المشهد الأول (يحدثُ كل يوم!):

تقف هذه القَرَوِيَّةُ الفقيرة، وهي تحمل رضيعها على كتفها، في انتظار عرضه على الطبيب، سعيدةً بمعرفتها لعاملة النظافة، التي وفّرت عليها الانتظار في الصف، تشعر بذكائها.. فتراودها ابتسامة، وتخفيها خشيةَ الناظرين!

ولأن المكتب أقربُ للطبيب من سرير الكشف، فقد ألقت الرضيع على المكتب، وحينئذٍ تحوّل هذا الوجه الجميل إلى تجويف أسودَ يصفعك بالصراخ .. استغلالاً للموقف يحاول الطبيب فحص اللوزتين، قبل أن يسمع شكوى الأم، يسألها عما حدث فتسرد عليه، ولا أشك لحظةً أنه لم يسمع شيئًا بخلاف الصراخ!

يخبرها الطبيب بالتهاب اللوزتين، وضرورة المواظبة على المضاد الحيوي وخافض الحرارة، ويحذرها من الطعام الملوث، ويوصيها بالاهتمام بالرضاعة، فالأمر بسيطٌ ولا شيء يدعو للقلق.. تكسو وجهها ملامح السعادة، وتغلبها ضحكةٌ خفيفةٌ تخالط شكرها الطبيب، وما أن تحمل وليدها حتى يُبادر بتجفيف دموعه، ويتلفت حوله يتأكد أنه في طريق الخروج، وتنصرف الأم وعلى وجهها ابتسامةٌ عفوية، أقوى من أن تقهرها إرادتها!

تختصر ذاكرتي هذا الموقف في صورةٍ واحدةٍ، في ابتسامة القروية تتحدى شفقة الناظرين، وكأنها نسيت زوجها الذي لم يأتِ معها؛ لأنه لو فعل فلن يجد ثمن الدواء، ونسيت ضعفها الذي يمنعها من الرضاعة الطبيعية، وفقرها الذي يمنعها من شراء اللبن الفاخر، وقلةَ حيلتها التي تمنعها من شراء اللبن المدعَّم، نسيتْ عملها في مهنة زوجها وأمه، حتى تركت ولدها يحبو حيث يشاء، ليسد الرضيع جوعه بكسرة خُبزٍ مُلقاة، تشاركه فيها تلك القطة السائمة، ونسيتْ الليالي الثلاث الأخيرة، وقد قضتها تراهن أن ابنها سيبرأ دون علاج، نسيتْ أو تناستْ كلَّ هذا وابتسمتْ؛ لأنها - رغم ذلك - راهنتْ على الفرس الفائز!!

إنها لا تُحسن تنميق الكلام، لتصف معنى الأمومة، ولن تضرب لكم الأمثال، بالرجل يصبر على التثقف؛ حتى ينال اتزان المثقفين، أو بسهر الليالي لنيل الأماني، أو إتيان العزائم على قدر أهلها، إنها لا تُحسن شيئًا من هذا الكلام، وهذا الكلام أصلاً لا يكفي لتصوير مشاعرها، لكنها ستحكي لكم عن فرحتها حين بدأ يتقلب في بطنها، ومراقبتها لبطنها تكبر يومًا بعد يومٍ، ولهفتها لساعة اللقيا، واللقاء الأول بينها وبين ابنها، والقبلة الأولى التي أهدتها لوجنته، والليالي التي قضاها في حضنها، والسعادة التي أحستها وهي تضاحكه، والنشوة التي أصابتها حين ناداها أول مرة، وغير ذلك كثيرٌ ممَّا يملأ النفس سعادةً وبشرًا!

تحدوني هذه النفس التي انثالتْ بحكايات السعادة، ويدفعني ذلك الوجه الذي انساب بإشراق الابتسامة، إلى النظر في السرِّ الذي يراودني بخفائه ويطارده فضولي، لماذا هذه السعادة؟! وبأي عقلٍ يغض المرء الطرف عن كدر حياته من أجل صفوٍ قليلٍ؟!

المشهد الثاني (حدث ذات يوم!):
«أيها الأصدقاء! لقد أنهيتُ عملي! ففيمَ الانتظار؟!».. «To my friends! My work is done! Why wait?».

كانت هذه الرسالة الأخيرة التي كتبها «جورج إيستمان» رسالةٌ مقتضبةٌ قصيرةٌ وجدها أصدقاؤه بجواره! هذا «وايستمان» - لمن لا يعرفه - هو رجلٌ بلغ غاية طموح أهل الدنيا، فقد كان أول من اخترع اللفافة الفيلمية (roll film)، وكان صنيعُه تمهيدًا لظهور التصوير التليفزيوني، وأول من طوّر كاميرا صغيرة سهلة الحمل وسمّاها كوداك (Kodak Camera)، وأنشأ شركةً لصناعة وترويج هذه الكاميرا، وكان شعار الشركة للمستهلِك «أنت تضغط الزر ونحن نقوم بالباقي!»، لكنَّ الزِّر الأخير الذي اختار «جورج» الضغط عليه كان زناد مسدسه!

هذا «وايستمان» - لمن لا يعرفه - هو رجلٌ أمريكيٌّ تبرع لتطوير العلوم والفنون، حتى صار مثلاً قلَّ في الناس نظيره، فقد تخطتْ تبرعاته بلاده لتصل إلى دول القارة الأوروبية، وشملتْ تبرعاته أغلب الجامعات في الولايات المتحدة، وأنشأ بجامعة بلده مدرسةً للموسيقا، وكلية للطب البشري، وأخرى لطب الأسنان، حتى تخطّتْ تبرعاته المائة مليون دولار بكثير! لكن المبلغ الأخير الذي أنفقه كان ثمن الرصاصة التي سيطلقها على قلبه منتحرًا!

مات منتحرًا وقد كان الناس يقولون: «يا ليت لنا مثل ما أُوتِي»، ونظر الناس في شأنه قبل مماته منتحرًا، فلم يكن ثمَّ شيءٌ يدفعه لذلك إلَّا شيئًا واحدًا يبدو أنه عكّر صفو حياته، كان ألمًا شديدًا أصابه في ظهره لعلةٍ بالعمود الفقاري، فأثَّر ذلك عليه وصار يعاني ألمًا حين يقف ويمشي، هكذا قالوا.. ولا أدري أيصح ذلك سببًا أم لا! وهل يعقل أن ينسى المرء صفو حياته من أجل كدرٍ قليلٍ؟! لا أدري! ولكن ماذا لو التقطتُ الورقة التي تركها «إيستمان»: «لقد أنهيتُ عملي! ففيمَ الانتظار؟!»!

الرضا بما أنجزه المرء في الحياة، مع استشعار معنى الحياة والوعي بالغاية منها، هذه الأمور يطرحها الباحثون كعوامل تساعد في الحماية من الانتحار، لكنّ جماعةً منهم ترى أن الرضا بالمنجزات لا يحمي من الانتحار(1) ، وصدقوا .. فإن من يرضى بما أنجز في حياته دون أن يستشعر لحياته معنىً لذاتها، ولم يعرف لوجوده غايةً لذاته، هذا الراضي سُرعان ما سينقلب منتحرًا لو قام بحساباتٍ ماديةٍ بسيطةٍ تثبت له أنه أنجز ما يريد، ولا داعي لتحمل أي ألمٍ أو عناءٍ ما دام أدَّى ما عليه، إنه أنهى عمله! ففيم الانتظار؟! لو كان رجلاً ناجحًا عمليًّا يحسن الفكر - كجورج إيستمان - لانتحر!

إنه سؤال الغاية «فيمَ الانتظار؟!» .. سؤالٌ أجابته القروية الفقيرة فابتسمتْ، وأجابه الملياردير الأمريكي فانتحر، هذا هو السؤال الذي سنقف معًا نطرق على أبوابه، ونتأمّل في شأن الهلكي على أعتباه، وننظر في فرحة الواصلين المهتدين لجوابه، هذا هو السؤال الذي يسعك أن تنشغل عنه، وتؤجل مواجهته، وتزعم القدرة على الرد عليه، يسعك ذلك ما دمت صحيح الجسم مشغول الوقت مستكثرًا بأصحابك، لكن كل الذي ينقصك - عافاك الله - بعض الألم في ظهرك ليقل انشغالك ولقياك لأصحابك، فيلح عليك السؤال كأنه شريكٌ شحيح، لا يتركك إلَّا أن يظفر منك بجواب، فإمَّا ينصرف عنك بابتسامة، وإمَّا يتركك وبجوارك رسالة انتحار!!

هوامش المقال
1- هذه أمثلة لهذه المنشورات العلمية:
- Haight BK, Michel Y, Hendrix S. Life review: Preventing Despair in newly relocated nursing home residents short-and long-term effects. International Journal of Aging and Human Development 1998; 47(2): 119-142.
- Marnin JH, Gordon LF. Purpose in Life, Satisfaction with Life, and Suicide Ideation in a Clinical Sample. Journal of Psychopathology and Behavioral Assessment 2004; 26(2): 127-135.