عندما نتطرق لأزمة الثقافة العربية المعاصرة لا نقصد التجريح أو التشهير، بل المقصود عرض لمسيرة النخبة المثقفة التي تضخمت في الإعلام العربي (مصر نموذجا)، وأخذت حيزا وزخما كبيرا، فرصد واقع هذه النخبة يشير إلى أن وراء الأكمة شيئا ماكرا يدبر لهذه الأمة، سواء كان هذا التدبير داخليا أو خارجيا، إلا أن المحصلة أن أكثرية هذه النخبة المثقفة لم تكن على المستوى المطلوب الذي يرضاه الدين والعقل والعرف، وأنها أقحمت المجتمع العربي في أمور منافية لعقيدتنا الصافية وأعرافنا الراقية وتقاليدنا السامية، بل وصدرت لنا من غثاء الغرب الفكري والسلوكي الكثير والكثير، في الوقت الذي كنا في أشد الحاجة لنتعرف على مقومات النهضة العالمية، والاستفادة من خبرات الشعوب المتقدمة في مسيرتها التنموية، في إطار ثوابتنا الدينية الإسلامية الغالية.

«يوسف جبرائيل شاهين» .. مخرج سينمائي مصري نصراني شهير (25يناير 1926-27 يوليو 2008) ولد في الإسكندرية، لأب لبناني كاثوليكي من شرق لبنان من مدينة «زحلة» -أكبر مدينة كاثوليكية في الشرق-، وأم من أصول يونانية هاجرت أسرتها إلى مصر في القرن التاسع عشر.
تخرج من كلية فيكتوريا كوليدچ وحصل منها على الشهادة الثانوية. بعد التحاقه بجامعة الإسكندرية عاما واحدا فقط، سافر إلى أمريكا ليدرس الفنون المسرحية في معهد «باسادينا پلاي هاوس» لمدة سنتين.
أوّل فيلم أخرجهُ كان «بابا أمين» سنة 1950، وأول ظهور له في السينما كَـممثل كان في فيلم «إسماعيل ياسين في الطيران»، وكانت مشاهد قليلة.
وفي عام 1972م ألقى حجراً في الماء الراكد بإخراج فيلم «العصفور» الذي يُحمل مسئولية هزيمة الجيش المصري في حرب يونيو 67 للفساد في المؤسسة السياسية المصرية، واستمر هذا الخط النقدي في العديد من أعمال شاهين ومنها: «عودة الابن الضال» «الأرض» «المهاجر» «باب الحديد» «المصير» «الآخر» «هي فوضى».
شخصية مثيرة للجدل
يعرف عن شاهين صدامه الدائم مع الرقابة والتيار الديني الإسلامي، فيقول شاهين -الذي يعتبر نفسه جزءاً من جيل الليبراليين المصريين-: إنه ما زال يكافح ضد الرقابة المحافظة سواءً من جانب الدولة أو المجتمع.
في فيلمه «باب الحديد» صدم يوسف شاهين -الشهير بجو- الجماهير بتقديمه صورة محببة للمرأة العاهرة، وكان مقررًا أن يحصل على جائزة «أفضل ممثل» من مهرجان برلين السينمائي على هذا الدور، لكن الشك ساور بعض أعضاء هيئة التحكيم في أنه يؤدي فحسب الجانب الخاص بالعرج.
أما الجمهور المصري، فلم يكن بفطرته متجانسا مع هذا المزيج الحي الذي قدمه الفيلم من الواقعية الجديدة، والكآبة، والحياة الجنسية، بل وحتى المقطوعات الموسيقية.
فيلم الناصر صلاح الدين
يقال أن شاهين قدم قصة ملحمة السلطان صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر عن القدس ضد الحملة الصليبية المسيحية رمزًا لملحمة عبد الناصر حول القومية العربية.
كما أن شاهين الكاثوليكي، فضلاً عن الكُتاب اليساريين الذين يعملون معه (عبد الرحمن الشرقاوي، يوسف السباعي، نجيب محفوظ..)، يرون صلاح الدين أيضًا نموذجًا للسلام والتسامح الديني، وليس أيضا المحارب الشديد المراس الذي يدافع عن العقيدة الإسلامية والأرض والعرض.
فيلم «الناصر صلاح الدين» بعيداً عن كونه عملاً سينمائيا إلا أنه ارتكب أخطاء تاريخية فادحة للغاية، وهي:
• نفاق لفكرة القومية العربية الخاصة بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فالفيلم كان متأثراً بفكرة القومية العربية، برغم أن صلاح الدين الأيوبي أصلاً ليس بعربي وإنما هو كُردى.
• لٌقب الناصر صلاح الدين خلال أحداث الفيلم بـ «سلطان العرب» والصحيح هو «سلطان المسلمين». وتوسعت دولته الإسلامية لتشمل بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام ومصر واليمن والحجاز وأجزاء أخرى من شمال أفريقيا.
• التركيز على كلمة «أورشليم» عند الكلام عن القدس، فأورشليم كان مصطلح مُعرب من اللغة العبرية الخاصة باليهود، والحقيقة أن القدس في اللغة العربية تُسمى «بيت المقدس، القدس الشريف، أولى القبلتين».
• يظهر في مطلع الفيلم لاجئين مسلمين من بيت المقدس وهم بانتظار التحرير، ودوافع هذا المشهد كثيرة كإخفاء الجرائم الصليبية وكذلك لجر عاطفة المشاهد منذ اللحظات الأولى للفيلم. وفي الواقع لم ينجوا أحدا من المسلمين في بيت المقدس من بطش الصليبيين الحاقدين .. كانت الحملة الصليبية الأولى والتي بدأت سنة 488هـ من قبل البابا (أوربان الثاني)، تحمل دعوى استعادة السيطرة على بيت المقدس من المسلمين. أسفرت هذه الحملة عن احتلال بيت المقدس في الثالث عشر من جمادى الآخر سنة 492هـ، وقيام مملكة القدس اللاتينية بالإضافة إلى عدّة مناطق حكم صليبية أخرى، مثل إمارة الرها (بين الموصل والشام)، وإمارة أنطاكية (شمال غرب بلاد الشام)، وطرابلس بالشام.
وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان سنة 492هـ، أرتكب الصليبيون مجزرة مروعة قتل فيها تقريبا جميع سكان بيت المقدس .. حاول عددا من المسلمين الهرب باتجاه المسجد الأقصى، إلا أن ذلك لم يمنع الصليبيين من قتلهم وذبحهم.
وحول هذه المجزرة التي راح ضحيتها 70 ألفا من المسلمين في بيت المقدس تقول المصادر التاريخية الغربية بأن "عمليات الذبح كانت كبيرة جدا، وبدأت بعد الظهر، واستمرت مساءا لغاية صباح اليوم التالي لدرجة أن الدم وصل إلى كواحل رجالنا".
وبحسب رسالة (لفوشيه شارتر) وهو أحد المقاتلين الصليبيين خلال هذه الحملة يقول فيها: "رأيت أقدامنا ملونة للكاحلين وأكثر من ذلك، فلم نترك منهم أحدا على قيد الحياة، لا من نسائهم ولا من أطفالهم".
ويشرح (ابن تغري بردي) كيف خرجت عساكر المسلمين في العراق وبلاد الشام لصد زحف الصليبيين: "كل ذلك وعساكر مصر لم تُهيّأ للخروج"! والسبب؟! كانت مصر تحت الاحتلال الفاطمي الشيعي الرافضي والذي ربطهم تحالف مع الصليبيين مقابل محاربة أعدائهم السلاجقة السُنة.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله عن الرافضة: "فَهُم يُوالُونَ أَعْدَاءَ الدِّيْنِ الَّذِيْنَ يَعْرِفُ كُل أَحَدٍ مُعادَاتِهِم مِنَ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى وَالمُشْرِكِيْنَ، وَيُعَادُونَ أَوْلِيَاءَ اللهِ الَّذِيْنَ هُم خِيَارُ أَهْلِ الدِّيْنِ، وَسَادَاتِ المُتَّقِيْنَ ... وَكَذَلِكَ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ الأَسبَابِ فِي اسْتيلاَءِ النَّصَارَى قَدِيْماً عَلَى بَيْتِ المَقْدِسِ حَتَّى اسْتَنْقَذَهُ المُسْلِمُوْنَ مِنْهُم".
• (عيسى العوام) كان مسلما ولم يكن مسيحيا، وإنما كان غواصًا مسلمًا، حارب مع صلاح الدين الأيوبي ضد الصليبيين، وتوفي غريقًا على شواطئ عكا عام 379 م، وجاء ذلك في مراجع عربية تاريخية كثيرة، منها «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» لابن تغرى بردى، «النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية» لبهاء الدين بن شداد، «تذكير النفس بحديث القدس» لسيد حسين العفاني.
يروي قصته القاضي بهاء الدين بن شداد في كتابه «النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية» أيام محنة حصار عكا، وأورد قصته أيضا صاحب كتاب «تذكير النفس بحديث القدس 1/378 – 379»، فيقول: "ومن نوادر هذه الوقعة ومحاسنها أن عواماً مسلما كان يقال له (عيسى)، وكان يدخل إلى البلد - يعني عكا أثناء حصار الفرنج لها - بالكتب والنفقات على وسطه - أي يربطه على وسطه - ليلاً على غرة من العدو، وكان يعوم ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العدو، وكان ذات ليلة شد على وسطه ثلاثة أكياس، فيها ألف دينار وكتب للعسكر، وعام في البحر فجرى عليه من أهلكه، وأبطأ خبره عنا، وكانت عادته أنه إذا دخل البلد طار طير عرّفنا بوصوله، فأبطأ الطير، فاستشعر الناس هلاكه، ولما كان بعد أيام بينما الناس على طرف البحر في البلد، وإذا البحر قد قذف إليهم ميتاً غريقاً، فافتقدوه - أي تفقدوه - فوجدوه عيسى العوام، ووجدوا على وسطه الذهب وشمع الكتب، وكان الذهب نفقة للمجاهدين، فما رُئي من أدّى الأمانة في حال حياته وقد أدّاها بعد وفاته، إلا هذا الرجل. وكان ذلك في العشر الأواخر من رجب أيضاً".

د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com