الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:
سوف نبطل سحر دوكينز بتوفيق الله تعالى فيما ذكره من شبهات في عدة مسائل؛ وهي كالآتي:
أولًا - حدوث الأشياء الحسنة والأشياء السيئة بالمصادفة:
إن دوكينز لا يخرج عن سؤال الملاحدة المتكرر: لماذا خلق الله الشرَّ؟، ويقول دوكينز في "سحر الواقع" تحت: "فصل: لماذا تحدث أشياء ضارة؟": (ص 240):
"وهكذا رأينا أن الأشياء الحسنة - شأنها شأن الأشياء السيئة - لا يحدث واحدٌ منها بمعدل يفوق الأخرى إلا من قبيل المصادَفة، والكون لا يملك عقلًا أو أحاسيسَ شخصية، وبالتالي لا يفعل شيئًا من باب أنه يودُّ أن يسبِّب لك الأذى أو النفع؛ إذ إن الأشياء السيئة تحدث لأنها أشياءُ تحدث، سواءٌ أكانت سيئة أم طيبة من وجهة نظرنا، فلن يؤثر هذا على الاحتمالية التي ستحدث بها".

فإذا نظرتَ في كلام دوكينز: تجده يرجع حدوثَ تلك الأشياء إلى المصادفة، وأنه لا حِكمة من وراء حدوثها: "الأشياء السيئة تحدث؛ لأنها أشياء تحدث"، ولا وجود لمن يدبِّرها: "والكون لا يملك عقلًا أو أحاسيسَ شخصية، وبالتالي لا يفعل شيئًا من باب أنه يود أن يسبب لك الأذى أو النفع"؛ فهو يُنكر أن تكون هناك حكمةٌ في إيجاد الخلق على هذه الكيفية من وجود الخير والشر.

والجواب من وجوه:
أولًا: أن العقل لا ينكِر أن تحصل فائدةٌ أو مصلحةٌ ما من وراء حدوث بعض هذه الأشياء السيئة؛ فمِن سم الثعبان يَخرج الترياق، ومن الميكروب نصنع اللقاح، والبراكين تنفث المعادنَ وتكسو الأرض بتُربة بركانية خصبة[1]، وفي المثل السائر: "رُبَّ ضارَّة نافعة".
فإن قيل: كيف يُتصوَّر أن يكون الشيء محبوبًا من وجه ومكروهًا من وجه آخر؟
أجيب: بأن هذا أمر واقع لا ينكره العقل، ولا يرفضه الحس؛ فها هو الإنسان المريض يُعطَى جرعة من الدواء مُرة كريهة الرائحةِ واللون، فيشربها وهو يكرهها؛ لما فيها من المرارة، وكراهة اللونِ والرائحة، ويحبها لما يَحصل فيها من الشفاء، وكذا الطبيب يكوي المريض بالحديدة المحماة على النار، ويتألم منها فهذا الألم مكروهٌ له من وجه، محبوب له من وجه آخر[2].
مثال آخر: ولَدُك حينما يشتكي ويحتاج إلى كيٍّ تكويه بالنار، فالكيُّ شر، لكن الفعل خير؛ لأنك تريد مصلحته[3].
وفي مثل هذا يقول القائل:
لعلَّ عَتْبك محمودٌ عواقبُه ♦♦♦ وربَّما صحَّت الأجسامُ بالعللِ
وإذا نظرتَ حولك وتأملت لاستخرجت أمثلة على ذلك.

ثانيًا: كثيرًا ما يقع أن يحبَّ الإنسانُ شيئًا من أمور الدنيا، ويُلحَّ فيه، وليس له فيه خيرة ولا مصلحة، فتكون العاقبة سيئة.
قال ابن هرمة، فأحسن:
وكَم مِن طالبٍ يَسْعى لأمرٍ ♦♦♦ وفيه هَلاكُه لو كان يَدْري
والعكس؛ قد يفعل الإنسان شيئًا من الأمور العادية، ويقول: ليتني لم أفعل، أو ليت هذا لم يحصل؛ فإذا العاقبة تكون حميدة؛ فحينئذ يكون كَره شيئًا وهو خير له، وهذا واقعٌ مشاهَد؛ ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾، ويقول الله تعالى: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾.

قال العلامة:" السعدي" رحمه الله:{ وهذه الآيات عامة مطَّرِدة، في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة؛ أنها خيرٌ بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة؛ فهي شر بلا شك.
وأما أحوال الدنيا فليس الأمر مطَّرِدًا، ولكن الغالب على العبد المؤمن أنه إذا أحب أمرًا من الأمور، فقيَّض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه - أنه خير له، فالأوفقُ له في ذلك أن يشكر الله، ويجعل الخير في الواقع؛ لأنه يعلم أن الله تعالى أرحمُ بالعبد من نفسه، وأقدرُ على مصلحة عبده منه، وأعلم بمصلحته منه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾، فاللائق بكم أن تتمشَّوا مع أقداره، سواء سرَّتكم أو ساءَتكم}.[4].

وقال العلامة:" ابن القيم" رحمه الله:{ ومن أسرار هذه الآية: أنها تَقتضي من العبد التفويض إلى مَن يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يختاره له ويقتضيه له؛ لما يرجو من حسن العاقبة.
ومنها: أنه لا يقترح على ربه، ولا يختار عليه، ولا يسأله ما ليس له به علم، فلعلَّ مَضرَّته وهلاكَه فيه وهو لا يعلم؛ فلا يختار على ربه شيئًا، بل يسأله حُسن الاختيار له، وأن يُرضيَه بما يختاره، فلا أنفعَ له من ذلك}.[5].

ثالثًا: دوكينز ملحد؛ فلا غرابة إذن أن يُقرر: "الأشياء السيئة تحدث؛ لأنها أشياء تحدث"، ويتساءل: "لماذا يحدث كل شيء؟!"، و"أن الكون لا يملك عقلًا"؛ لينكر وجود الخالق، وأنه لا حكمة من وراء وجود هذا الكون، فلا بَعث ولا معاد، وإنما هي هذه الدار فقط!!؟.
فيُقال: قد بيَّن جل وعلا: أن الذين يظنون أنه خلق الخلق باطلًا، لا لحكمة هم الكفار، وهددهم على ذلك الظن الكاذب بالويل من النار؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾، وقوله: ﴿ بَاطِلًا ﴾: أي عبثًا لا لبعث وجزاء.
وبين جل وعلا: أنه لو لم يبعث الخلائق، ويُجازِهم لكان خلقُه لهم أولًا عبثًا، ونزَّه نفسه عن ذلك العبث سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علوًّا كبيرًا؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ ، فقوله: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ ﴾، أي: تنزَّه وتعاظم وتقدس عن أن يكون خلقَهم لا لحكمةِ تكليفٍ وبعث، وحسابٍ وجزاء.
وهذا الذي نزه تعالى عنه نفسَه نزهَه عنه أولو الألباب، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾؛ فقوله عنهم: ﴿ سُبْحَانَكَ ﴾؛ أي: تنزيهًا لك عن أن تكون خلقتَ هذا الخلق باطلًا، لا لحكمة تكليف وبعث، وحساب وجزاء.
كما يخبر الله عز وجل: أنه ما خلق السموات والأرض إلا خلقًا متلبسًا بالحق، وقد جاء هذا موضَّحًا في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾.
والحق ضد الباطل، ومعنى كون خلقه للسموات والأرض متلبسًا بالحق: أنه خلقهما لحِكَم باهرة، ولم يخلقهما باطلًا ولا عبثًا ولا لعبًا، فمن الحق الذي كان خلقهما متلبسًا به: إقامة البرهان على أنه هو الواحد المعبود وحده جل وعلا، كما أوضح ذلك في آيات كثيرة لا تكاد تُحصيها في المصحف الكريم، كقوله تعالى في "البقرة": ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ ، ثم أقام البرهان على أنه هو الإله الواحد بقوله بعده: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾
وقد بين جل وعلا: أن من الحق الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، خلقًا متلبسًا به تعليمه خلقه: أنه تعالى على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علمًا، وذلك في قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [6].

ثانيًا - استدلاله على بعض الظواهر وتفسيرها بالعلوم المادية:
ويَمضي دوكينز في استدلاله على بعض الظواهر، وتفسيرها بالعلوم المادية التجريبية، ولا يردها إلى خالقها وموجدها؛ ليضعف الصلة الإيمانية بالخالق سبحانه، ويثير الشكوك في النفوس، وهذا هدف الأكبر من كتابه هذا، ومن أمثلة ذلك: حديثه عن الفحم، حيث قال في:"سحر الحقيقة"ص 147): "وفي ظل ظروف ملائمة، وعلى مدى ملايين السنين، يتضاعف كوم السماد العضوي ويتحول تركيبه؛ ليصبح في النهاية فحمًا، ومع تزايُد الوزن فوقه أكثر وأكثر، يتحول الفحم إلى وَقود أعلى كفاءة من كومة السماد، وعند إشعاله يعطي حرارة أكبر بكثير".

فلو سلَّمنا بما ذكره عن الفحم، وأنها حقيقة علمية، فهل هذا ينفي أن الله هو: خالق كل شيء، ومهيِّئ أسبابه، والفحم من خلق الله، كغيره من المعادن التي في باطن الأرض، وهي من نعم الله التي أنعمها على عباده، فهذه الأرض أودع الله فيها من المصالح والمعادن شيئًا: لم نستطع الوصول إليه حتى الآن، قال تعالى: ﴿ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ﴾؛ أي: للخلق لكي يَستقروا عليها؛ لأن وضع الأرض لهم على هذا الشكل العظيم، القابل لجميع أنواع الانتفاع، فتكون لهم مهادًا وفراشًا يبنون بها، ويحرثون ويغرسون ويحفرون، ويدفنون الأموات، ويسلكون سُبلها فجاجًا، وينتفعون بمعادنها وجميع ما فيها، مما تدعو إليه حاجتهم، بل ضرورتهم، من أعظم الآيات وأكبر الآلاء التي هي النعم، ولذا قال تعالى بعده: ﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [7].

ثالثًا - يدَّعي أن القرآن لم يذكر شيئًا عن الذرة (الأشياء بالِغة الصِّغر):
فيقول في كتابه "سحر الحقيقة" (ص 100): "على أن الذرات أصغرُ حتى من البكتيريا بمدًى كبير، والعالم بأكمله مصنوع من أشياء دقيقة على نحوٍ يتعذَّر تصديقه، أشياء بالغة الصغر، حتى إنه يستحيل رؤيتها بالعين المجردة، حتى الآن لا وجود لأساطير، أو حتى لما يقال: إنها كتب مقدَّسة، يعتقد بعض الناس حتى وقتِنا الحاليِّ أنها جاءت إلينا من إلهٍ كلِّيِّ المعرفة، ولم تذكر تلك الكتب شيئًا عنها على الإطلاق!".
كما يعلن دوكينز عجز ما لديه من عِلم هو وغيره، فيما يتعلق بالأشياء بالِغَةِ الصغر!، فيقول في كتابه "سحر الحقيقة"ص 96 - 97): "هل تساؤلنا عن تَجزئة الموادِّ أصغر فأصغر انتهى عند هذه الجسيمات الثلاثة: الإلكترونات، البروتونات، والنيوترونات؟ كلا - حتى البروتونات والنيوترونات توجد أشياء بداخلها؛ إنها تحتوي كذلك على أشياء أصغر، تسمى الكواركات، لكنني لن أتناولها بالحديث في هذا الكتاب، وليس ذلك بسبب اعتقادي أنك لن تفهمها؛ بل إن السبب أنني شخصيًّا لا أفهمها!.
ونحن هنا ننتقل إلى عالم عجيب من الغموض، ومن الضروري أن نعترف عندما نصل إلى حدودِ ما نفهمه، وهذا لا يعني أننا لن نَفهم هذه الأشياء أبدًا، ومن المحتمل أن نفهمها، فالعلماء يَعملون عليها بكل أمل في تحقيق النجاح، لكن يتعيَّن علينا أن نعرف أن ثمة أمورًا لا نفهمها، ونبيِّن ذلك لأنفسنا قبل أن نبدأ بالعمل عليها، ويوجد علماء يفهمون على الأقل بعضَ الأمور في أرض العجائب الخاصة بالأشياء بالغة الصغر".

والرد عليه، وتكذيبه من القرآن الكريم؛ فالله عز وجل كامل العلم، كامل الحكمة: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾، لا يَخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، في أي وقت كان، وأيِّ محل كان؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾، وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾، قال تعالى: ﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ ، وقال تعالى: ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾، وقال تعالى: ﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾.
قال الشيخ:" الشعراوي" رحمه الله: { إذًا فهناك ذرة، وهناك أصغر من الذرة، و﴿ أَصْغَرُ ﴾ هذه أفعلُ تفضيل، ولا يوجد أصغر إلا إن وجد صغير، إذًا فهناك ذرة، وهناك صغير عن الذرة، وهناك أصغرُ من الصغير، فهناك إذًا ثلاث مراحل، فإن فتَّتوها فلنا رصيد في القرآن يقول بالصِّغر، فإن فتَّتْتم المفتَّت فلنا رصيدٌ في القرآن بأصغر؛ لأن كل أصغرَ لا بد أن يَسبقه صغير، وإن كنت ستُفتِّت المفتَّت فما زال عندنا رصيدٌ من القرآن يَسبق عقولكم في الابتكار}.[8].
فقد بين الله تعالى في آيات كثيرة جدًّا: أنه لا يخفى عليه شيء؛ كقوله: ﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ﴾، وقوله: ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾، وقال تعالى إخبارًا عن لقمان فيما وعظ به ابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾... إلى غير ذلك من الآيات.
قال العلامة:" الشنقيطي" رحمه الله:{ ولا شك أنه جل وعلا عالمٌ بكل أسرار أهل السماء والأرض وعلانِيَاتهم، لا يَعزب عنه مثقال ذرة في السماء، ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}.[9].
أما دوكينز، فيقصد بالذرة التي لم تُذكر في القرآن: ما يتعلق بالأبحاث والكشوف العلمية!!؟.
نقول لدوكينز: إن علم الإنسان بالذرَّة مِن فضل الله عز وجل، حيث علَّمَنا ما لم نكن نعلم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾، ثم هو: علم قاصرٌ باعتراف دوكينز، وصدق الله العظيم:﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾، والله أعلم.

لطيفة: قصة تبين عجز دوكينز:
ثم لو جئنا له بما في القرآن الذي هو: ظاهرٌ لا لبس فيه؛ بل ربما اعترف به علماء الطبيعة من جلدته، لراغ روغان الثعلب!!؟.
فدوكينز له قصة مع بعض الفتيات المسلمات، أخبروه بأن هناك ظاهرةً في البحار تظهر أن الماء المالح لا يمتزج بالماء العذب؛ أي: بينهما حاجز، والقرآن الكريم فيه قوله تعالى: ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ﴾، لم يتجاوز في رده على قوله: أنت تظنين أن القرآن مصدر جيد للعلم؟، فكان جواب الفتيات كلهن: نعم، نعم[10].
ولا أجد في بيان ذلك أوضح مما سطره العلامة:" الشنقيطي" رحمه الله عند قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ﴾، حيث قال: "اعلم أن لفظة: مرج، تطلق في اللغة إطلاقين:
الأول: مرج بمعنى: أرسل وخلى، من قولهم: مرج دابته إذا أرسلها إلى المرج، وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب؛ كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وكانَتْ لا يَزالُ بها أنيسٌ ♦♦♦ خِلالَ مُروجِها نعَمٌ وشَاءُ
وعلى هذا، فالمعنى: أرسل البحرين وخلاهما لا يَختلط أحدُهما بالآخر.

والإطلاق الثاني: مرج بمعنى: خلط، ومنه قوله تعالى: ﴿ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ﴾، أي: مختلط، فعلى القول الأول: فالمراد بالبحرين الماءُ العذب في جميع الدنيا، والماء الملح في جميعها.
وقوله: ﴿ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ ﴾؛ يعني به: ماء الآبار والأنهار والعيون في أقطار الدنيا.
وقوله: ﴿ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾؛ أي: البحر الملح، كالبحر المحيط وغيره من البحار التي هي مِلح أجاج، وعلى هذا التفسير فلا إشكال.
وأمَّا على القول الثاني بأن مرج بمعنى خلط، فالمعنى: أنه يوجد في بعض المواضع اختلاطُ الماء الملح والماء العذب في مجرى واحد، ولا يختلط أحدهما بالآخر، بل يكون بينهما حاجزٌ من قدرة الله تعالى، وهذا محقَّق الوجود في بعض البلاد، ومن المواضع التي هو واقعٌ فيها المحلُّ الذي يختلط فيه نهر السنغال بالمحيط الأطلسي بجنب مدينة سان لويس، وقد زرتُ مدينة سان لويس عام ستٍّ وستين وثلاثمائة وألف هجرية، واغتسلت مرةً في نهر السنغال، ومرة في المحيط، ولم آتِ محلَّ اختلاطهما، ولكن أخبرني بعض المرافقين الثقات أنه جاء إلى محل اختلاطهما، وأنه جالسٌ يَغرف بإحدى يديه عذبًا فُراتًا، وبالأخرى مِلحًا أجاجًا، والجميع في مَجرًى واحد، لا يختلط أحدهما بالآخر، فسبحانه جل وعلا ما أعظمه، وما أكمل قدرته!
وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية، جاء موضحًا في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في سورة "فاطر": ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ﴾}؛ انتهى كلامه[11].
ثم إنهم الآن رصَدوا ظاهرة يطلقون عليها: ظاهرة الهالوكلاين أو تَمازُج الملوحة (Halocline)، عندما يطفو الماء العذب فوق الماء الملح.
ثم يذهب دوكينز في مكان آخر: يحاول فيه الرد بطمس الحقائق، فيقول:
{ الناس الذين تحدثتُ إليهم يظنون أن القرآن مصدر للمعلومات العلمية، أفضل من البرهان! كمثالٍ قالوا لي: إن الماء المالح والماء العذب لا يمتزجان؛ لأنَّ القرآن أخبرهم بذلك!! مع الأسف كان يَجب أن أخبر المعلِّمة: من فضلك: اجلبي قليلًا من الماء المالح، وقليلًا من الماء العذب، وامزجيهما وانظري ماذا سيحدث؟، فضجَّت القاعة بالتصفيق له"[12]!!؟.
إنه:" التقليد للكبراء دون إعمالٍ للعقل!!؟".
ودوكينز لم يَذكر أي شيء عن هذه الظاهرة التي في البحار، إنما أتى بشيء خارجٍ عن الظاهرة المطروحة، والسبب في عدم ذِكر تجربته أمام الفتيات هو: عِلمه أنها لا تَصلح أن تكون دليلًا لرد ما جاء في حواره مع الفتيات المسلمات، فراوَغ كعادته.

رابعًا - اعترافه بعجز علومه عن تفسير بعض الظواهر، ومكابرته في ردها إلى خالقها عز وجل:
ثم لما جاء في نهاية كتابه: اضطرَّ إلى بيان أن هذه المعجزات - التي يرجعها دائمًا إلى التفسير العلمي المادي - قد تعجز علومه عن التمكن من كشف حقيقة بعض الظواهر من حوله الآن، فلجَأ لتغطية ذلك العجز أو الفشل، إلى الدعوة إلى مواصلة العمل؛ حتى نتمكن من فَهم هذه الأمور، مع تمسكه بعدم تسميتها بالمعجزة، أو ذكر أن لها خالقًا يتصرف فيها! فيلجأ إلى المراوغة.
وإليك ما قاله في "سحر الواقع":{ وكلما أمعنت التفكير في الأمر: تأكدت أكثرَ أن الفكرة الخاصة بأي معجزة فوق الطبيعة مجرد هُراء!، وإذا ما ظهر شيء ما بدا أنه غيرُ قابل للتفسير العلمي: تستطيع أن تستنتج بمنتهى الاطمئنان واحدًا من أمرين: إما أنه لم يَحدث في الواقع (الملاحظ أخطأ، أو كان يكذب، أو كان ضحية خدعة)؛ أو أن لدينا قصورًا من نوع ما في علومنا الراهنة.
وإذا ما واجهت علوم هذه الأيام بملاحظةٍ أو نتيجة تجريبية: تعذَّر عليها تفسيرها، حينئذ لا ينبغي علينا أن نَنعَم بالراحة حتى نقوم بتطوير علومنا؛ كي تتمكن من توفير التفسير الصحيح.
وإذا تطلب ذلك نوعًا جديدًا جذريًّا من العلوم؛ عِلمًا ثوريًّا بالغ الغرابة، حتى إن العلماء القدماء لا يسلِّمون به كعلم إلا بشق الأنفس، فلا ضير على الإطلاق من ذلك أيضًا؛ فقد حدث هذا في عهود سابقة، بيد أن عليك ألا تكون كَسولًا بما يكفي، منهزمًا بما يكفي، جبانًا بما يكفي - لنقول: "لا بد أنه وضعٌ فوق طبيعي"، أو "لا بد أنها معجزة"! بدلًا من ذلك فلتقل: إنه وضع محيِّر، غريب، إنه تحدٍّ يجب علينا أن نرتفع لمستواه.
وسواءٌ ارتفَعنا لمستوى التحدي - باستقصاء الحقيقة من المشاهدات، أو عن طريق توسيع مجالات علومنا في اتجاهات جديدة ومثيرة - فإن الاستجابة الصحيحة والشجاعة لأي تحدٍّ كهذا تتمثَّل في مصارعته وجهًا لوجه.
وحتى نجد إجابة مناسبة لهذا الغموض، علينا أن نقولها بصراحة تامة: "هذا شيء لم نتوصل لفهمه حتى الآن، لكننا نعمل عليه"، في الحقيقة هذا هو الشيء الوحيد الواجب عمله.
المعجزات، والسحر، والأساطير، باستطاعتنا أن تبعث على التسلية، ولقد تسلينا بها على طوال صفحات هذا الكتاب}:" سحر الواقع": (ص 272، 273).
دوكينز ينكر الأمور الغيبية التي لم نرها ولم نُشاهدها، ويجعلُها من الأساطير، التي تبعث على التسلية؛ لأن عقله القاصر المقصِّر لم يهتد إليها، فكذَّب بما لم يُحِط بعلمه، ففسد عقله، ومرجَت أحلامه، والله عز وجل يقول: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾، فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر؛ لأنه تصديق مجرَّد لله ورسله، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده، أو لم يشاهده، وسواء فهمه وعقَلَه، أو لم يهتدِ إليه عقلُه وفَهمه.
وهنا يأتي العلامة:" السعدي" رحمه الله؛ ليبين لنا حال هذا الرجل وأمثالِه، فكلام هذا الرجل لا يخرج عن كلام أمثاله من أهل الإلحاد والمشكِّكين، وإن اختلفَت الأسماء والجنسيات، والألسنة والأمكنة والأزمنة؛ لذا تجد رد الشيخ السعدي رحمه الله عليهم، كأنه يرد على دوكينز خاصة، فقال:
{ إن إثباتهم لعلوم الطبيعة التي عرَفوها ووصَلَت إليها معارفهم، إثباتٌ قاصر لم يصلوا إلى غايته وحقيقته، فلم يصلوا إلى خالق الطبيعة ومبدِعها، ولم يعرفوا المقصود من نظامها وسببيتها، فأثبتوا بعضَ السبب، وعَمُوا عن المقصود، وهم في عملهم ذا حائرون مترددون، لا تَثبت لهم قدمٌ على أمر من الأمور، ولا تثبت لهم نظرية صحيحة مستقيمة، فهم دائمًا في خبط وخلط وتناقض، وكلما جاءهم من البراهين الثابتة ما لا قِبَلَ لهم به قالوا: هذا من فلتات الطبيعة}.[13].
وقال أيضًا، وهو يذكر صنيع هؤلاء في ردِّهم على الرسل:
{ وأعداؤهم المكذبون برسالاتهم: ليس عندهم ما يرد هذه الأمور العظيمة إلا مجرد استبعادات استبعدوها بعقولهم القاصرة، وآرائهم الكاسدة، يقولون: كما أن هذه الأمور متعذرة على قُدَر المخلوقين، فكذلك هي متعذرة على الخالق.
هذا حاصلُ ما ردُّوا به ما جاءت به الرسل، ولم تزَل هذه الطائفة الخبيثة في نموٍّ وازدياد حتى طمَّ بَحرُهم في هذه الأوقات الأخيرة، وانسلخوا عن أديان الرسل من جميع أمور الغيب بهذه الشبهة الباطلة، ونشأ الإلحاد، وطغى الماديون الذين ينكرون ما لم تصل إليه عقولهم}؛ انتهى المراد من كلامه[14].
وهنا تحذير من الاغترار بدعوة دوكينز التي مفادها: "عندما يظهر شيء ما بدا أنه غير قابل للتفسير العلمي، علينا ألا نرجعه إلى أنه معجزة - أي: لا نرده إلى خالق الكون سبحانه - بل نقول: " إنه وضع محيِّر غريب، مع مُواصلة البحث!!؟"، فهذا حال الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية؛ لأن عقولهم القاصرة المقصرة: لم تهتدِ إليها، فكذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ففسَدَت عقولهم، ومرجت أحلامهم.
أما المؤمن فقوله:" إنه يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء شاهده أو لم يشاهده، وسواء فهمه وعقله، أو لم يهتد إليه عقله وفهمه؛ وبذلك زَكَت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله عز وجل".

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

بقلم الأستاذ:" ساعد عمر غازي".
جزاه الله خيرا.
[1] ينظر: حوار مع صديقي الملحد (ص 15).
[2] ينظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (2/ 109).
[3] ينظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (10/ 1002، 1003).
[4] تيسير الكريم الرحمن (ص 97).
[5] التفسير القيم (ص 148).
[6] ينظر: أضواء البيان (6/ 169)، (7/ 211، 436).
[7] ينظر: "تيسير الكريم الرحمن" (ص 829)، "أضواء البيان" (7/ 492، 493).
[8] تفسير الشعراوي (4/ 2246).
[9] أضواء البيان (2/ 262).
[10] المصدر: مقطع بعنوان: القرآن يفضح جهل زعيم الملحدين ريتشارد دوكينز.
[11] أضواء البيان (6/ 64، 65).
[12] المصدر: مقطع بعنوان: القرآن يفضح جهل زعيم الملحدين ريتشارد دوكينز.
[13] الفتاوى السعدية (ص 37).
[14] الفتاوى السعدية (ص 83).