نقد أُصول الفقه لعِياض السُّلمي

عِلم الأُصول من العلوم الماتِعة التي تُعضد بالأصلين الكتاب والسنة ، وقد يُقرَّر له أحياناً بالإستدلال المباشر وغير المباشر للتقريب والتهذيب ، أو بطرق الإنتقال من المُقدِّمات إلى النتائِج ، وقد يلزم إعمال العقل بالحجة والدليل لإثباته ، بشرط حِماية جناب التوحيد ومراعاة أصول أهل السنة ، وسدِّ ذرائع المُتكلِّمين وشُبهاتهم المُخبَّئةِ في مُصنفاتهم ، بأدلة الوحيين وحجج السلف الواضحة .

وقد قال ابن السُّبكي (ت: 756هـ) رحمه الله تعالى : ” وكل العلماءِ في حضيضٍ عنه – يعني الاجتهاد – إلا من تغلغل بأصلِ الفقهِ، وكرعَ من مناهلهِ الصّافيةِ بكل الموارد ، وسبحَ في بحرِهِ وتروّى من زُلاله، وباتَ يَعِلُّ به وطرفهُ ساهدٌ” .

وكتاب أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله ، كتاب مُمتع مُحرر بقلمٍ مبارك . وتكتمل بركةُ عِلم الكتاب بزيادة تحريرات وإستدراكات وإيضاحات ، وقد شرط المؤلِّفُ وفقه الله تعالى في كِتابه على نفسه أن يُصحِّح ما يقع من الوهم أو سوء الفهم في أبواب الأُصول .

ولم يلتزم مُحرِّرهُ بهذه الشروط في كثير من المواضع المتناثرة – فيما يبدو – حيث لم يسعهُ الوقت والفِكر لتوضِّيحها ، فتكون بحمد الله تعالى هذه الإستدراكات والإيضاحات على نفس نسيج المؤلِّف وعلى بابته ومقصده .

وقد كانت هذه التحريرات مُقيَّدة بقلمي على نُسختي الخاصة ، وقد شاء اللهُ أن يطَّلعَ عليها بعضُ المعتنين بهذا العِلم ، فألح عليَّ بنشرها لتكون حاشيةً على الكِتاب ، والله المُعين على فهم الصواب .

1- أورد المؤلِّفُ – وفقه الله تعالى – كثيراً من أسماء أعلام الأصولييِّن والمُتكلِّمين ، وقد يستشهدُ بتعريفاتهم وأقوالهم وتقريراتهم ، كالرازي (ت: 606هـ) والآمدي (ت: 631هـ) والبيضاوي (ت: 685هـ) والجويني(ت: 478هـ ) والنظَّام (ت: 221هـ ) وابن الحاجب(ت: 646هـ ) ، والجاحظ (ت: 255هـ )، ,وغيرهم ، وهذا السرد على حسب ورودهم في الكتاب . لكنه لا يُنبِّه على تجاوزاتهم العقدية المتصلة بهذا الفنِّ ،في كثيرٍ من المواضع ،مع تقريره لمنهج السلف في مجمل المسائل الواردة . والتنبيه على ذلك مهم في إعتقادي ، لسببين : الأول : تربية الطالب على منهج السلف في تأصيل المسائل الأصولية ، والثاني : أنه وصية الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز تضيِّيعها: ” ليبلغ الشاهدُ الغائبَ، فإن الشاهد عسى أن يُبلِّغ من هو أوعى له ” أخرجه البخاري .
ولا يخفى أن إيراد كلام أُولئك الأصولييِّن من غير تعقُّب لمناهجهم أو عقائدهم يستلزم القول بعصمتهِم ، وهو باطل بلا ريب ، والتعليل بإمامتهم في العِلم تعليلٌ بالوصف ، وهو مردود عند الأصوليِّين .

والمؤلِّفون الذين يكتمون أخطاء أولئك عمداً مُدلِّسون ومُضيِّعون للبلاغ النبوي ، نعوذ بالله من ذلك.
وقد روى ابن أبي أويس قال سمعتُ خالي مالك بن أنس يقول: ” إن هذا العلم دِّين فانظروا عمن تأخذون دينكم ، لقد أدركتُ سبعين ممن يُحدِّثُ قال فلان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين ، وأشار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما أخذتُ عنهم شيئاً ، وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت المال لكان أميناً ، لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن ، وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم على بابه ” .
( التمهيد / لابن عبد البر – 1/47) .

وقد قيل عن الإمام ابن عقيل شيخ الحنابلة في وقته ( ت : 513 هـ ) رحمه الله تعالى ، كان قوي الحجة ، واسع الدائرة في العلوم والفنون والتصانيف، وقد مال إلى مذهب المعتزلة ؛ لأنه كان يجتمع بجميع العلماء من كل مذهبٍ، ثم عدل عن هذا المذهب، والتزم مذهب الحنابلة في الفقه ، ولكن بقي في عقيدته أثر مذهب الاعتزال .فَليُحرر هذا المعنى لتحقيق الإنتفاع .

2- من المواضع المُنتقدة في كتاب المؤلِّف – وفقه الله تعالى – عدم تقريره لقاعدة الأحوط والأبرأ للذِّمة في كثير من الأحكام الفقهية التي يتناولها أو يسوقها للإحتجاج بها على المسائل الأُصولية ، وسيأتي بعضُها أدناه ، وهذا ظاهر لمن تأمل في مواضع كثيرة منه . والعلماء إذا اختلفوا سواء كان اختلافهم في فهمِ النصِّ أو في ثُبوت النصِّ ، فالأولى الأخذ بالأحوط والأبرأ للذِّمة ، كما هو مُقرَّر عند الأُصوليين. ومنه قولهم :
وذو احتياط في أمور الدِّين … من فَرَّ من شكِّ إلى يقينِ
فيكون هذا الأصل تهذيب للنفس ، وتربية على الورع لا سِّيما لطلبة العلم والمتفقِّهين .
وقد قال العلامة العلوي (ت: 1233ه ) رحمه الله تعالى في المراقي:
وزائدا في العِلم بعضٌ قَدَّما … وقدَّم الأورعَ كُّل القُدما .

3- أورد المؤلِّف في مبحث تعريف أصول الفقه ( ص/ 11) جواب الرازي حول القول بقطعية الفقه ، وضعَّف قوله في أن الفقه ليس من باب الظنون ، ثم أورد قول ” الآمدي” حول العِلم بالأحكام .
قلت : لم يُحرِّر هنا لُّب هذه المسألة ، وقد تُفهم على خير خِلافها من بعض المتفقِّهين أو من بعض المُتربِّصين بشبهات حول الفقه وأدلته . والصحيح أن يقال إن الخلاف حول الحكم الشرعي: هل هو مفهوم الدليل الشرعي, أو هو مدلوله, أو مقتضاه, أو موجبه ، ونحوها من المعاني. وقد وصف العلامة عبد الرحمن الأخضري (ت: 953هـ)رحمه الله تعالى ، هذا المعنى عندهم فقال:
وَعِنْدَهُم مِنْ جُمْـلَـةِ المَرْدودِ
أَنْ تــَـدْخُلَ الأَحْكامُ في الحُدُودِ
وَلا يَــجُوزُ في الحُدُودِ ذِكْرُ أَوْ وَجَائِزٌ
في الرَّسْمِ فَادْرِ ما رَوَوْا .

وقد نبَّه ابن تيمية على هذا المعنى في ” مجموع الفتاوى ( 12/ 118- وما بعدها ) وفي ” الإستقامة (1/ 47- 69) . وابن قيم الجوزية في” الصواعق المرسلة ” (2/ 657- وما بعدها ).
وينظر لتأصيل المسألة أيضاً كتاب محمد العروسي ” المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين ” و” مسائل أصول الدِّين المبحوثة في علم أصول الفقه ” لخالد بن عبد اللطيف .

4- أورد في مبحث الحكم الشرعي عند توضيح مسألة خِطاب الله المتعلِّق بأفعال المكلَّفين (ص/ 25) ما نصُّه : “وهذا التفسير أولى من تفسير بعضهم للخِطاب بأنه الكلام النفسي ” . قلت : لم يُوضِّح أصحاب هذه المقالة البدعية ، وهم الأشاعرة ومن وافقهم من المبتدعة من المعاصرين. وهم مُضطربون في إثبات صفة الكلام . وقد صرَّح بهذا الاضطراب الجويني في ” الشامل : ص/ 414 ” و الآمدي في ” أبكار الأفكار : 1/ 95- وما بعدها ” والرازي في ” المطالب العالية : 3/ 204- وما بعدها ” .

5- أورد في مسألة الحكم الشرعي ( ص/ 26) ما نصُّه : ” قال بعضُ العلماء إن جميع آيات القرآن تُستنبط منها أحكام شرعية ، وأنكروا على من حَصر آيات الأحكام في خمسمئة آية ونحوها ” قلت : المقصود الإمامين القرافي (ت: 684هـ) والطوفي (ت: 715هـ ) رحمهما الله تعالى.

6- أورد في مبحث تقسيم الحكم التكليفي (ص/ 29) تقسيماً للأحكام ، ويُستدرك على تقسيم الحنفية الذي أورده المُؤلِّف ، أن لهم تقسيماً آخر للمشروعات وهي : الفرض والواجب والسنة والنفل ، وهي غير التقسيمات السبعة التي أوردها المؤلف.كما قرَّره السرخسي في ” أصوله” (1/ 110 ) . أورد في مبحث أقسام الواجب عند مسألة الواجب المُخيَّر ( ص/ 32) ، أن هذا النوع أنكره المعتزلة لأن الخِلاف بين الفريقين خِلافٌ لفظي . ولم يُبيِّن المراد بالخلاف اللفظي ، منها هذا الموضع وفي ( ص/ 75 ) .
وخلاصة القول : عندما يكون الخِلاف في المسألة ينتهي بفائدةٍ أو فوائد مختلفة حسب القولين فيُسمَّى خلافاً معنوياً ، وأما إذا لم يكن له فائدة أو كان أثر المسألة واحداً متفقاً عليه فيُسمَّى لفظياً، بحيث يكون الخلاف فقط في العبارة عن المراد الواحد أو يكون الخلاف غير واقع في مَحلٍّ واحد ، ويُراجع في هذا منهج البحث الفقهي ( ص/ 177 ) .

7- أورد عند المسائل الفرعية للواجب الموسَّع (ص/ 34-35 ) قولًا عزاه ” للنووي ” (ت: 676هـ )رحمه الله تعالى، لكنه لم يُشِر إلى مصدره أسفل الصفحة ، فقد ذكر رقماً ( 3/ 51) بلا عنوان ! . والقول مُثبت في كتاب المجموع شرح المهذَّب ، فليُحرَّر في موضعه .

8- أورد عند مسألة الفساد والبطلان (ص/ 59) عند تعريف الفساد والبطلان ما نصُّه : ” وهذا التعريف لا يصلح لأنه تعريف بذكر الحكم وهو يستلزم الدور ” قلت : لأن التعريف أو الحدَّ يجب أن يكون جامعاً مانعاً ؛ يجمع كل ما يدخل فيه، ويمنع دخول ما ليس منه.
ولم يُوضِّح المؤلِّف المقصود بالدور وهو مُشكل للقارىء العادي وبعض الطلبة المتوسِّطين وربما بعض المترقِّين في العلم .
والدور هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه ، وهو نوعان صريح ومضمر ، وأنواعه ثلاثة : دور علمي ودور مساوي ودور مَعِي . وقد قال العلامة الأخضري :
وَعِنْدَهُم مِنْ جُمْـلَـةِ المَرْدودِ .. أَنْ تــَـدْخُلَ الأَحْكامُ في الحُدُودِ .
ويراجع في هذا “المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة “للحفني .

9- أورد المؤلِّفُ عند الفرق بين الرخصة والمُخصَّص من العموم ، في مبحث الرخصة ( ص/ 63) فروقاً مهمة ، لكن يُستدرك عليه الفرق بين الرخصة والاضطرار ، لأن له ثمرة عملية لا يُمكن إنكارها . لقول الله تعالى : “وقد فصَّل عليكم ما حرَّم عليكم إلا ما اُضطررتم إليه ” ( الأنعام : 119 ).
ومثاله : إذا لم يمُكِن العمل بالعزيمة لغيابها أو لعدم القدرة عليها ، فيكون الحكم إضطراراً وليس رخصةً .
ولم يُشِر المؤلف وفقه الله تعالى إلى ثمرة الفرق بين الرخصة والاضطرار والتلفيق ، وقد أشار إلى بعضها الإمام ” الشاطبي ” في الموافقات والعلامة ” ابن سعدي ” في قواعده ، فلتراجع .

10- أورد عند تعريف التكليف (ص/ 68 ) ما نصُّه : ” وقد تقدَّم أن الأولى إخراج الإباحة عن الإباحة التكليفية ” قلت: يُشار في الحاشية هنا أنها من الأحكام التخييرية . ويُستدرك عليه أن المعتزلة أنكروا أن تكون الإباحة حُكماً شرعياً ، وهذا الخِلاف سببه اختلافهم مع أهل السنة والجماعة حول الحُسن والقبح ، كما في ” المستصفى ” للغزالي ، و”المسوَّدة ” لآتيمية ، و” مُختصر” ابن الحاجب .
وهذه الإشارة مهمة للردِّ على الليبرالييِّن المعاصرين الذين يستدلون بإطلاق الإباحة على عُمومها من غير نظر إلى مصلحة الشرع .
وقد أشار – وفقه الله تعالى- إلى هذه المسألة إشارة خفية في ( ص/ 27 ) عند لفظة التخييِّر ، لكنها لا تظهر إلا للمُتأمِّل ، فلزم الإستدراك.

11- أورد في مبحث البلوغ عند شروط التكليف ( ص/ 70) تقيِّيد البلوغ بخمس عشرة سنة ، ولم يستدل له بالمنطوق النبوي الصريح ، ودليله الذي استدلَّ له صحيح لكن لا يبُيِّن المراد ، لأن الدلالة لم تُناسب المدلول .
والمُناسِب للمسألة حديث عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما : عُرضتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحدٍ في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزنِي ، وعُرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني ” متفق عليه ، وحديث : ” لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ” أخرجه أبو داود والترمذي وصحَّحه أحمد شاكر .

12- أورد في مبحث شروط التكليف عند مسألة العقل وفهم الخطاب ( ص/ 71) الحكم المُتعلِّق بالمسألة ، لكنه لم يُحرِّر حدَّ العقل ومعناه ، وهو أنه معنى يُدرك به العلم ، وما يمكن التميِّيز والاستدلال به على ما وراء المحسوس ويخرج صاحبه به عن حدِّ المعتوهين . كما أفاده الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في” الفتاوى “: 28/ 594 ” .

13-أورد في مبحث القدرة على الامتثال عند شرح شروط التكليف (ص/ 71) ما نصُّه : ” العاجز لا يُكلَّف ” ولم يقُرِّر المدلول كعادته في الُأصول . فَيُستدرك عليه أن العاجز إن تجدَّدت له قدرة صار مأموراً بطلب الفعل التكليفي . ولم يُشِر إلى العجز المالي في قسم المعاملات ما حكمه ؟ ولأن العجز على هيئات : عجز فوق الطاقة ، وعجز يعود على القدرة بالزوال .

فلا تكليف بما يعود على القدرة بالزوال. وما عَجَزَ عنه العَبدُ مِن الواجبات سَقطَ عنه بقدر عجزه.
فإن كان العجزُ مؤقتاً عَذر بقَدره، وإن كان العجزُ لازماً دائماً عُذر بِقَدره. فلا يَسقط المقدور بالمعذور، كما قرره الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب ” الإستقامة ” .
وأيضا في قوله ( ص/ 71) : ” العاجز لا يُكلَّف “، يُستدرك عليه أن العاجز إن تجدَّدت له قُدرة صار مأموراٍ بطلبه . وقد نبَّه عليه الإمام ابن تيمية في ” مجموع الرسائل ” ( 1/ 240 ).

14- أورد في مبحث العلم بالتكليف ( ص/ 72 ) ، ما نصُّه: ” فمن لم يعلم بالتكليف لا يُعدُّ مُكلَّفاً ” . قلت : لم يُقرِّر – وفقه الله تعالى – حدَّ العلم الذي يُشترط له التكليف ، فقد قرَّر الوصف ولم يُقرِّر الحدَّ . ولابن تيمية رحمه الله تعالى تفصيل حول العجزِ بالعلمِ ، وهو ضدُّ العِلمِ بالتكليف في كتاب ” الاستقامة ” (1/ 228- وما بعدها ) ، فليُراجع.

15- أورد في مبحث شروط الفعل المكلَّف به ( ص/ 74 ) أن الأشعرية أجازوا التكليف بالمحال . قلت : لم يذكر قسميه وهما : المستحيل لذاته ، والمستحيل لغير ذاته .
فمثال الأول : الجمع بين الضدِّين ، وهو ممتنع شرعاً . ومثال الثاني : إيمان أبي لهب . فإيمانه بالنظر الى مجرد ذاته جائز عقلاً الجواز الذاتي ، لكن هذا المستحيل مُتعلِّق بعلم الله أنه لا يوجد . وهذا النوع يجوز التكليف به . وقد أطال المؤلف في المسألة واستشهد برأي الرازي والآمدي وأبي الحسن الأشعري ، مما لا طائل فيه ! . وقد فصَّلها ابن تيمية رحمه الله تعالى في ” فتاويه ” ( 8/ 295- وما بعدها ) ، فلتُراجع .

16- أورد في مبحث موانع التكليف ( ص/ 79 ) سبعة موانع ، لكن يُستدرك عليه جملة مهمة وهي : أن موانع التكليف القصد منها إسقاط الأمر والنهي والتأثيم والمؤاخذة ، وقد يُخفَّف عن المُكلَّف أو يخاطب ببديل عن ما عجز عنه . وهذه الضابط يلزم كتابته على طُرَّة هذه المسألة في مستهل المبحث ليستحضر الطالب ثمرته .

17- أورد عند تعريف الجنون (ص/ 81) ما نصُّه : “ذهاب العقل الذي هو مَناط التكليف ” قلت : يُستدرك عليه ( أو فساده ) لأن بعضه مُطبق وبعضه مُنقطع ، والجنوان قسمان: الأصلي والعارض .
فالأول مُطبق والثاني منقطع ، ويترتب على القسمين أحكام أصولية ، وقد أشار إليها الكاساني في ” بدائع الصناىع ” ( 7/67 )، و أمير ابن الحاج في ” التقرير والتحبير” ( 2/173 ) ، فَلتُراجع .

18-أورد في مبحث الإغماء ( ص/ 85 ) مسألة حكم الإغماء ولم يستوفِ- وفقه الله تعالى – تحرير الحكم الفقهي المُتضمِّن للحكم الُأصولي ، فقد فاتَهُ التنبيه على الفرقِ بين الإغماء الذي يكون بفعل الطبيب وهو البنج ، والإغماء الذي سببهُ المرض ، أو الإغماء الإختياري والإغماء الإضطراري .
فقد ذكر اختلاف العلماء في قضاء العبادة للمُغمى عليه ، ونقل عن الشافعي أنه قال لا قضاء على من مرَّ عليه وقت للصلاة ورجح هذا القول ، ونقل عن الحنفية التفريق حيث قال : ” وقال الحنفية إن كان طويلاً فَيُلحق بالجنون ويسقط القضاء ، كما مثلنا في المجنون ، وإن كان قصيراً فَيُلحق بالنوم فلا يسقط به القضاء ” . ويُستدرك على قوله أعلاه أن قول الشافعي المنسوب إليه قال به المالكية أيضاً ، أما القول المنسوب للأحناف ” إن كان طويلاً … ” فقد حدَّوه بخمسِ سنوات ، فإن زادت سقط عندهم فرضُ القضاء. ولم يذكر رأي الحنابلة فقد ذهبوا إلى وجوب القضاء ، لحديث عمار أنه أُغشي عليه ثم استفاق ، فتوضأَ وقضى صلواته . وقد صحَّحه ابن قدامة في المغني .

وأما الإغماء الذي يكون بفعل الطبيب فيجب فيه القضاء ، وقد رجَّح هذا العلامة ابن عثيمين (ت: 1421هـ) رحمه الله تعالى .

19- أورد في مسألة الإكراه (ص/ 88) تقييِّد الإكراه المُلجىء عند الحنفية خاصة ، بالتهديد بالقتل أو القطع أو الضرب المبرح أو الحبس ، لكن لو قيَّده بالسُّلطان أو ولي الأمر لكان مُنضبطاً على إصطلاحهم ، كما نبَّه عليه الكاساني في ” بدائع الصنائع” ( 7/180 ).
فالإكراهُ الملجئُ عندهم ما كان واقعاً من السُّلطان ، لأن الإكراه من غيره لا يتحقَّق، لتمكن المستكره من الاستغاثة بالسُّلطان ، بخلاف ما لو أوقعه عليه السُّلطان، فلا يجد حينئذ غوثًا .

20- أورد عند مسألة أفعال الكفر في مبحث التكليف ( ص/ 90 ) خلاصة رأي العلماء في أفعال الكفر للمُكره . وقد فاته التنبيه على مسألة مهمة وهي التورية بالكفر أو إستعمال المعاريض لإبراءا ذِّمته من الفعل والإحتيال على مُكرهيِّيه .فلو أُكره على الكفر مثلاً ، يقول: أنا كافر باللاهي، فيزيد الياء. وكذلك إذا قيل له: اكفر بالنبي، فيقول: أنا كافر بالنبي، وهو يريد المكان المرتفع من الأرض. “مختار الصحاح ” ، لأبي بكر الرازي، ص:304. و”الجامع لأحكام القرآن” للقرطبي 10/155) .

وقد روي عن بعض السلف زمن فتنة خلق القرآن أنه دُعِي إلى أن يقول بخلق القرآن ، فقال: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، يُعدِّدهن بأصابعه ،هذه الأربعة مخلوقة، يقصد أصابعه، وفهم الذي أكرهه أنه يريد الكتب الأربعة المنزلة من الله تعالى على أنبيائه، فَخلَّص في نفسه ولم يضرَّه فهم الذي أكرهه. “أحكام القرآن لابن العربي” ( 3/127) .

21- أورد عند مبحث الإكراه ( ص/ 91) مسألة زِّنى المكره ، ونقل عن بعض أهل العلم أن الرجل يأثم عند الزنى بعكس المرأة ، ولم ينَسُب هذا القول ، وهو لأغلب الأحناف ، وقد ردَّ عليهم ” الكاساني ” رحمه الله تعالى في ” بدائع الصنائع” ( 7/177 ) . وقد نقل المؤلفُ عنهم أن الرجل إذا أُكره على الزنى ففعل فإنه يأثم ، لأنه يكون مختاراً بقرينة القدرة على الجماع والإنتشار للآلة . ولم يتعقَّب هذا القول . قلت: وهذا القول فيه نظر ، والقرينة المذكورة ظنية أو مُتوهَّمة، وهي محل للتأمل ، لأن النائم تنتشر آلته لكن إختياره مُنعدم . ومسألة الأخذ بالقرينة الضعيفة والمتوهَّمة ليست مَحل إجماع عند الفقهاء .

22- أورد في مبحث القراءة الصحيحة والشاذة (ص/ 98) ما نصُّه : ” ما صحَّ سندُها ووافقت اللُّغة ولو من وجه ، وخالفت رسم المصحفِ العثماني ” .
قلت : يُستدرك على تعريفه ( ولم تبلغ درجة التواتر ) وهي جملةٌ كاشفةٌ لكلمة ( الشاذة ) وهذا القيد مُهم ، لإخراج القراءة المُتواترة المُسمَّاة قرآناً ، كما لا يخفى .
وعند مسألة عدم جواز القرآءة بها في الصلاة ، أشار إلى كونها غير مُتواترة ، فَتُضاف إلى التعريف لضبط اللفظ والمعنى .

ولم يذكر وفقه الله تعالى عند الإحتجاج بها أن القراءة الشاذة يُستنبط منها الأحكام الشرعية الفرعية ، وهو قول الجمهور .

وقد ذكر بعض الفروع الفقهية التي بُنيت على أصل القرآءة الشاذة ، ويُضاف إلى استدلاله أن القراءة الشاذة وإن لم تُقبل على أنها قرآن ، فقد قُبلت على أساس أنها أخبار أو تفسير للقرآن ، وأن القراءآت الشاذة لا تَبتعد عن القراءات المتواترة في معانيها ونحوها ، كما أثبت ذلك الإمام أبو الفتح ابن جِنِّي في كتابه ” المحتسب ” ، فكان يسعى إلى الجمع بين القرآءتين المتواترة والشاذة على معنى واحد .

23- أورد المؤلِّفُ في اختلاف العلماء في القراءة الشاذة (ص/ 100)، قولين فقط ، قولَ أحمد وأبي حنيفة القائلين بحجية القراءة الشاذة ، وقولَ الشافعي الذي لا يرى الاحتجاج بها . ولم يذكر قولَ الامام مالك رحمه الله تعالى المشهور في المذهب وظاهر الرواية في الموطأ وهو عدم الاحتجاج بها ، كما أنه رُوي عنه أنها تجري مجرى الآحاد في العمل دون القطع بها ، وله قول ثالث وهو أنه يُعمل بها على الإستحباب .

وفائدة ذكر الإمام مالك ليست للإستدراك فقط ، إنما للموازنة بين اختياره واختيار الأئمة الثلاثة .

24- أورد في مبحث الإستصحاب ( ص/ 202 ) تعليقاً على استصحاب الإجماع في مَحلِّ الخلاف ما نصُّه : ” المُحقِّقون أنه ليس بحجة ، لأنه يؤدِّي إلى التسوية بين موضع الإتفاق وموضع النزِّاع ” . قلت : لم يبُيِّن مفهوم التسوية وما الواجب فيها ؟ والتسوية هي تكافؤ الأدلة .
والمقصود بتكافؤ الأدلة عدم ترجيج أحد الدليلين أو الأدلة الصحيحة في المسألة ، لتعادل مراتبها في القوة ، وهو من أسباب التقليد كما أشار إلى ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في فتاويه
وابن رشد (ت: 520هـ ) رحمه الله تعالى قال إن تكافؤ الأدلة من المشبَّهات كما في ” البيان والتحصيل ” ، ووافقه على ذلك ابن دقيق العيد(ت: 702هـ ) رحمه الله تعالى في كتابه ” الإلمام بأحاديث الأحكام”.

والواجب في مثل هذه المسألة ومثيلاتها ، الأخذ بالأحوط ثم بأيسر الأقوال .
وتكافؤ الأدلة من سِّمات مذهب الأشاعرة ، وقد صرَّح بهذا ” الرازي” في كتابه ” المطالب العالية ”
وقد أشار ” القاضي أبو يعلى” (ت: 458هـ ) الحنبلي رحمه الله تعالى إلى أنه لا يجوز تكافؤ الأدلة في التوحيد والصفات ، كما في ” المسوَّدة ” ص/ 448 ) . فاحفظ هذا فإنه نفيس .
وفي ” إرشاد الفحول ” للشوكاني رحمه الله تعالى ، أشار إلى أن الأحاديث الآحادية ، تُؤدِّي إلى تكافؤ الأدلة وتعارضها، وهو خلاف موضوع الشريعة؛ لئلا يلزم خلو الوقائع عن حكم الله .

25- أورد في مبحث الإستصلاح في مسألة حكم العمل بالمصلحة المرسلة ( ص/ 207 ) رأي العلامة الطوفي ( ت:716هـ ) رحمه الله تعالى ، في تقديم المصلحة الضرورية على النصِّ . قلت : هنا ملحظان ، الأول : لم يذكر مورد كلام الطوفي ، وهو مبثوث في كتابين : ” التعييِّن في شرح الأربعين ” ، و” مختصر الروضة” . الثاني: لم يتعقَّبهُ في سبب خطئه ، فَيُستدرك عليه هنا أن سبب خطأ الطوفي أنه جعل المصالح كُّلها على درجة واحدة ،حتى صار يُقرِّر جلب المصلحة المظنونة بكلام لا يقال إلا في دفع الضرر المتيقِّن ، والضرورة في الشرع إنما تُقدَّر بقدرها .علماً أن الطوفي قد قرَّر أن نصوص الشرع مُتضمِّنة لكل مصلحة ، وعند التعارض تُقدَّم المصلحة الخاصة على العامة ، وهو ما صرح به في شرحه لحديث ” لا ضرر ولا ضرار” أخرجه أحمد بإسناد حسن ، وإن كان له كلام يُوهِم بتقديم رعاية المصلحة على نصوص الشرع ، فإن له ايضاً كلاما صرح فيه بأن نصوص الشرع مُتضمِّنة لكل مصلحة.

26- أورد في مبحث إقتضاء الأمر الإجزاء ( ص/ 246 ) في الردِّ على الدليل الرابع ما نصُّه : ” الرابع إنما يَرِدُ على من ظن أن الأمر يدل على الإجزاء بطريق الوضع ” . قلت : المراد واضح ، لكن المقصود بالوضع مُلتبس ومُبهم على المبتدئين والمتوسِّطين في علمي المنطق وأصول الفقه ، فالوضع يُطلق على التخصيص أو جعل اللفظ معنىً لأمرٍ مُراد ، ويطلق أيضاً على السبب والشرط والمانع.فليحرر .

27- أورد في مسألة تعلُّق الأمر بالمعدوم (ص/ 268) الخلاف حول المعتزلة والأشعرية في تحقيق المراد منها ومآلآتها . وقد ذكر نُقولاً عن الجويني والباقلاني حول المسألة وتخبُّطهما في ذلك . لكنه لم يستدل لمذهب السلف في المسألة ، كقول الله تعالى : ” وأُوحي إليَّ هذا القرآن لِأُنذركم به ومَن بَلغ ” ( الأنعام: 19 ) ، ويترتب على هذه المسألة عند السلف ، وجوبُ إعتقاد أن القرآن كلام الله مُنزَّل غير مخلوق ، فليُحرر .

28- أورد في مسألة اقتضاء النهي الفساد (ص/ 280) ما نصُّه: ” ولم يرد نصٌّ في النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة ” قلت : لم يذكر تعليل المسألة ، وهو أن الصلاة لم يُنه عنها في المكان المغصوب، بل نُهي عن ‏الغصب، والغصب أمرٌ خارج‎ . لكن الإستبراء للدِّين هنا أولى ، فَتتُرك الصلاة فيها ندباً لإبراء الذِّمة ، ومن صلِّى فيها فصلاتُه صحيحة مع الإثم .

29- أورد في مسألة الفرق بين العام والمطلق ( ص/ 288) عشرة أسطر لتحرير معناها . ويُمكن إيجاز ذلك بسطر واحد : العام : كُّل واحد ، والمطلق: أيُّ واحد ، فالعام يشمل جميع الأفراد ، والمطلق لا يعم جميع الأفراد . وهذا الإيجاز إبتداءاً نافعٌ للمطالِع والمتلقِّي ، ثم يكون التوسع أدناه ، حذراً من تشتيت الذِّهن بالمسألة .

30- أورد في مبحث صيغ العموم (ص/ 309 ) ما نصُّه : ” خالف في ذلك طائفتان : الأولى طائفة الواقفية ” .
قلت: لم يُبيِّن من هم ؟ وما منهجهم ؟ ولا متى ظهروا ؟ .
والواقفية هم القائلون بالتوقُّف في الألفاظ الدالة على العموم، حتى يظهر المرجِّح، فلم توضع هذه الألفاظ – على إعتقادهم – لعمومٍ ولا لخصوص؛ فاللفظ صالح لاستغراق الجميع ، أو الاقتصار على الأقل ، أو تناول عدد بين الأقل والجميع المحتمل استغراقهم، وأن أيًّا من ذلك لا يتعين إلا بالقرائن، وهذا مذهب عامة الأشاعرة وبعض الجمهور . وقد نشأت هذه الطائفة مع ظهور الفرق الكلامية واتساعها في القرن الثالث والرابع الهجري .

31- أورد في مبحث التعارض (ص/ 415) ما نصُّه :” إذا حصل التعارض ينسدُّ باب الترجيح ، ولم يبق إلا أن يذهب المجتهد إلى تساقط الدليلين ” . قلت : يُستدرك على هذا أن المجتهد هنا يلزمه الرجوع إلى البراءة الأصلية ، كما أفاد الغزالي في ” المستصفى ” والعطار في ” حاشيته ” والفتوحي في ” شرح الكوكب المنير” .

32- أورد في مسألة الترجيح بين المعقولين (ص/ 446) ما نصُّه : ” وأما المنيُّ فطهارته ثابتة بالظاهر ” قلت : يُستدرك عليه أن طهارة المني ليست بإجماع الفقهاء ، لأن مالك وأبا حنيفة قالا بنجاسته ، واستدلا بحديث عائشة رضي الله عنها أنها : “كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم “. أخرجه مسلم . وفي رواية : “كان يغسل المني من ثوبه “. أخرجه مسلم.

33- أوردَ في مبحث تجديد الإجتهاد ( ص/ 467) تصحيح الشيخ محمد بخيت المطيعي(ت: 1354هـ ) رحمه الله تعالى ، لقول عدم وجوب إعادة النظر في الإجتهاد القديم ، ولم يُنبِّه المؤلِّف – ولو في الحاشية – على منهج المطيعي في سُلَّم الأصول ، والمطيعي أشعريُّ يجب التنبُّه لزلَّاته في تقرير عقيدة الأشاعرة ، كالكلام النفسي وقِدم القرآن ، ونحوها من المسائِل العقدية المبحوثة في علم الأصول . وطالب سُلَّم الأصول لن يفهم عِلم الُأصول إلا بفهم عقيدة السلف في هذه المسائِل ، وهما طريقان مستقيمان لغاية واحدة .

34- توجد بعض الدروس الأصولية النافعة أغفل المؤلِّف الحديث عنها ، كمسائِل الحِيل والعُرف والعادة وأنواعها ، ولعله تركها إختصاراً . ومسائل الحيل مهمة لدخولِ كثيرٍ منها اليوم في مسائل العقود والأسرة والأحوال الشخصية ، بل إن بعض المحرمات المُعاصرة ينغمسُ فيها الشبابُ اليومَ بطريق الحيل التي ظاهرها مباح ! ، نسأل الله العافية .فليتها تُستدرك مِن المؤلِّفِ ومن طالبِ علم الأُصول . ومن المؤلِّفين من يخلط بين سدِّ الذرائع والحِيل ، والصحيح أن بينهما عُموم وخصوص نبَّه عليه العلامة وهبه الزحيلي(ت: 1436هـ ) رحمه الله تعالى ، فليُحرَّر فإنه نفيس.

35- الكِتاب على نفاسته لم يُدرِّب الطالب على دفع الإعتراضات والشُّبه التي يستدلُّ بها الُأصوليون كالأحناف وغيرهم ، أو المُتكلِّمين ، فليت المؤلِّف يستدرك ذلك في طبعاته اللاحقة . ومن رام ذلك فليُدمِن مطالعة ” فتاوى ابن تيمية ” (ت: 728هـ) و ” إعلام الموقِّعين ” لابن الجوزية (ت: 751هـ ) و” فتح الباري ” لابن حجر(ت: 852هـ ) ، رحمهم الله تعالى ، ففيها غُنية عن كثيرٍ من الكتب الأُصولية . والله الهادي .

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

د/ أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بمعاهد القوات البرية

__________________

مؤسِّس مُدوَّنة المتوقِّد التأصيلية
http://ahmad-mosfer.com/