سألني أحد طُلابي أن أكتب تعليقاً على كِتاب ابن اللحَّام ( ت: 803هـ ) رحمه الله تعالى ، الموسوم ب ” القواعد والفوائد الأصولية “. وهذا الكِتاب عند الإنصاف من أهمِّ الكتب الأُصولية التي يُمكن تربية المَلكة الُأصولية من خِلالها ، سواء بالمدارسة لقواعده أو بإستظهار مسائلِه وتدبرها بالقلب ، للوقوف على طريقته في التلخيص وتخريج الفروع على الأصول .

ففوائد ابن اللحَّام روضةٌ لمن أراد أن يرتع ، وينبوع لمن أراد أن يرتوي من عِلم الأصول ، وليس الخبر كالمعاينة!.
لكن من باب تصحيح العصف الذهني ، ومن باب نسخ الأخفِّ بالأثقل كما يُقرِّره الأُصوليون ، فلا أنصح بمدارسة هذا الكِتاب قبل حفظ متن في علم الأصول وإتقانه .

وقد كان لي تعليقات قديمة مُختصرة على حاشية هذا الكتاب عند إشتغالي بالتدريس ، وقد ضمَّنُتها فوائد ولطائف وبعض الإستدراكات الفقهية والأصولية والمنهجية . وقد سَنحت لي الفرصة اليوم لتفريغها في مقالة لطيفة ليمكن الإنتفاع بها ، ممن أراد مراجعة كتاب ابن اللحام والإفادة منه .

ويجب التنبيه إلى أنَّ كُّل كتب الُأصول لا يمكن تجريد فوائدها إلا بالصبر وحبس النفس على المِران والتكرار ، لإستغلاق كثيرٍ من مسائلها وصعوبة فهمها إلا بتوفيق من الله تعالى ، وقد ثبت في المرفوع : ” ثوابكِ على قدر نِصبك ” متفق عليه .

1-صنَّف ابن اللحام كتابه بعد النظر في زُهاء مِئة كتاب فقهي وأصولي ، ويُعرف هذا بإستقراء مباحثه ومسائله وفرائده .
فقد حقَّق مسائل دقيقة من كتب قديمةٍ ، بعضها لم يُطبع إلى اليوم ، والبعض الآخر نادر لا يكاد يعرفه إلا ثُلَّة من أهل العلم . والمشتغل بالفقه يستفيد من هذه الكثرة بمعرفة أسماء المصنفات وأحوال تأليفها ومؤلفيها.

2-في الكتاب سِتُ وستون قاعدة أصولية ، وزُهاء ثماني مائة مسألة فقهية فرعية يُؤسِّس لها ابن اللحام بقواعد علمية جامعة مانعة ، وهي مُنتخبة من كتب المذاهب المتبوعة ،كما أنه نقل عن فقهاء الصوفية بعض المسائل. ويبدو أن بعضها كانت مُسوَّدات للمناظرة وتأصيل الدروس والفتاوى .

3-ابن اللحام يكثر من النقل عن المصنفات الفقهية الحنبلية ، وطريقته في تخريج الفروع على الأصول أنه يقوم بجرد عشرة كتب فقهية مثلًا في المذاهب الأربعة، ويستخرج منها مطالب معينة ، ثم يضع لها موضوعاً جامعاً يلمُّ شتاتها ، مثل التكليف أو الواجب أو النهي أو الإكراه ، ولا يستدلُّ لها في الغالب ، وهذا موضع نقد في نظري ، ولو إستدلَّ لكان الكتاب كاملاً في بابه . ولعله ترك الإستدلال عمداً ليتمكَّن الباحث من تدريب ملكته على الإستدلال وإختيار المناسب من الأدلة على حسب حاله .

4-ابن اللحام ينقل مسائل وأحكام عن الظاهرية والمذاهب الأربعة وعن الأشاعرة ، كما في القاعدة التاسعة والخمسين : هل العبيد يدخلون في الخِطاب ؟ ، فقد نقل حكماً فيها عن أبي بكر الباقلاني ( ت: 402هـ ). وكذلك نقل عن بعض المذاهب المهجورة ، وهذا مناسب جداً لتعزيز الملكة الأصولية وربط المسائل بالدلائل ، فيجب التفطُّن لهذا وعدم التعجب ، فهو أسلوب مقصود ، لأن الرجل كان قاضياً ومفتياً ، فهو ضليع في باب الإجتهاد وتأصيل المسائل. وفي الكتاب نقل لإختيارات ابن تيمية ( ت: 728هـ)رحمه الله تعالى ، ومنها ما لا يُوجد في المطبوع .

5-قال في أوَّل القاعدة الأولى بعد الحديث عن حدِّ الفقه: ” وعلى هذا الحدِّ أسئلة ومؤاخذات كثيرةٌ جداً ليس هذا موضع ذكرها ” . لعله يُشير إلى ما يدخل في الحدِّ وما لا يدخل ، من التعريف والحصر له .
وأساليب حصر الحدِّ من علوم اليونان وأهل الكلام . والُأصوليون يُعبِّرون عنه اليوم بالوصف أو اللقب . ويُشترط لصحة الحدِّ أن يكون مطرداً وجامعاً . وقد نبَّه على هذا الزركشي ( ت: 794هـ) رحمه الله تعالى في” البحر المحيط” .

6-في آخر القاعدة السابعة عشرة نبَّه إلى أن العمل بغلبة الظن مبنيُّ على أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وأشار إلى قاعدة حدِّ الفقه ، وهي القاعدة الأولى في الكتاب .

7-مسألة الإشتباه بين واجبٍ وغيره أشار إليها ابن اللحام في مواضع عديدة من الكتاب ، لكنه لم يُحرِّرها في نظري . فإشتباه الميتة بمذكاة الصحيح أنه يجب ترك الجميع ، لأن الأصل في الذبائح التحريم . وإختلاط الُأخت بالأجنبية ، يجب ترك الإثنتين لأن الأصل في الأبضاع التحريم . واشتباه الماء الطهور بنجس يَحرُم إستعمالهما . هذا هو الراجح في مسألة الإشتباه .

8-قوله : ” يُعمل بالظن في عامة أمور الشرع ” وقد نَقل هذا الحكم عن الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى . لكن هذا الحكم ليس على إطلاقه . فَيقال يُعمل بالعِلم حتى تتعسَّر أسبابه ووسائله ، ثم يُعمل بالظن عند ذلك ، ولا تبرأ الذمة إلا بهذا . والظاهر أن ابن تيمية قال بذلك الحكم لقصد التيسير ورفع الحرج ، لكن فاتَ ابن اللحام التنبيه على ذلك ، فليُحرَّر .

9-مسألة الإكراه وما يتفرع منها من الأحكام . يُستدرك على ابن اللحام أن الإكراه لا يصح تسميته بهذا الحدِّ إلا إذا صاحبه تهديد بالقتل أو الحبس أو أخذ المال ظلماً ، وما سوى ذلك لا يُسمَّى إكراهاً ولابن قدامة رحمه الله تعالى تأصيل قيِّم لحدِّ الأكراه ، يراجع في المغني لأهمِّيته .

10- ساق ابن اللحام أمثلة كثيرة عن العمل بالظن والعمل بالشك ، وقصده من هذا أن طلب اليقين والصحة في كل الأعمال شرطٌ ، ما لم يكن هناك عذر أو ضرورة ، لقول الله تعالى : ” فاتقوا الله ما استطعتم ” ( التغابن: 16 ).
وقد ذكر مسألة طريفة نقلها عن أبي الخَطَّاب الكلوذاني رحمه الله تعالى حيث قال : ” من أُخبر بلصوص في طريقه ، وظن صدق المخبر : لزمه ترك المسير ” .

11-في القاعدة الثانية ساق ابن اللحام أمثلة كثيرة فقهية وأصولية عن معاني التكليف وشروطه ومتى يُثاب المُكلَّف ومتى يُعاقب ومتى يُعذر . وقد ساق في ثنايا أمثلتها الأحكام الوضعية : السبب والمانع والشرط والصحة والفساد والرخصة والعزيمة . وقد ربط بينها ربطاً متيناً ، رحمه الله تعالى .

12-في القاعدة الثالثة ذكر ابن اللحام أمثلة كثيرة على تكليف الناسي وعدم مؤاخذته بذلك . وهو بهذا يُشير إلى الحدِّ الذي ترتفع فيه الأهلية الشرعية أو تنقص عن المكلف ، فيجب التنبه لهذا المطلب ، وقد كرَّر هذه المسألة في كثيرٍ من المسائل .

13- ساق ابن اللحام أمثلة كثيرة عن الصحيح والفاسد ، لكنه لم يُحرِّرها في نظري . فالفاسد هو الباطل عند جمهور العلماء خلافاً للأحناف . والأحناف قالوا الباطل ما كان النهي عنه لذاته ، مثل بيع الخنزير . والفاسد ما كان النهي عنه لوصفٍ ،كبيع الريال بالريالين . وتعريفهم هذا مثل تعريف الفرض والنافلة ، يعني على قاعدته . فلا يُسلَّم لهم هذا . كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في ردِّه عليهم .

14-قال الإمام ابن اللحام في الفرق بين الواجب والفرض: “مترادفان شرعاً ، في أصح الروايتين عن أحمد”. قلت لم يستدل لذلك .
والدليل حديث أبي محيريز أن رجلا من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلاً بالشام يُدعى أبا محمد يقول : إن الوتر واجب ، قال المخدجي : فَرحتُ إلى عبادة ابن الصامت فأخبرته فقال عبادة : كذب . يعني أخطأ ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” خمس صلوات كتبهن الله على العباد .. ” أخرجه أبو داود بإسناد صحيح . وكان الإمام أحمد يُفرِّق بين الفرض والواجب تورعاً ، كما نقل عنه ذلك الإمام ابن رجب .

15-في مسألة إمامة الصبي للبالغ . قال ابن اللحام : “وروي عن أحمد أنه توقَّف في هذه المسألة ” .

قلت : المسائل التي توقف فيها الإمام أحمد ثمانون مسألة ، بعضها في أحكام الطهارة وبعضها في أحكام الصلاة وبعضها في أحكام النكاح والطلاق ، وبعضها في أحكام البيوع والشهادات .
وهي منثورة في المغني لابن قدامة ، والإنصاف للمرداوي ، وغيرهما . وقد جَمعها بعض المعاصرين في كتاب واحد. ويُستفاد منها أن التوقف ليس بقول في المسألة ، بل هو تركٌ للقول فيها .
وأن الإمام أحمد رحمه الله إذا سئل عن مسألة فتوقَّف ، فإن مذهبه فيها التوقف .

16-ذكر ابن اللحام في قواعده تحقيقات لغوية مهمة لها تعلُّق بعلم الأصول ، وهي عديدة في ثنايا الكتاب ، من أهمها ما جاء في القاعدة الثالثة والثلاثين عن معاني الإلتصاق ، وفيها مبحث جيِّد عن معاني الباء ،وكذلك في القاعدة التاسعة والثلاثين ، فقد نقل عن أبي حيان رحمه الله تعالى من كتابه ” إرتشاف الضَّرَب ” مسألة هل الكلام يكون من ناطق واحد ؟ ، فلتراجع .

17- المسائل الفقهية الواردة كفروع للقواعد الأصولية يُمكن مذاكرتها ومدارستها من كتب المذاهب المعتمدة كالمغني لابن قدامة ، وبدائع الصنائع للكاساني ، وبداية المجتهد لابن رشد ، والأُم للشافعي ، والسيل الجرار للشوكاني ، ومُعين الحكام لابن جماعة ، ومختصر إختلاف الفقهاء للطحاوي ، والإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة ، والمُحلَّى لابن حزم ، والمِعيار المعرِب للونشريسي .

18- الخِلاف في الروايات عن الفقهاء يمكن جوابه عن طريق الجمع بين المرويات ومعرفة الخاص والعام والناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد ، ونحو ذلك .
ومن أمثلة ذلك : القصة التي وردت عن عمر رضي الله عنه في الرجل الذي وجد آخراً يزني بامرأته ، وقول عمر له: إن عاد فعد ! .فلا يصح الإعتماد على هذه الرواية في جواز إقامة الحدود دون إذن الإمام ، بل هي تدل على جواز الدِّفاع عن الحريم والأهل ، ولعله لم يقصد قتله .
ولو كان في هذه الرواية حجة لما قال عليُّ رضي الله عنه بعدها فيمن قتل رجلاً وجده مع امرأته :” إن لم يأت بأربعة شهداء فَليعط بِرُمَّته” . أخرجه مالك في الموطأ، وهو مخرج عند البيهقي والشافعي .
وقد ترجم البخاري لهذه المسألة فقال : باب من رأى مع امرأته رجلاً فقتله .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى:” وقد اختلف فيه ، فقال الجمهور عليه القَوَد ، وقال أحمد وإسحاق: إن أقام بينة أنه وجده مع امرأته هُدر دمه، وقال الشافعي يسعه فيما بينهُ وبين الله قتل الرجل إن كان ثيباً وعلم أنه نال منها ما يوجب الغُسل ، ولكن لا يسقط عنه القَود في ظاهر الحكم” .

19- يوجد في ثنايا الكتاب فتاوى كثيرة لبعض الصحابة رضي الله عنهم ، وفتاوى الصحابة ليست مُلزمة في القول الراجح ، إلا إذا أسندوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
أما الرأي المجرد فلا يُعدُّ حجة على الإطلاق ، وفي كتب الأصول ضوابط دقيقة لها ، فلتنظر في مظانها .

20- بعض مسائل الكتاب التي ذكرها الشيخ وأصَّل لها ، لا ثمرة لها في الواقع ولا يترتب عليها عمل ، ولا يضرُّ الجهل بها ، كمسألة مبدأ اللغات ، ومسألة المباح هل يدخل في التكليف ؟ ،ومسألة حُكم الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع ، وحكم الإجتهاد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم . لكن مدارستها مفيدة لا سِّيما عند الإستطراد في مباحث العلم والمنطق والردِّ على أهل الفلسفة ، ونحوهم من أهل الشُّبه ، وهم كثيرون في عصرنا.

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

د/ أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بمعاهد القوات البرية

__________________

مؤسِّس مُدوَّنة المتوقِّد التأصيلية
http://ahmad-mosfer.com/