نبوءات القرآن كانت من النوع الثاني .
    ومثالاَ على ذلك : حين تنبَّأَ القرآن بغلبة الروم على الفرس ، فى قوله تعالى :
    ( ألــــَم . غُلِبَت الرُّومُ في أدنى الأرضِ ، وهُم من بعدِ غَلَبِهِم سيغلبون . في بِضْع سنين ..) الآية رقم 1 من سورة الروم ، لم تكن نبوءة مبنية على قراءة الواقع ، أو على حساب موازين القوى .... بل كانت من عالم الغيب والشهادة سبحانه .
    علَّق المؤرِّخ جِبُن على هذه النبوءة بقوله : ( حين تنبأ القرآن بهذه النبوءة ، لم تكن أيَّةُ نبوءة أبعد منها وقوعاً ، لأن السنين الإثنتى عشرة الأولى من حكومة هرقل ، كانت تؤذِنُ بانتهاء الإمبراطورية الرومانية ) .
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ


    التحدي الثاني
    التحدي بحفظ القرآن الكريم من التحريف والتبديل

    وإذا كان الله قد تحدَّى البشر أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، وأخفقوا في ذلك ، رغم كراهية الكثيرين وعداوتهم له . فإنه على جانب آخر من قضية الإعجاز القرآني ، نجد أن الله قد قطع على نفسه عهداً وهو : أن يحفظ هذا القرآن من التبديل ، ومن التحريف الذي أصاب الكتب السابقة عليه ، فقال تعالى إنَّا نحنُ نزَّلنا الذِّكر َوإنَّا لَهُ لحافِظُون....) الآية رقم 9 من سورة الحجر.
    وإذا كان اليهود والنصارى – حين نواجههم بحقيقة أن كتبهم قد حُرِّفتْ - يقولون أين غُيِّرتْ وحُرِّفت؟) ، ويقولون هل لديكم النصوص الأصلية للإنجيل حتى نطابقها بالذي عند نا ؟، وفي أى عهدٍ كان – بالتحديد – الإنجيل الحقيقي منتشراً؟) ، فإن المسلمين لا يحتاجون إلى توجيه مثل هذه الأسئلة لليهود والنصارى عند الحديث عن القرآن ، لأنَّه لم يتجرَّاْ أحدٌ من الناس على توجيه أي اتِّهام بالتغيير أو التبديل أو التحريف للقرآن الكريم .
    بل على العكس من ذلك ، فإن العالم اليوم يعلم جيداً أن القرآن الذي نقرؤه اليوم هو نفس القرآن الذي كان يقرؤه النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه . يقول – كينيث كراغ – أسقف بيت المقدس في كتاب (نداءالمئذنة ) : ( وبعكس القرآن ، فإن العهد الجديد - الإنجيل- يحوي بعض التلخيص والتنقيح ) .
    ومنذ مائتي عام كتب السيد وليم ميور- أحد الذين انتقدوا الإسلام بضراوة - كتب يقول : إن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي بقى على حاله دون تغيير في خلال اثنى عشر قرناً .
    ويُعتبرالسيد ( و.جراهام سكروجي) ،عضو معهد مودي للكتاب المقدس من أكبر علماء البروتستانت التبشيريين ، يقول في كتابه (هل الكتاب المقدس كلام الرب ) تحت عنوان (كتاب من صنع البشر ولكنه سماوي ) ص 17:
    ( نعم إن الكتاب المقدس من صنع البشر، بالرغم من أن البعض جهلاً منهم قد أنكروا ذلك ) . ويقول : ( إن هذه الكتب قد مرَّتْ من خلال أذهان البشر، وكُتِبَتْ بلُغَة البشر ، كما أنها تحمل صفات تتميز بأنها من أسلوب البشر ( نفس المصدر السابق ) .
    إن الفترة الزمنية التي مرَّت ْ بين نزول الإنجيل ، ونزول القرآن كانت نحو ستة قرون ، وإذا نظرنا إلى ما أصاب الإنجيل من تحريف على يد أصحابه في هذه الفترة القليلة من عمر الزمن - إذا ما قورنت بالفترة التي مرت على نزول القرآن وحتى الآن أربعة عشر قرناً - ، ورأينا أنَّ القرآن ثابت شامخ لم يتغير منه حرف ، إذا نظرنا إلى ذلك كله ، لآمنَّا بأن الله قد تعهَّد بحفظ القرآن - حتى ولو لم يذكر ذلك صراحةً في القرآن - ، ولآمنَّا في نفس الوقت بأن الله لم يقطع على نفسه العهد بأن يحفظ الكتب السابقة عليه ، وهذه بديهة ، إذ لو كان قد تعهَّدَ بحفظها لما استطاعوا أن يحرِّفوها .
    والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ... لماذا تعهَّد الله بحفظ القرآن ، ولم يتعهَّدْ بحفظ ما سبقهُ من الكتب ، والجميع منزَّلٌ من عنده ؟!
    والإجابة واضحة وصريحة ، وهذه هي الأسباب ...
    (1)الأنبياء السابقون على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – كان الواحد منهم يُبعثُ إلى قومه خاصة ، وبالتالي فالكتب التي كانت تنزل عليهم ، كانت لقومهم خاصة ، أمَّا رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم – فقد بُعِثَ إلى الناس كافة وبالتالي فإن كتابه موجّه إلى الناس كافَّة ، ونظراً إلى أنه آخر الأنبياء ، فلذلك تولَّى الله حفظ كتاب الرسالة الأخيرة حتى يكون حُجَّةً إلى يوم القيامة قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا كافَّةً للناس بشيراً ونذيرا..) سبأ - 28
    (2) كما أن القرآن الكريم يحوي ما سبقه من الكتب السماوية ، من حيث جوهر التوحيد ، ومن حيث الشرائع التي تناسب الناس من بعثة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم – إلى يوم القيامة ، ومعنى ذلك أن وجود غيره معه سيكون شيئاً زائداً عليه . قال تعالى : ( وأنزلْنا إليكَ الكِتَاب بالحق مُصَدِّقَاً لِما بينَ يَدَيْهِ من الكِتَابِ ومُهَيْمِناً....) . قال ابن عباس : مهيمناً عليه : أي مؤتَمَنَاً عليه ، أي أميناً على كل كتاب قبله . وقال ابن جرير الطَّبرى في تفسيره : القرآن أمينُ على كل الكتب المتقدمة عليه ، فما وافقه منها فهو حق ، وما خالفه فهو باطل .
    إنَّ عملية التحريف التي أصابت الكتب التي تقدمت على القرآن الكريم ، لهِىَ بحق شهادة على صدق القرآن نفسه حين أخبر أن الله قال : ( وإنَّا لهُ لحافِظون) .
    وإن عملية الحفظ هذه لَتَدُلُّ على صدق القرآن فيما أخبر بشأن النبي - محمد صلى الله عليه وسلم – من أنه النبي الخاتم ، فإنَّ من سُنّة الله تعالى في خلقه ألا يعذب أحداً إلا بعد أن يرسل رسولا معه كتاب من ربه ، وطالما أن القرآن محفوظ من التحريف والفساد ، فلا داعي بعد ذلك إلى أن يرسل الله رسولاً آخر ، مثلما كان يفعل حين يتسرَّب الفساد والتحريف إلى كتبه التي سبقت .
    إن هذه القضايا كلها يصدِّقُ بعضُها بعضا . فطالما أخبر الله تعالى أنه لن يرسل رسولاً بعد النبي - محمد صلى الله عليه وسلم – فبِناءً على سُنّة الله في خلقه - ألا يعذب أحداً إلا بعد إنذاره - ، فكان من اللازم أن يظل القرآن محفوظا ًمن التحريف والفساد إلى يوم القيامة ، ليكون حُجَّةً على الناس حتى لا يقولوا ما جاءنا من رسول ٍ ، أو ما قرأْنا من كتاب .

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ


    التحدي الثالث
    قال تعالى : ( هو الذي أرسَلَ رسُولََه بالهُدَى ودينِ الحقِّ ليُظْهرَه على الدين كلِّه )

    أولا - إرهاصات الإظهار في مكة
    منذ البدايات الأولى للدعوة الإسلامية في مكة يعلن القرآن أن سُنّة الله في خلقه أنه لم يبعث رسلَه إلى الناس ثم يتركهم للظروف ، فقال في سورة غافر - المكية - :
    " إنا لننصُرُ رُسُلَنا والذين آمنوا في الحياةِ الدنيا ، ويوم يقومُ الأشهاد " آية / 51
    وفي مكة أيضًا نزل قوله تعالى : " أم أبرموا أمرًا فإنا مُبرِمون " الزخرف / 79
    قال مجاهد : أي أرادوا كيدَ شَرِّ فكدناهم . قال ابن كثير في تفسيره للآية : : وهذا الذي قاله مجاهد كما قال تعالى " ومكروا مكرًا ومكرنا مكرَا وهم لا يشعرون " وذلك لأن المشركين كانوا يتحيّلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه ، فكادهم الله تعالى ورد وبال ذلك عليهم .انتهى من ج 4 ص 135 .
    وفي مكة أيضا نزل قوله تعالى : " وقيلِه يارب إن هؤلاء قومٌ لايؤمنون ، فاصفح عنهم وقُل سلامٌ فسوف يعلمون " الزخرف / 88 – 89 ، وواضح أن قوله تعالى : فسوف يعلمون ، فيه تهديد من الله لهم بأنه سوف يُظهر أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولهذا أحلّ بهم بأسه ، وأعلى كلمته وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد حتى دخل الناس في دين الله أفواجا .
    ولما اشتد بأس المشركين وأذاهم للمسلمين ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أحب أن يهاجر منهم إلى الحبشة ، فهاجر البعض منهم إليها ، فأنزل الله في شأن هؤلاء المهاجرين قوله تعالى : " والذين هاجروا في الله من بعد ما ظُلِموا لَنُبؤّنّهم في الدنيا حسنة ، ولأجرُ الآخرةِ أكبرُ لو كانوا يعلمون " النحل / 41 – مكية . وواضح – لغويّا – أن اللام في قوله تعالى ( لنبؤنهم ) مقصود بها القسم ، وهو وعد من الله لهؤلاء الضعفاء الذين لم يكن لهم حيلة يردون بها كيد المشركين غير أن ينسحبوا من المواجهة ويهاجروا فرارًا بدينهم ، وعدٌ من الله لهم بأن الله سوف ينصرهم ولو بعد حين ، وأن الغلبة سوف تكون لهم ، وأنهم سوف يتبوأون مكانة الفاتحين .
    لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته يتلقون هذه النبوآت بالتصديق والإيمان المطلق ، وكان المشركون يتلقونها بعدم المبالاة أحيانًا ، وبالسخرية أحيانًا أخرى ، وذلك أن الأحداث لم تكن – عقليّا – في صالح المؤمنين ، فكيف يمكن أن يتصور العقل أن عصبة مستضعفة ، محصورة في شِعْب أبي طالب ، لاتجد قوت يومها ، كيف يتصور العقل أن هؤلاء سوف تكون الغلبة لهم ، إنه أمر خارج التصور ، ومع ذلك فقد حدث ما تنبّأ به القرآن ، وتبوَّأ هؤلاء المستضعفون مكانة الفاتحين لنعلم بعد ذلك أن الذي وعد هذا الوعد إنما كان هو الله القادر على تنفيذه .
    وهكذا كل النبوآت القرآنية الخاصة بإظهار الإسلام كانت في وقت لم يكن شيء أبعد منها تصديقا ، كما سنرى في المرحلة المدنية من سيرة الدعوة الإسلامية .
    ونبقى بعض الوقت في مكة قبل أن ندلف إلى المرحلة المدنية فنقول :
    نزل أيضا في مكة قوله تعالى في سورة الإسراء ، مخبرًا عما حدث لفرعون مع موسى وقومه : " فأراد أن يستفزَّهم من الأرض فأغرقناه ومَن معه جميعا ، وقلنا مِن بعده لبني إسرائيلَ اسكنوا الأرض فإذا جاء وعدُ الآخرةِ جئنا بكم لفيفا " 103/104 .
    قال ابن كثير في تفسيره ص67 ج 3 : ( يستفزهم من الأرض ) : أي يخليهم فرعون منها ، ويزيلهم عنها ،و ( فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض ) في هذا بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة ، مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة ، وكذلك وقع ، فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم منها كما قال تعالى : " وإن كادوا لَيَستفِزّونك من الأرض لِيُخْرِجوك منها ..." ولهذا أورث الله رسوله صلى الله عليه وسلم مكة فدخلها عُنْوة على أشهر القولين ، وقهر أهلها ، ثم أطلقهم حِلمًا وكرما كما أورث الله القوم الذين كانوا يُستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها ، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم . انتهى كلام ابن كثير .
    كثيرًا ما يُقْرِنُ الله في كلامه بين ما جرى لقوم فرعون بعد تكذيبهم موسى ، وبين ما جرى أو ما سيجري للكافرين من القوم الذين أرسل إليهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مستعملا كلمة ( كدَأبِ ) ، أي كعمل مستمر ، وسُنّة سائرة ، فيقول في سورة الأنفال التي نزلت في شأن غزوة بدر ، التي هَزَمَ المسلمون فيها كفارَ مكة مُخبرًا أن تلك الهزيمة كانت سُنّة سائرة في الوجود لكل مَن كذب رُسُلَ الله ، قال تعالى : " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكةُ يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ، كدأب آلِِ فرعون والذين من قبلهم ، كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم ، إن الله قويُّ شديد العقاب ، ذلك بأن الله لم يك مُغَيّرًا نِعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..." 50 / 53 .
    جاء في مصحف القادسية ( مختصر تفسير الطبري ) : أنعم الله على قريش بأن ابتعث فيهم نبيًّا منهم فكذبوه وأخرجوه فنقله إلى ألأنصار، وغيَّر نعمته عليهم وعذبهم وأهلك من شاء منهم . انتهى
    ثانيا - الوعد والتحدي في المدينة المنورة
    وفي المدينة المنورة ، ومع تصاعد الأحداث ، وتزايد الأخطار حول النبي صلى الله عليه وسلم والرسالة ، زادت نبرة التحدي وضوحًا بحيث كانت الآيات ( آيات التحدي ) تنزل قاطعة الدلالة عليه، فقال تعالى : " يُريدون لِيُطفئوا نور الله بأفواهِهم ، ويأبَى اللهُ إلا أن يُتِمّ نوره ولو كره الكافرون ، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق لِيُظهِرَه على الدين كله ولو كره المشركون " آية33،32 من سورة براءة / مدنية .
    ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله زَوَى لي الأرضَ مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ مُلك أمتي ما زوي لي منها ) .
    وأخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن عدِيّ بن حاتم قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ، لَيُتِمّنّ الله هذا الأمر – أي الإسلام – حتى تخرُج الظعينةُ [ أي المرأة في هودجها ] من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد [ كناية عن شيوع الأمان ] ، ولَتُفتَحَنّ كنوز كسرى بن هرمز ، قُلتُ : كنوز كسرى بن هرمز ؟؟!! قال : نعم كسرى بن هرمز !! ، ولَيُبذلَنّ المال حتى لا يقبله أحد ). قال عدي راوي الحديث : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولقد كنتُ فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده لتكوننّ الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك . وأنا أقول : أن الثالثة حدثت في أيام الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز .
    ودعني أيها القارىء لأمتعك بهذه الرائعة من روائع التحدي الإلهي ، والتنبّؤ القرآني بغلبة المسلمين ، وهم كانوا في ظرف أقل ما يوصف به أنه أسوأ الظروف ، وأحلك اللحظات التي مرت على المسلمين ، في غزوة الأحزاب ، سوف نقوم بالتركيز على آية حين نزلت كانت موضع العَجَب والدهشة ، وكان ما أشارت إليه من أمر المستقبل سببا لاستهزاء المنافقين بالمسلمين ، إذ كيف يدّعي النبي صلى الله عليه وسلم وهو محاصر في المدينة بعشرة آلاف مقاتل ، وأصحابه خائفون أن يخرجوا لقضاء حاجتهم ، وهو يحفر الخندق من الخوف حول المدينة التي حوصر فيها اتقاءًا من أعدائه ، كيف يصدق المرء بحسابات العقل البشري ، وحسابات موازين القوى ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف تفتح له الشام وفارس واليمن ، ثم ينزل القرآن مؤيّدًا لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، ومُخبرًا أن الأمر ليس بيد البشر ، وإنما هو التدبير الإلهي الحكيم .
    وإليك التفصيل .
    غزوة الأحزاب التي كانت في السنة الخامسة من الهجرة – على الصحيح المشهور – ، والتي كان سببها أن نفرًا من يهود بني النضير الذين كان قد أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر ، قد خرجوا إلى مكة فاجتمعوا بأشراف قريش ، وألّبوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، ووعدوهم من أنفسهم النصر فأجابوهم ، ثم خرجوا - أي اليهود – إلى غطفان فدعوهم إلى محاربة النبي فاستجابوا لهم ، وخرج الجميع في نحو عشرة آلاف مقاتل ، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بمسيرهم أمر بحفر خندق حول المدينة بعد أن أشار عليه بذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه .
    وكانت بنو قريظة – طائفة من اليهود – لهم حصن شرقي المدينة ولهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم ، فذهب إليهم حُيي بن أخطب النضري فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، فعظُم الخطب ، واشتد الأمر ، وضاق الحال كما قال الله تعالى واصفًا حال المؤمنين عندها : " هُنالك ابتُلي المؤمنون وزُلْزِلوا زلزالا شديدا " آية 11 من سورة الأحزاب ، ومكث الأحزاب محاصِرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قريبًا من الشهر .
    قال البراء : لما كان يوم الخندق ، عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول ، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء وأخذ المعول فقال : بسم الله ، ثم ضرب ضربة وقال : الله أكبر ، أّعطيتُ مفاتيح الشام ، والله إني لأنظرُ قصورها الحمر الساعة ، ثم ضرب الثانية فقال : الله أكبر ، أّعطيتُ مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن ، ثم ضرب الثالثة فقال : بسم الله ، فقطع بقية الحجر ، فقال : الله أكبر ، أعطيتُ مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصرُ أبواب صنعاء من مكاني . رواه الإمام أحمد بن حنبل والنسائي ، وروى ابن إسحاق في سيرته مثل ذلك عن سلمان الفارسي كما قال ابن هشام 2 / 219 .
    وذكر النيسابوري في أسباب النزول استكمالا لهذا الأمر : فقال المنافقون : ألا تعجبون ؟! يُمنّيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تُفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الفَرَق( أي من شدة الخوف )
    ولا تستطيعون أن تبرزوا ( أي لا يستطيع الواحد منكم أن يذهب للغائط ) فأنزل الله تعالى قوله : " وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبِهم مرضٌ ما وعَدَنا اللهُ ورسولُه إلا غُرورا " آية 12 من سورة الأحزاب ، وأنزل الله في هذه القصة قوله تعالى : " قُل اللهم مالِكَ المُلك تُؤْتي المُلكَ مَن تشاء ، وتنزِعُ الملك ممن تشاء ، وتُعِزّ مَن تشاء ، وتُذِلّ من تشاء ، بيدك الخيرُ إنك على كل شيء قدير" آية 26/ من سورة آل عمران.
    انتهى كلام النيسابوري .
    لقد جاء القرآن لِيُقر النبي صلى الله عليه وسلم على ما قاله ، وليوافقه على ما أخبر به الناس من حوله ، وليعلم الناس أن الأمر ليس من تدبير البشر ، وإنما هو من تدبير المشيئة الإلهية .
    أما بقية خبر الأحزاب فكان كما قال صاحب الرحيق المختوم ، صفي الرحمن المباركفوري ( أرسل الله عليهم جندًا من الريح فجعلت تقوض خيامهم ، ولا تدع لهم قِدْرًا إلا كفأته ، ولا طنبًا إلا قلعته ، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جندًا من ملائكة يزلزلونهم ، ويلقون في قلوبهم الرعب فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وجد الأحزاب قد ارتحلوا ، ورد الله أعداءه بغيظهم لم ينالوا خيرًا ) انتهى . ونزل قول الله تعالى في شأن الأحزاب : " وَرَدّ اللهُ الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا ، وكفى الله المؤمنين القتال " آية 25 / الأحزاب
    وهذه نبوأة أخرى لحظناها في قوله تعالى : " وكفى اللهُ المؤمنين القتال " فهي إخبار عن مرحلة جديدة في حياة المسلمين ، يهجمون على قريش ، ولا تهجم قريشٌ عليهم ، قال ابن كثير في تفسيره ج4/ ص477 أن هذه الآية ( إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش ، وهكذا وقع بعدها ، فلم يغزُهم المشركون ، بل غزاهم المسلمون في بلادهم ) انتهى ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : " الآن نغزوهم ولا يغزونا ، نحن نسير إليهم " رواه البخاري في صحيحه .
    إن التنبّؤَ بأن المشركين لن يقوموا بالإغارة على المسلمين أو يغزوهم ، هذا التنبؤ في هذا الوقت بالذات ، الذي كان المشركون فيه قادرون على تجميع عشرة آلاف مقاتل في معركة واحدة ، وفي نفس الوقت يأكل الغيظ قلوبهم ، هذا التنبؤ لم يكن نوعًا من التخمين ، أو قراءة الواقع ، فمدلولات الواقع لم تكن تشير إلى شيء من هذا ، بل على العكس ، فقد ذهبوا بغيظهم ، و ما يزال عتادهم وعُدَتُهم باقية ، أي أن الدافع المادي كان موجودا، المتمثل في العتاد والعدة ، وكذلك الدافع النفسي ، وهو الغيظ والإحساس بالعار وخيبة الأمل ، فكان المتوقع أن يُعاودوا الهجوم على المسلمين في ظروف أفضل ، ولكن الله الذي يعلم الغيب وحده أخبر بغير ذلك ، وأطلع رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على مكنون الغيب ، وتحقق ما أخبر به القرآن ، ولم يتجرّأ المشركون بعد ذلك على غزو المسلمين ، بل إن المسلمين هم الذين أصبحوا يغزون المشركين حتى فتح الله عليهم مكة ، وهو الفتح الذي دانت به جزيرة العرب للمسلمين .
    وفي المدينة المنورة أيضًا نزل قول الله تعالى : " وَعَدَ اللهُ الذين آمنُوا منكم وعَمِلوا الصّالحات لَيَسْتخلِفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، ولَيُمَكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، ولَيُبدّلَنّهم من بعد خوفهم أمْنا ، يعبدونني لا يُشْركون بي شيئا ، ومَن كفر بعد ذلك فأولَئك هم الفاسقون " 55 / من سورة النور .
    كان هذا وعدًا من الله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمّته خلفاء الأرض ، أي أئمة الناس والولاة عليهم ..وليبدلنهم من بعد خوفهم أمْنًا ، وقد فعله الله تعالى ، فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب واليمن بكمالها ، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام ، وهاداه هرقل ملك الروم ومقوقس مصر ، وملوك عمان ، والنجاشي ملك الحبشة ، ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر فبعث الجيوش إلى فارس بقيادة خالدبن الوليد ، ففتحوا طرفًا منها وجيشا آخر فتح الشام ، وجيشا آخر فتح مصر في عهد عمربن الخطاب ، وتقلص ملك كسرى والروم ، وفي عهد عثمان امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها كما هو معروف .
    في كتابه [الإسلام يتحدى ] يقول العالم الكبير وحيد الدين خان :
    " وليس بوسعنا تفسير هذه النبوآت في ضوء المصطلحات المادية ، إلا أن نسلم بأن صاحب هذا الإخبار بالغيب لم يأتِ به من عند نفسه ، وإنما كان خليفة عن الله ، فلو أنه كان إنسانًا عاديًّا لاستحال كل الاستحالة أن تصنع كلماته أقدار التاريخ " انتهى .
    على أنه يجب التنبيه إلى أمر بالغ الخطورة ، وهو وجوب التفريق بين ظهور الإسلام كدين له معالمه العقائدية وله عباداته ، وبين ظهور المتدينين به المعتنقين له.
    وبمعنًى آخر يجب التفريق بين ظهور الإسلام ، وبين ظهور المسلمين .
    فإن الكثيرين درجوا على تفسيرقوله تعالى : " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله " ، درجوا على تفسير ظهور الإسلام بأنه ظهور المسلمين ، وتفوّقهم على مَن عداهم من الأمم في فترة من فترات التاريخ ، واكتفوا باعتبار أن الآية إنما تعني الإخبار عن سيادة المسلمين للعالم ، وهو أمر يوقع الكثير في حيْرة تدفعهم إلى أن يتساءلوا السؤال التالي قائلين : إذا كنا نعتنق الدين الإسلامي ، فلماذا تغلبت علينا الأمم الأخرى ، ولماذا تخلفنا عن ركب الحضارة ؟!.
    والحقبقة أنه بتفحص النص القرآني وتدبره تتضح الإجابة ، فالله تعالى حين قال : " ليظهره على الدين كله " إنما كان يعني بذلك ظهور الدين ، ولم يَرِدْ في الآية ظهور المتدينين به المعتنقين له ، ولأن الدين دينُه فقد تعهّد بإظهاره دون قيد أو شرط ، أما الذين آمنوا فحين وعدهم بالأمن والتمكين في الأرض فقد كان وعده مشروطًا بقوله :" يعبدونني لا يشركون بي شيئا " ، ولهذا قال في آخر الآية :" ومَن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون " .
    قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى : " وَعَدَ اللهُ الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ...." قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوًا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده سرًّا وعلانية وهم خائفون ، لا يُؤمرون بالقتال ، حتى أمِروا بالهجرة إلى المدينة فقدِموها ، فأمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين ، يمسون في السلاح ، ويصبحون في السلاح ، فصبروا على ذلك ما شاء الله ، ثم إن رجلا من الصحابة قال : يا رسول الله ، أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟؟!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لن تصبروا إلا يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة ( أي بدون سلاح ، كناية عن الأمن ) وأنزل الله هذه الآية : " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ..." إلى آخر الآية ، فأظهر الله نبيّه على جزيرة العرب فأمنوا ووضعوا السلاح ، ثم إن الله تعالى قبض نبيّه صلى الله عليه وسلم فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه ، فأدخل عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط ، وغيروا فغير الله بهم ..." انتهى ما أورده ابن كثير من كلام أبي العالية ج3 / ص302 ، وقال ابن كثير أيضًا وقوله تعالى : " ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون " أي فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك فقد خرج عن أمر ربه ... فالصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لما كانوا أطوع لله كان نصرهم بحسبهم ، وأُيِّدوا تأييدًا كبيرا ، وحكموا في سائر البلاد والعباد ، ولما قصّرالناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم .انتهى

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ


    التحدي الرابع
    وعد الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم بالحفظ والرعاية
    (....واللهُ يعصِمُك من النَّاس....) المائدة / 67


    من الظواهر التي تشد نظر الباحث في القرآن الكريم ، تلك التعهُّدات التي عهِد الله بها إلى نفسه بنُصرة الإسلام ، وبتمكين المسلمين فى الأرض ، وبحفظ قرآنه من التبديل والتحريف . ثم هاهو يذكرُ عهداً لا أجد له مُسَمَّىً سوى التَّحَدِّي ، فقد وعد الله نبيَّهُ بالحفظ والرعاية ، وبأن لا تصل إليه أيدي أعدائه بالقتل . فقال له ربُّه :-
    ( يا أيُّها الرَّسول بَلِّغْ ما أُنزِلَ إليك من ربِّكَ ، وإن لم تفعلْ فما بلَّغْتَ رسالَتَه ، واللهُ يعصِمُكَ من الناس....) الآية 67 من سورة المائدة
    جاء في تفسير الطبري : يعصمك من الناس : أي يمنعك منهم .
    وفي تفسير الجلالين : يعصمك من الناس أن يقتلوك .
    والآية – وإنْ جاءت في صورة خطاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم إلاَّ أنها بكل المقاييس تُعتبَرُ تحدِّياً واضحاً من الله لأعداء نبيه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يموت بيد أحدٍ من الناس ، وبأن جميع محاولات أعدائه للنَّيْل منه سوف يكون مصيرها الفشل الذريع .
    وسوف نرى في الصفحات التالية كيف تم هذا الوعد ، وكيف حفظ الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن محاولات أعدائه للنيْل منه باءت كلها بالفشل ، حتى جاء أجل النبي صلى الله عليه وسلم ، ليموت في بيته ، وعلى فراشه ، دون أن يكون ذلك على يد أحد من الناس .
    ونبدأ الموضوع من مكة : -
    ....( إنَّا كفيْناكَ المسْتهزِئين )...
    عندما بدأَ النبي صلى الله عليه وسلم دعوتَه في مكة ، آمَنَ به القليل ، ولكن سواد الناس اتخذوا منه ومن أصحابه موقفاً عدائيَّاً سافِراً ، وآذَوْا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شتَّى أنواع الإيذاء ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأْبَهُ بما يلقاه من الأذى الجسدي في نفسه ، ولكن أشدَّ ما كان يؤلِمُه سُخْرية المشركين ، واستهزاؤهم بما كان يدعو إليه . قال تعالى فلعلَّك باخِعٌ نفسَكَ على آثارِهم إن لَّمْ يُؤمنوا بهذا الحديثِ أسفا ) الكهف / 6
    وكان الله تعالى يُسَرِّي عن نبيِّه ، ويُواسيه ، ويثَبته بمثل قوله : - ( ولقد اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِن قبلك ، فحاق بالذين سخِروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) الأنبياء / 41
    قال مفسِّرالجلالين : فحاق : أي نزل {بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} وهو العذاب ، فكذا يحيق بمن استهزأ بك .
    وهذه نبوءة بأن الله سوف يُنزِل العذاب بمن استَهْزَأ بالنبي صلى الله عليه وسلم . ولكن كيف تمَّ ذلك ؟
    قال محمد بن إسحاق في سيرته : - كان عظماء المستهزئين خمسة نفر ، وكانوا ذوي شرف في أقوامهم ، وهم : الأسود بن أبي زمعة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني { كما يقول ابن إسحاق } قد دعا عليه لِمَا كان يبلغه من أذاه ، فقال : اللهم اعمِ بصره ، واثكله أمَّه ...، والأسود بن عبد يغوث ، من بني زهرة .....، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل السهمي .....، والحارث بن الطلاطلة .... ويقول بن إسحاق :-
    فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء ، وأنزل الله : ( فاصْدَعْ بما تُؤمَر ، وأعرِضْ عن المشركين ، إنَّا كفَيْناكَ المسْتَهْزِئين) الحجر- آية 94-94
    ذكر ابن إسحاق حديثا بيَّن فيه ما حاق بهؤلاء فقال : { حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير ، أن جبريل أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت ، فقام ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، فمر به الأسود بن عبد يغوث ، فأشار إلى بطنِه ، فاستقى بطْنُه فمات منه ....، ومر به الوليد بن المغيرة ، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله ، وكان أصابه قبل ذلك بسنتين... فانتقض به فقتله ...، ومر به العاص بن وائل السهمي فأشار إلى أخمص قدمه ، فخرج على حمار له يريد الطائف ، فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه فقتلته ...، ومرَّبه الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخط قيحا فقتله} انتهى.
    قال تعالى : ( وإذ قُلنا لك إن ربَّك أحاط بالناس ...)الإسراء/60.
    في تفسير الطبري : أي أنهم في قبضته ، وأنه مانعه منهم .
    ولقد تعددت صور الرعاية الإلهية للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة ، نذكر منها ما يلي : _
    0( ا )أخرج مسلم عن أبي هريرة قال:قال أبو جهلٍ : يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم {أي يسجد لربه ولا يسجد للأصنام وأنتم ترون ذلك ولا تصنعون شيئا }؟؟ ، فقيل نعم ، فقال : واللات والعزَّى ، لئن رأيتُه لأَطأنَّ على رقبته ، ولأُعفِّرنَّ وجهه .فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي {زعم ليطأ رقبته} ، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتَّقي بيديه ، فقالوا : مالك يا أبا الحكم ؟ قال : إنَّ بيني وبينه لخندقاً من نار ، وهؤلاء أجنحة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا منِّي لاختطفتْه الملائكة عضواً عضوا .
    0( ب ) ( فأغْشَيْناهُم فهُم لا يُبْصِرون ). يس / 9
    بعد بيعة العقبة الأولى والثانية اللتان بايع فيهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عدداً لا بأس به من أهل المدينة رأت قريشٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صارت له شيعة من غيرهم ، وأصحاب من غير بلدهم ، فحذروا خروج النبي صلى الله عليه وسلم ، وخافوا أن يكون قد أجمع لحربهم ، فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون ، واجتمع رأيهم أخيراً على أن يأخذوا من كل قبيلة فتىً شابَّاً جلداً ، ثم يُعطَى كل منهم سيفاً صارماً ، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه {ليتفرَّق دمه في القبائل } فلا يقدر بنوعبد مناف {عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم }على حربهم جميعاً ، وضربوا لذلك ميعاد يوم معلوم ، فأتى جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالهجرة ، وينهاه أن ينام في مضجعه تلك الليلة / أنظر سيرة ابن هشام 1/155 ، طبقات ابن سعد 1 / 212
    (ولما كانت عتمة تلك الليلة التي هاجر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمع المشركون على بابه يتربصون به ليقتلوه ، ولكنه خرج من بينهم وقد ألقى الله عليهم سِنةً من النوم ، بعد أن ترك علِيَّاً رضي الله عنه في مكانه نائماً في فراشه ، وبعد أن طمْأنهُ بأنه لن يصل إليه مكروه) . جاء ذلك في أحاديث متفق عليها بين البخاري ومسلم
    ( أمّا المشركون فقد انطلقوا – بعد أن علموا بخروج النبي صلى الله عليه وسلم
    ينتشرون في الطريق المؤدي إلى المدينة ، ويفتشون عنه في كل المظان ، حتى وصلوا إلى غار ثور {الذي اختبأ فيه النبي صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه أبو بكر } وسَمِع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أقدام المشركين تخفق من حولهم ، فأخذ الروعُ أبا بكر وهمس يحدث النبي r : لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا ، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما ؟) من حديث متفق عليه
    ( فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم يحِن لأحدٍ منهم التفاتة إلى ذلك الغار ، ولم يخطر ببال واحد منهم أن يتساءل عما يكون بداخله) حديث متفق عليه
    وأذكر هنا تعليق الدكتور (جاري ميلر) على هذا الحادث من كتابه {القرآن المذهل} قال د.ميلر : لو كنت في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم – هو وأبي بكر محاصرين في الغار، بحيث لو نظر أحد المشركين تحت قدميه لرآهما . ألن يكون الرد الطبيعي على خوف أبي بكر: هو من مثل [ دعنا نبحث عن باب خلفي] ، أو [أصمت تماماً كي لا يسمعك أحد]، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال بهدوء: لا تحزن إن الله معنا ، الله معنا ولن يضيعنا . هل هذه عقلية كذاب أو مخادع ، أم عقلية نبي ورسول يثق بعناية الله له ؟.
    ذلك كان موقف ومحاولة جماعية لقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ظهر فيها حِفْظ الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم بأجلى مظاهره .
    وثمَّة موقف آخر ، ومحاولة فردية أثناء حادث الهجرة أيضاً ، لما انقطع الطلبُ عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه خرجا وسارا – ومعهما الدليل ( عبد الله بن أريقط ) متبعين طريق الساحل { وكان مشركو مكة قد جعلوا لكل من أتى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه دِيَةَ كلِّ منهما ، وذات يوم بينما كان جماعة من بني مدلج في مجلس لهم ، وبينهم سُراقة بن جعشم ، إذ أقبل إليهم رجل منهم فقال : إني قد رأيتُ آنفا ًأسودة بالساحل ، أراهما محمداً وأصحابه ، فعرف سُراقة أنهم هم ، ولكنه أراد أن يُثني عزْمَ غيره عن الطلب فقال : إنك قد رأيت فلاناَ وفلاناً انطَلَقوا بأعيُنِنا يبتغون ضالَّةً لهم ، ثم لبث في المجلس ساعة ، وقام فركب فرسه ثم سار حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فعثرت فرسُهُ فخَرَّ عنها ، ثم ركبها ثانية وسار حتى صار يسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفتُ إليه وأبو بكر يُكثِر الالتفات ، فساخت قائمتا فرس سُراقة في الأرض حتى بلغتا الركبتين ، فخرَّ عنها ، ثم زجرها حتى نهضت ، فلم تكد تُخرِج يديها حتى سطع لأثرهما غبار ارتفع في السماء مثل الدخان ، فعلم سُراقة أنه ممنوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وداخَله رعب عظيم ، فناداهما بالأمان، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم ومَن معه حتى وصل إليهم ، فاعتذر إليه وسأله أن يستغفر له ، ثم عرض عليهما الزاد والمتاع ، فقالا : لاحاجة لنا ، ولكن عَمِّ عنَّا الخبر ، فقال : كُفيتُم } حديث متفق عليه والتفصيل للبخاري ج 4 / ص 255 -256
    ومع تلك التعهدات التي أبداها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالحماية والرعاية فإنه – لِِأمر لا أفهمه ، وأظنه خاصَّاً بقاعدةٍ إيمانية عليا – كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخذ الحرس لحراسته من أعدائه .
    ويبدو لي أن هذه القاعدة الإيمانية هي التي بنى عليها نبي الله إبراهيم عليه السلام قوله لأبنائه في سورة يوسف (...يا بَنِيَّ لا تدخُلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ، وما أغني عنكم من الله من شيء إنْ الحُكْمُ إلا لله عليه توكَّلت ....) آية 67
    فالقضية هنا خاصة بالتوكل الذي لا يكون مكتملاً إلا بالأخذ بالأسباب ، وهو الأمر الذي يميزه عن التواكل وفي نفس الوقت لا تكون الثقة بالأسباب ، ولكن تكون الثقة بخالق الأسباب ومدبر الكون .
    وفي المدينة المنورة ، ورغم زيادة الأخطار حوله من كل جانب ، متمثلة في : القبائل المشركة التي تود أن تفتك به في كل لحظة ، والمنافقين الذين يتربصون به الدوائر ، واليهود بحقدهم وعداوتهم للدعوة الجديدة ، وفي خضم هذه الأخطار يأتي إليه التأكيد والعهد الأعظم من ربه بألا تصل إليه يد أحد من الناس بالقتل ، وهذا العهد من أعظم التحديات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو كان هذا البحث خاصّاً بدلائل النبوة وإثباتها لقلنا أن هذا التحدي من أوضح الدلائل لها ، ومن أعظم البراهين عليها ، وذلك نظراً إلى الظروف التي نزلت فيها والأخطار التي كانت محدقة به صلى الله عليه وسلم من كل جانب
    جاء في كتاب [ أسباب النزول] للنيسابوري : قالت السيدة عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم :- سَهِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فقلت : يا رسول الله ما شأنك ؟ قال : ألا رجل صالح يحرسنا الليلة ؟ قالت : بينما نحن في ذلك ، إذ سمعت صوت السلاح ، فقال مَن هذا ؟ قال : سعد وحذيفة جئنا نحرسك ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعتُ غطيطه ، ونزلت هذه الآية :- والله يعصمك من الناس ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قُبَّةِ أدم وقال : انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله . وقد كان ذلك سنة ثنتين من الهجرة .
    وقد كانت هناك محاولات أخرى فردية وأخرى جماعية للنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير ما كان في ظروف الهجرة وظروف الحروب ، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي :-
    [1] معروف عن اليهود أنهم قتلة الأنبياء ، وخونة العهود ، وقد حاولوا غير مرة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله نجََّاه منهم وأطلعه على سرهم وعلى وتآمرهم عليه : كان أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم /عمرو بن أمية الضمري/ قد قتل رجلين خطأ ، فقرر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفع دية الرجلين ، وذهب إلى بني النضير / إحدى القبائل اليهودية /- وكان بينه وبينهم عهد وجوار/ فكلمهم أن يُعينوه في دفع دية الرجلين فقالوا : نفعل يا أبا القاسم ما أحببت.
    وخلا بعضهم ببعض وهموا بالغدر ، قال أحدهم : أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة . وقال أحدهم : لا تفعلوا ، واللهِ لَيُخْبَرَنَّ بما هممتم به وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه . فجاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبر ( الوحي ) بما هموا به ، فنهض سريعًا كأنه يريد حاجة ، وتوجَّه إلى المدينة ، ولحقه أصحابه ، فقالوا : قمتَ ولم نشعر !! قال: همَّتْ يهود بالغدر ، فأخبرني الله بذلك فقُمت .وهذه القصة مذكورة في أحاديث متفق عليها ، كما ذكرها محمد بن إسحاق في سيرته .
    إن المواقف التي تعرّض فيها النبي صلى الله عليه وسلم للاغتيال كثيرة جدًا ، فحياته كلها كانت على محك الخطر ، ولو أردنا استقصاء كل المواقف ، لأصابتنا آفة الإطالة ، وأحسّ قُرّاؤنا بالملل ، ويكفينا بليغ الإشارة عن طويل العبارة . ونختم هذا الموضوع بهذا الموقف الذي تجلّت فيه عصمة الله لنبيّه ، وحفظه له ، تحقيقًا لقوله تعالى ( والله يعصمك من الناس ) .
    بعد وقعة بدر ، وانتصار المسلمين فيها على قريش ، التي فقدت كثيرًا من أشرافها وفلذات أكبادها بين قتيل وأسير ، عاد الباقون منهم إلى مكة بين كاظمٍ لغيظه ونادم ، جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية ، وتذكرا قتلى بدر ، فقال صفوان : والله ما في العيش بعدهم خير ، فقال له عمير : صدقت والله ! أما والله لولا دَيْنٌ عليّ ليس له عندي قضاء ، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبتُ إلى محمد حتى أقتله ، فإن لي قِبَلهم علة : ابني أسير في أيديهم . فاغتنمها صفوان ، وقال له : عَلَيّ ديْنُك ، أنا أقضيه عنك ، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا . قال عمير : فاكتم شأني وشأنك ، قال : أفعل . ثم أمر عمير بسيفه فشُحِذ له ، وانطلق حتى قدم به المدينة . وننتقل بأحداث هذا الموقف إلى المدينة .
    بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ، ويذكرون ما أكرمهم الله به ، إذ نظر عمر فرأى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشِّحًا سيفه ، فقال : هذا الكلب عدو الله ، ما جاء إلا لشر . ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يانبي الله ، هذا عمير بن وهب قد جاء متوشِّحًا سيفه ، قال : فأدخِلْه عَلَيَّ . فأقبل عمر حتى أخذ بحبالة سيفه في عنقه ، فلبَّبه بها ، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار : ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده ، واحذروا عليه من هذا الخبيث ، فإنه غير مأمون . ودخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه قال : أرسِلْه يا عمر ، أُدْنُ يا عمير ، فدنا ، ثم قال له : ما جاء بك ياعمير ؟ قال : جئتُ لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسِنوا فيه . قال : فما بال السيف في عنقك ؟ قال : قبَّحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئًا ؟ قال : اصدقني ما الذي جئتَ به . قال : ما جئتُ إلا لذاك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجْرفذكرتما أصحاب القليب من قريش ( قتلى بدر ) ثم قلت : لولا ديْنٌ عليَّ وعيال عندي لخرجتُ حتى أقتل محمدًا ، فتحمَّلَ لك صفوان بن أمية بِدَيْنك وعيالك على أن تقتلني ، والله حائل بينك وبين ذلك . قال عمير : أشهد أنك رسول الله ، قد كنا نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي ، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذي هداني للإسلام و ساقني هذا المساق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقِّهوا أخاكم في دينه ، وأقرئوه القرآن ، وأطلقوا له أسيره .أنظر سيرة بن هشام 1/ 661 - 663 .
    وبعد / أخي الكريم ، لقد كانت تلك نماذج من محاولات النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وباءت كلها بالفشل ، ويشاء السميع العليم أن ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه على أثر مرض – الحمى – لا بضربة سيف أوطعنة رمح أوقذفة حجر . إن هذا أمر يملأ القلب بالإيمان بأن الذي أعلن للنبي : ( والله يعصمك من الناس ) هو القادر الأوحد على تنفيذ هذا الوعد ، والذي لولا أن عرفنا أخبار تلك المحاولات ما استطعنا أن نضع هذه الآية ضمن آيات التحدي والإعجاز التاريخي للقرآن الكريم ، فكما أن هذه الآية تجسيد لمعنى النبوة ، فإن هذه المحاولات الفاشلة تجسيد لمعنى العصمة الإلهية

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ


    التحدي الخامس
    من التحديات الإلهية للبشر في القرآن الكريم
    " ...... لن يخلُقوا ذبابًا ولو اجتمَعوا لَه ..... "


    يوجّه القرآن الكريم تحديًا واضحًا للناس جميعًا قائلا أنهم لن يستطيعوا - إن حاولوا – خلق ذبابة ، ومعلوم أن اختيار القرآن للفظ الذبابة ليس على سبيل الحصر ، بل على سبيل المثال ، فهو يقول ما معناه أنهم لن يخلقوا ذبابًا ولا غيره مما يتمتع بالحياة وفيه روح . فقال تعالى " إنّ الذين تدْعون من دونِ اللهِ لن يخلُقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له .. "

    وأحب قبل الدخول في الحديث عن هذا التحدي أن ألفت النظر إلى أن إيجاد الله للأشياء يكون على نوعين :
    النوع الأول : أن يوجد الأشياء من العدم ، بأن يقول للشيء كن فيكون ، أي بالكلمة ، وقد أطلق علماء التوحيد على هذا النوع من الإيجاد اسم الإبداع ، أي إيجاد الأشياء من لا شيء ، ومثاله إيجاد السماوات والأرض في البدء قبل أن يكون هناك شيء قبلهما ، ولذلك يقول الله عن نفسه عند الحديث عن خلق السماوات والأرض : " بديع السماوات والأرض ... " الأنعام 101

    جاء في تفسير الجلالين : " بديع السماوات والأرض " أي مبدعهما من غير مثال سبق .انتهى

    وفي تفسير ابن كثير : " بديع السماوات والأرض " أي مبدعهما وخالقهما وموجدهما ومحدثهما من غير مثال سبق ، كما قال مجاهد والسدي ، ومنه سُمّيت البدعة بدعة ، لأنه لانظير لها فيما سلف . انتهى

    النوع الثاني من إيجاد الله للأشياء هو الخلق ، وهو أن يوجد أشياء من أشياء موجودة من قبل ، ومثاله خلق آدم وسائر الكائنات الأخرى ، ولذلك يقول الله عن نفسه عند الحديث عن خلق الإنسان : " خَلَقَ الإنسان من علق " الآية /2 من سورة العلق . وهذا النوع من الإيجاد – منطقيًا – هو الأسهل والأيسر بين النوعين .

    والملاحظ في الآية التي هي مدار الموضوع الذي نحن بصدده ، أن الله لم يتحدَّ البشر بالإبداع ، بل تحداهم بالأيسر والأسهل وهو الخلق ، ففرق كبير بين أن يكون لدينا المواد الأولية ثم نكون مطالبين بأن نوجد منها أشياء أخرى ، وبين ألا يكون لدينا شيء ثم نكون مطالبين بالإيجاد من لاشيء .
    الإسلام يتحدى
    وكم كانت دهشتي بالغة حين قرأت أن أحد علماء البيولوجي (1) ( هيكل ، كما ذكره وحيد الدين خان في كتابه الإسلام يتحدى ) هذا العالم بلغ به الصلف أن قال : ( إئتوني بالماء والهواء وبالأجزاء الكيماوية وبالوقت وسأخلق الإنسان ) .

    ولم يكن مبعث دهشتي تلك الجرأة والتهجم على ادعاء القدرة على القيام بفعل هو من أخص خصائص القدرة الإلهية وهو الخلق ، ، وإنما كان مبعث دهشتي ذلك التنبؤ القرآني بأن أحدًا من الناس سوف يتجرأ على هذا الإدّعاء ، فهو وإن لم يكن تنبّؤا صريحًا ، إلا أنه تنبؤ ضمني تضمنته الآية الكريمة ، وهو أمر سوف يوافقني عليه علماء اللغة ، إذ أنه لا معنًى لأن يعلن الله تحدّيَه بهذه الصيغة التي تفيد المستقبل " لن يخلقوا " ، أقول : لا معنًى لهذا التحدي بهذه الصيغة إن لم يكن في علم الله أيام نزول القرآن أن بعض الناس سوف يحاول أن يخلق كما يخلق الله ، وإلا كان الأوْلى أن يقول : " لا يخلقون ذبابا " بدلا من " لن يخلقوا " . ولنناقش الأمر ونرى هل يمكن للبشر أن يخلقوا كخلق الله ؟

    بعد أن استطاع الإنسان أن يخترع من الأجهزة الدقيقة ما مكنه من الكشف عما يحدث في الأجسام الحية ، أصبح معلومًا لدى الجميع أن الأجسام الحية تتكون من خلايا ، والخلية مركب صغير جدا ومعقد غاية التعقيد ، وأن الذرّة هي وحدة بناء كل خلية ، وهذا الجسم الصغير المتناهي في الصغر – الذرة – يتكون من نواة ، وهذه النواة تتكون من وحدات أدق ، بعضها بروتونات أي جسيمات كهربية موجبة ، وبعضها نيوترونات ، أي جسيمات كهربية متعادلة ، وتدور حول هذه النواة على مسافة بعيدة ( نسبيًا ) اليكترونات ، أي جسيمات كهربية سالبة ، ومعظم الذرة فراغ تدور فيه أجسامها الصلبة ، حتى أن نسبة المادة الصلبة التي تتكون منها إلى الفراغ الذي تدور فيه الأليكترونات هي : 1000000000: 1 ، والاليكترون من أصغر الجسيمات الذرية ، ووزنه أقل من وزن البروتون بحوالي 1840 مرة ، ولكن دورانه حول نواته أكثر من 7000 مليون دورة / ثانية ، ولذلك لا يمكن تصور رؤيته في مكان محدد من الذرة ، وإنما هو يُتخيل موجودًا على طول مداره في وقت واحد ، وذلك لسرعة دورانه .

    وتتحد الذرات مع بعضها في صور مختلفة لتشكل لنا الحياة ، فذرة من الكلور ( المميت ) تتحد مع الصوديوم ( الحارق ) لتعطينا ملح الطعام ( كلوريد الصوديوم ) ، وذرتين من الايدروجين مع ذرة من الأوكسيجين لتعطينا الماء الذي نشربه ... إلخ . وهكذا نتدرج في هذه الروابط الذرية الأليكترونية لندخل من عالم الذرات إلى عالم الجزيئات حيث تتكون البنايات الجزئية مثل الجزيء البروتيني في الخلية الحية .

    ويقدر بعض العلماء أن مافي جسم الإنسان من أنواع البروتينات المختلفة فقط ما يربو على عشرات الألوف من الموديلات إن لم يكن مائة ألف نوع .

    غير أن إيجاد النواة والاليكترون لا يعطيان الحياة للخلية ، أي أن الحياة لا تدب في الخلية بسبب أجزائها المادية التي تتكون منها ، وهذا ما قرره العلماء الباحثون في علم الخلية وانتهوا إليه ، ولذلك يقول كريسي موريسون في معرض الرد على القائلين بأن العالَم خُلق صدفة ، أو أنه خلق نفسه ، أو بمعنى آخر أن المواد الكيميائية إذا رُتّبت بشكل معيّن تدب الحياة فيها بشكل تلقائي ، يقول : ( إن هيكل يتجاهل في دعواه الجينات الوراثية ، ومسألة الحياة نفسها ) .

    يقول وليم بوين سارلز ( ولقد وصل العلم إلى حقيقة أساسية وهي استحالة نشوء الحياة ذاتيًا من مواد خامدة ، وأن الأحياء الدقيقة تنشأ فقط من خلايا حية مماثلة ، موجودة من قبل ) (2) .

    ويقول الدكتور أنور عبد العليم : ( وحيوية الخلايا ، أو الحياة الموجودة فيها ، لا زالت أمرًا يقف العلم حائرًا أمامه ، فهو لم يتوصل بعد إلى كشف هذا السر الأعظم ، المعروف بالحياة ، كما يتضح أن هذه المشكلة هي أبعد مدًى من أن تكون مجرد بناء مواد عضوية معينة ، وظواهر طبيعية وكيمياية خاصة ) (3) .

    ويقول الدكتور عبد الغني عبود : ( وهو رد يرد به العلم نفسه على من يدّعون بأن الكون خلق نفسه بنفسه ، وبأن الحياة نشأت – وتنشأ – ذاتيًا دون تدخل من قوة عظمي وهبت – وتهب – الحياة ) ( 4 ) .

    ويقول أيضًا : ( وعند الروح – سر الحياة – لا يزال العلم يقف حائرًا يحني رأسه إما إقرارًا بعظمة الله واقتداره ، وإما حياءا وخجلا إن لم يعترف بقدرة الله ، فالروح سر من أسرار الله وحده ..... فهي من أمر الله ، أي أنها ليست نتاج تركيبة كيميائية في معمل ، وإنما هي موهبة موهوبة من الله رأسًا ، وسوف يظل ذلك إلى أن تنتهي الحياة ) (5) .

    قال تعالى في كتابه الكريم : " يسألونك عن الروح ، قل الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) . وصدق الله إذ يقول : ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له ... ) صدق الله العظيم .

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
    هوامش التحدي الخامس
    ( 1) الإسلام يتحدى ، للعالم وحيد الدين خان
    ( 2) علم الأحياء الدقيقة ، ترجمة صلاح الدين طه وآخرين ، مكتبة النهضة المصرية سنة 1962 ص 532 .
    ( 3) قصة التطور ، رقم 4 من سلسلة المكتبة الثقافية ص 21-22 .
    ( 4، 5 ) الإسلام والكون . ط دار الفكر العربي سنة 1982
    لهذه النبوة .

    التعديل الأخير تم 02-04-2016 الساعة 08:14 PM

  2. #2

    افتراضي

    بارك الله فيك
    لماذا لا يستجيب منكروا الربوبية فيخلقوا شيئا بسيطا من العدم باستخدام الفلسفات المادية من وجودية ومادية وبراغماتية وعدمية أو باستخدام النظريات العلمية ..........
    بطبيعة الحال لا يستطيعون لأن تلك الفلسفات هي مضغ للظراط بالفم والنظريات العلمية تصف الكون والعلاقة بين مكوناته ولا تستطيع خلق شيء غير موجود......
    كذلك هناك تحد آخر لم يرد في مقالك وهو ارجاع الحياة للميت في قوله تعالى " فلولا ان كنتم غير مدينين ترجعونها ان كنتم صادقين" قرآن كريم
    فمن كان يدافع عن فكرة أن الحياة مادة ولا وجود للروح والبعث فلماذا لا يثبت نظريته بشكل عملي و يصلح العطب المادي للجسم فتعود له الحياة...لماذا لا يحي انسانا أو حيوانا مات مادامت الحياة مادة ....هيهات

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Mar 2013
    الدولة
    مغرب العقلاء و العاقلات
    المشاركات
    3,002
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي


    بارك الله فيك أخي الدكتور قواسمية و نفع بعلمك، نعم أيضا لا أعتقد أن تحديات كتاب الله محصورة في ستة أو حتى ستين مثالاً و ليس غرض الكاتب حصرها، و إنما ذكر شواهد و أمثلة. و لعل إلى ذلك أشار صاحب المقال بقوله : أغلب الظن أن المعتزلة لم يقرروا رأيهم الذي أشرنا إِليه .. إلا لأنهم نظروا إلى المعجزة القرآنية فلم يروا منها سوى جانباً واحداً هو جانب البلاغة والفصاحة ، أي أنهم نظروا إلى اللفظ القرآني ، دون التنبه إلى الجوانب الأخرى من الإِعجاز.اهـ

    ذلك أن القرآن من أوله إلى آخره معجز و هو تحدي للكافرين بأسلوبه مع معانيه و أخباره التي لا يمكن لبشر أن يأتي بمثلها من عند نفسه قبل أن يشهد تأويلها بعد عشرات السنين بل القرون من الدراسة و البحث العميق، و حتى إن قُدِّر له أن أحاط بشيء منها لسعة خبرته و اضطلاعه فليس له أن يحيط بها على وجه التمام و الكمال كما يصف القرآن الأشياء بأدق الأوصاف و التعابير اللغوية (قصة الجنين مثلا و كيف أتى القرآن بحرفي الفاء و ثم على وجه الدقة في تعاقب المراحل).
    هذا مقال سابق في الموضوع : القرآن الكريم ليس معجزا بلاغيا فحسب


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء