جادلونا كثيرا عن وجودنا و عن تصميمنا و أبوا إلا أن يبطلوا قاعدة أن لكل موجود موجد و لكل تصميم مصمم. و أصروا على أن الوجود أزلي و أن وجوده ذاتي و تصميمه ذاتي كذلك و اقتصروا في إثبات ذلك على عدم العلم ، مع أن عدم العلم لا يفيد مطلقا العلم بالعدم، فالعلم الحديث لا يناقش الأشياء من أوجدها و صممها و لا لماذا أوجدها و صممها، و إنما يناقش في الكيفية التي وُجدت عليها الأشياء.
و خلافنا معهم كان حول : هل هذه الأشياء أزلية أم حادثة و هل هي صنعة محكمة أم خبط عشواء. و نحن على يقين تام بأن الأشياء حادثة فالأرض حادثة و ما عليها حادث و هذا ما يهمنا في الدلالة على أن هناك خالق جل و علا. و على يقين أيضا بخلافهم في أن الأشياء لم توجد على هيئة ناقصة بل هي تامة الصنع و أن هذه هي القاعدة و ما شذ عنها لا حكم له فالإنسان في أحسن تقويم و كل نوع على هذه الأرض حيوان أو طير أو سمك أو نبات أو حشرة أو حتى كائنات جزيئية مجهرية الكلّ وُجد تامّاً لا ينقصه شيء و لم يتطوّر من شيء ناقص. و وجود تطور يفترض وجود خالق مطوّر أكثر من لو أن الأشياء وُجدت على حالها بالصدفة العمياء فيستحيل أن يكون هناك تطوير دون علم بما يلزم للتطور من تفاصيل خَلقية لاحقة يتم بها الصنع و دون قدرة فائقة على التطوير.

أبوا و أصرّوا أو أبى بعضهم و أصر على الكفر بالموجد المصمم بحجة واحدة فقط و هي عدم العلم و العجز عن الإدراك فحالتهم لاأدرية في الواقع و ليست إلحادا بمعنى الإيمان و الإعتقاد ، و عليهم بعد هذا أن يثبتوا لنا كيف أمكن أن يكون لكل شيء قَدْر و نهاية وكيف يمر عبر مراحل من بدايته إلى نهايته، من ضَرب له آجالا محددة ؟ فالإنسان يولد ثم يكون طفلا و ينمو عقلا و جسدا و إحساسا و تنتهي طفولته ليكون شابا ثم كهلا ثم تنتهي كهولته ليكون شيخا .. و هكذا كل الكائنات تنمو من الصغر إلى الكبر فهي لا تظل على حال واحدة بل تنتقل من حال إلى حال و لكل حال مقداره و مدته و نهايته و أجله الذي ينتهي عنده .. فهل الطبيعة هي التي حددت للإنسان و غيره من الكائنات أجلا لكل مرحلة من حياته و نهاية محددة لوجوده ؟

(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ). الروم - 54

ينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق، حالا بعد حال، فأصله من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم يصير عظاماً، ثم تكسى العظام لحماً، وينفخ فيه الروح، ثم يخرج من من بطن أمه ضعيفاً نحيفاً واهن القوى، ثم يشب قليلاً قليلاً حتى يكون صغيراً، ثم حدثاً، ثم مراهقاً، ثم شابا وهو - القوة بعد الضعف - ثم يشرع في النقص فيكتهل، ثم يشيخ ثم يهرم وهو - الضعف بعد القوة - فتضعف الهمة والحركة والبطش، وتشيب اللمة وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة، ولهذا قال تعالى: { ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء}. تفسير ابن كثير