" طالب العلم ..بين الاستقلال والتوظيف"

في أحيان كثيرة يظن طالب العلم وغيره بأن مخالفة الأقوال العلمية لآراء المدرسة السائدة في مجتمعه دليل على الاستقلالية العلمية من دون أن يتفطن لأبعاد تتعلق بالسياق الثقافي الذي يمر به المجتمع الذي قد توظف بعض أقطابه استقلاليته لمشروعها وتجعل أقواله ذخيرة فقهية لمنظومة تغريبية تستهدف السياج القيمي والأخلاقي للمجتمع .
لقد كان لدى علمائنا وسلفنا الصالح من الفقه والرؤية الثاقبة ما جعلهم يدركون جيداً
مخططات الطوائف المنحرفة
التي ربما سعت لتوظيف مكانتهم العلمية والشرعية في تمرير مخططاتهم وأجندتهم الخاصة، ولكن نظرتهم الشمولية لواقعهم الفكري والسياسي جعلتهم يتفطنون
لمكر أهل الأهواء
وإحباط مخططاتهم لتوظيف مكانتهم الشرعية والفكرية في تمرير مشروعاتهم الفكرية، ومن ذلك قصة الصحابي عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- الذي أراد أحدهم توظيف بعض آرائه ومكانته العلمية في التأليب على الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه.

جاء رجل حجَّ البيت فرأى قوماً جلوساً؛ فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: من الشيخ؟، قالوا: ابن عمر.
فأتاه، فقال: إني سائلك عن شيء أتحدثني؟
قال: أنشدك بحرمة هذا البيت؛ أتعلم أن عثمان بن عفان فرَّ يوم أحد؟
قال: نعم.
قال: فتعلمه تغيَّب عن بدر فلم يشهدها؟
قال: نعم.
قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟
قال: نعم.
فكبَّر يعني الرجل السائل!!

قال ابن عمر: تعالَ لأخبرك، ولأبيِّن لك عما سألتني عنه.
أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه.

وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه".

وأما تغيّبه عن بيعة الرضوان؛ فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه؛ فبعث عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: "هذه يد عثمان - فضرب بها على يده، فقال: هذه لعثمان".
فقال ابن عمر: اذهب بهذا الآن معك.

فتأمل كيف فطن ابن عمر لمقصد السائل في توظيف شهادته ورأيه في مشروع التأليب على عثمان فزوده بمعلومات وتفاصيل تزيل اللبس وأعلن موقفاً يمنع السائل من توظيف رأيه لمشروعه الخاص .

إن المتأمل للتسويق الإعلامي الكبير لبعض الفتاوى المخالفة للسائد الفقهي في المجتمعات الإسلامية يدرك
أن القضية لا يمكن اختزالها في صورة
"خلاف فقهي"
يمكن مناقشته ومداولته في الأوساط الشرعية المتخصصة،
بل يدرك أن ثمة مخططاً أكبر يستهدف ضرب حواجز الممانعة والمحافظة في المجتمع،
والسعي الحثيث نحو خفض منسوب التدين في المجتمعات الإسلامية،
كل مجتمع إسلامي بحسب درجة تديّنه ومظاهر استقامته.
تقول الباحثة الأمريكية (شيريل برنارد) في تقرير مؤسسة (راند) الشهير الذي جاء
بعنوان (الإسلام المدني الديموقراطي الحلفاء، الموارد، الإستراتيجيات):
"ينبغي التمييز بين مختلف قطاعات التقليديين "الإسلاميين" وتشجيع القطاعات الأكثر قرباً من الحداثة،
من مثل تشجيع المذهب الحنفي مقابل المذاهب الأخرى،
وحثّ أصحاب هذا المذهب على إصدار آراء دينية وعلى ترويجها من أجل إضعاف الأحكام المتأثرة بالوهابية المتخلّفة".
فالبراجماتية الغربية لا تمانع في توظيف
آراء تراثية لضرب منظومة تراثية أخرى
تعتبرها أشد خطراً وهي السلفية التي ينعتونها بالوهابية .
فالتغريب كما يأتي في صورة فيلم سينمائي ومسلسل ترفيهي قد يأتي أحياناً في صورة جبة وعمامة .
في رواية " عيسى بن هشام" للمويلحي يسأل أحد أبطال الرواية متعجبا :
كيف ساغ للمصريين أن يأخذوا بقانون نابليون المخالف للشريعة الإسلامية ؟
فيجيب الآخر بأن المفتي أقسم بالله أنه موافق للشريعة .
وليد الهويريني
شعبان ١٤٣٧