العقلُ الإنساني- عند البحث والإستدلال – يستخدمُ عدداً من الأقيسة مثل : القِياس التمثيلي ، وقيِاس التعليل ، وقِياس الشمول ، وقياس الَأولى ، والقِياس الإستقرائي .
وعِلمُ المنطقِ هو في أصله أقيسةٌ ، بعضُها مُختصرٌ وبعضها مُطوَّل .

وقد اعتنى به كثيرٌ من العلماءِ عندما ظهرت الفِرق الكلامية والفلسفية في العالم الإسلامي .
واليوم ظهرت مذاهبُ علمانيةٌ وليبراليةٌ ، يَستدلُّون بشبهات وقواعد منطقية ، ليدحضوا بها بعضَ المُتفق عليه في الشرع ، وقد تقرَّر عند الأصولييِّن أنه إذا استنبط أحدٌ معنىً من أصلٍ فأبطله ، فهو باطل .
والمقدِّمة المنطقية هي متنٌ عِلميٌّ تتضمَّن ضوابط وقوانين عقلية ، ومصطلحاتٍ تَجمعُ للمتعلِّم والمُتكلِّم أُصول التفكيرِ والحُكم على العلوم والمسائل .

وقد أوردها الإمام ابن قُدامة (ت: 620هـ) رحمه الله تعالى في دِّيباجة كتابه ” روضة الناضر” نقلاً عن الإمام الغزالي (ت: 505هـ) رحمه الله تعالى ، من كتابه ” المُستصفى ” بشيٍ من التهذيبِ والتنقيحِ في كثيرٍ من مُفرداتها وجُمَلها .

وقد قرَّر بعضُ أهلِ العِلم أن ابن قدامة ترَاجع عن مُقدِّمته المنطقية ، لكن وجودها اليوم بين الطُّلاب وفي كثيرٍ من الكتب جعل تأمُّلها والإفادة منها أو التعقيب عليها أمراً لا مَحيص عنه .
وكنتُ قد شرحتُ لبعض الطلبة هذه المقدِّمة أثناء إستدراكاتي على بعض مسائل أُصول الفِقه من باب تتميم الفوائد ، فبقيت في مكتبتي مطويَّةً سنين طويلة ، حتى عنَّ لي أن أُظهرها بشيٍ من التحرير حسب الطاقة . وبالله التوفيق :

(أ): مَحاسِن المُقدِّمة وعُيوبها :
اشتملت المُقدِّمة على ثروةٍ لفظيةٍ كان القصدُ من إيرادِها في كُتب الُأصول ، تنشيط عقل الطالب وتحفيز قُدرته الذِّهنية على تصوُّر الألفاظ والمعاني والمسائِل ، والعلاقة بينها طرداً وعكساً ، ولهذا قيل : ” الألفاظُ قوالبُ المعاني ” .

وهذا الأسلوبُ له أصلٌ في الشرع ، فقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” من قال لأخيه تعال أُقامِرك فليتصدَّق ” متفق عليه ، ولا يُعرف حُكم القِّمار إلا بمعرفة حدِّ القِمار وصفتهِ وطبيعتهِ .
وعن سعيد بن المسيب بن حزن قال: “جاء جدِّي حَزَن إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ،فقال له: ” ما اسمك؟ ” قال: اسمي حَزن، قال: ” بل أنت سهل ” ، قال: لا أُغيِّر اسماً سمَّانيه أبي، فقال سعيد بن المسيب: فما زالت فينا الحزونة بعد ” أخرجه البخاري في الأدب المفرد بسندٍ صحيح .

وفي الحديث تنبيهٌ إلى ضرورة فهمِ الألفاظ والربط بين معانيها وتأثيرها على النفس .
• ومن فوائد المُقدِّمة المنطقية التي ظهرت لي :
1- التنبيه على عدم الإسراف في التعميم للأحكام والشواهد .
2- التنبيه على عدم العجلة في الإستنتاج .
3- ضرورة عدم الإعتماد على أيِّ مصدر قبل تمحيصه
4- الحذر من دخول العواطف في الأحكام .
5- مُجانبة الخلط بين التقدير والتقديس في الأحكام.
6- وجوب التفرقة بين النصِّ وتفسير النصِّ .
7- التروِّي عند المقارنة ، والعدل وعدم الكيل بمكيالين.
• كذلك يوجد في المُقدِّمة المنطقية قصورٌ وضعفٌ، لأنها عملٌ بشري ، وكُّل عملٍ من فعل الآدمي فهو إلى النقص أقرب ، خلا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فهم معصومون .

والأمثلة على ذلك كثيرة منها :
1- أنها لم تُروى بأسانيد موثوقة تطمئنُّ لها النفس عن أصحابها الأصلييِّن ، بل هي نتيجة ترجمات متفرقة لكتب أرسطو اليوناني ، وأرسطو نفسه هذَّبها من كلام أفلاطون ، وأفلاطون نقلها عن السُّوفسطائيين اليونانيين قبله .
وتلك الأوراق المنطقية تمَّت ترجمتها من اليونانية إلى العربية في زمن المأمون العباسي ، والذي قام بترجمتها هم الروافض مع بعض النصارى وبعض المُتفلسِفة من المسلمين .

2-من جوانب الضعف فيها أنها لا تَرتكزُ على نصوصٍ أو أخبارٍ أو آثارٍ صحيحة لعلماء ثقات ، بل هي منقولات ومقاييس مُبهمة لمجاهيل ، فصفتُها أنها قواعد بلا أساس ثابت محكم .

3- أنه لا يُمكن تطبيقها على نُصوص الشرع ، ولا على كلامِ العقلاء ، وعلى مروياتِ العُلماء لتمييِّز الطيِّب من الخبيث .
وعلى هذا الأساس فيكون الإنتفاعُ بها للمتلقِّي محصوراً بين النَّقدِ والجدل وفهم ِكُتب أهل الطوائف المختلفة .

(ب)موضوعات المُقدِّمة المنطقية :
اشتملت المُقدِّمة المنطقية على موضوعات رئيسة وموضوعات تابعة .
الموضوعات الرئيسة خمسة وهي : الحدُّ والبُرهانُ والتصوُّرُ والتصديقُ واليقينُ .
والموضوعات التابعة عشرون وهي : المفردات وأنواعها ، العلوم وأنواعها ، أقسام الحدِّ ، الماهية وصيغ السُّؤال ، الوصف الذاتي والوصف العارض ، شروط الحدِّ الحقيقي ، شروط الحد الرسمي ، شروط الحد اللفظي ، أنواع الدلالات ، أنواع البرُهان، المعاني المُدركة ، أنواع الألفاظ ، المعاني المتولِّدة من البُرهان ، طريقةُ الإعتراض على الحدِّ ، أسبابُ الخُروج عن البُرهان ، مَدارك اليقينِ ، بُرهان العِلة ، بُرهان الدَّلالة، الإستقراء .

(ج) : طريقةُ الإفادةِ من المُقدِّمة المنطقية :
هذه المُقدِّمة إذا دَرسها طالبُ العِلم على مُعلِّمٍ مُتمكنٍ في الأصلين : أُصول الدِّين وأُصول الفِقه ، فحتماً سيستفيدُ فوائد خاصة وفوائد عامة .
الفوائد الخاصة : ضبطُ قَواعد عِلمِ المنطقِ وأُصوله ، والفوائد العامة : معرفة طُّرق الردِّ على أهل البدع والضلال .
وأهم هذه القواعد : معرفة طُّرق الإستدلال وإقامة الحجة والإعتناء بفهمِ الأقوالِ وحقائقِها من خلال التعريف ووكيفية الحكم عليها .

وكيفية توظيف العقل لتحفيز الناس لتدبُّر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وللحذر من تقديمِ المعقول على المنقول ، ولمعرفة كيفية قصر الشي على بعض أفراده بعد إستيعاب تلك الأفراد ، وهذا لا يكون إلا بفهم المعاني فهماً صحيحاً من جميع وجوهها بلا تأويلٍ أو تدليسٍ
وللوقوف على طرائق دعاوى المُتكلِّمين والمصنِّفين والمتعالِمين ، وهذا في نفس الوقت يُساعدُ على معرفة عُقول ومناهج العلماء في مُصنَّفاتهم وطرائق البحث عندهم ، ومعرفة عقائدهم ومذاهبهم وما تنطوي عليه عِباراتهم ومسائلهم .

وهذه المسألة مُهمة أشار إليها القاضي أبو يعلى (ت: 458هـ) رحمه الله تعالى ، كما في كتابه ” العُدَّة ” ( 1/ 94) ، والفتوحي (ت:972هـ) رحمه الله تعالى ، في ” الكوكب المنير ” ( 1/85) ، وقد خالف الأشاعرةُ والمعتزلةُ فمنعوا ذلك كما في ” المغني ” لعبد الجبار المعتزلي (ت: 415هـ)و الباقلاني (ت: 402هـ ) في ” تمهيد الأوائل ” ، والذي يظهر أن قصدهم من ذلك تجويز التأويل والتفويض في النُّصوص ، نسأل الله السلامة .
ويُمكن الإفادة من المُقدِّمة في معرفة الأوصاف وعواقب الُأمور التي دلَّت عليها النُّصوص والقرائِن ، وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات ، والإفادة من قاعدة الاثنين أكثر من الواحد ، واستحالة كون الجسم في مكانين ، كما حقَّقه الإمام الغزالي (ت: 505هـ ) رحمه الله تعالى في ” المستصفى ” .

ويُمكن الإفادة من المُقدِّمة في معرفة النِّسبة بين الألفاظ والمعاني عند ضرب الأمثال ، مثل تقدُّم العِلم الفردي في الإدراك على العلم النسبي الإضافي في كل ذات من الذوات ، لأن الحُكم على الشي فرعٌ عن تصوره .
وكذلك فهم أن التصديق والتكذيب حُكمان من سائر الأحكام ، وأن الحُكم فرعٌ الإخبار عن شيٍ بصفة من الصفات ،فلا بُدَّ من تمييِّز الخبرِ بالصحة أو عدمِها بحسب الأحوالِ والقرائِن الصحيحة .

ولا يصحُّ أن يوُجدَ خبرٌ من مُفردةٍ واحدةٍ ، وبعد الإضافة يُمكنُ الحُكمُ على الجُملة بِحسب المقام .
ويمكن الإفادة منها بالتأمُّل في المُفردات البسيطةِ والمركَّبة لإستخراج المعاني والأمثلة مثل :
ميمونة بنتُ الحارثِ رضي الله عنها ، هي آخر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ الواحدَ نِصف سُّدس الاثني عشر ، ومثل : تركي بن عبد الله هو الجدُّ الثاني للملك عبد العزيز ، رحمهما الله تعالى ، ومثل : قبيلة جُرهم هي أوَّل من سكن مكة، وهكذا .

وفي المُقدِّمة تشبيهات جميلة يُمكن الإفادة منها في تعزيز القُوى الذِّهنية والمعاني الإدراكية ، كما في قول الغزالي رحمه الله تعالى : ” ومثاله في المحسوسات البيت المبنيُّ ، فإنه أمرٌ مُركَّب ، تارةً يختلُّ بسببٍ في هيئة التأليف ، بأن تكون الحيطانُ مُعوجَّة والسقف منخفضاً إلى موضعٍ قريبٍ من الأرض ، فيكون فاسداً من حيث الصورة ، وإن كانت الأحجارُ وسائرُ الآلاتِ صحيحةً ، وتارةً يكونُ البيتُ صحيح الصورة في تربيعها ووضع حيطانها وسقفها ، ولكن يكون الخللُ من رخاوة في الجذوعِ وتشعُّب الِّلبنات .
هذا حُكم البرهان والحدِّ ، وكُّل أمرٍ مُركَّب ، فإن الخللَ إما أن يكون في هيئةِ تركيبهِ ، وإما أن يكونَ في الأصلِ الذي يرِدُ عليه التركيبُ “.

وفي المُقدِّمة أمثلةٌ طريفةٌ يُمكن الإفادةُ منها في مسألة حضور الذِّهن في دلائل الأخبار ، مثل :
” ولا يبَعدُ أن ينظر الناظرُ إلى بغلةٍ منتفخةُ البطنِ، فيظن أنها حاملٌ، فيقال له هل تعلم أن البغلة عاقرٌ ؟ فيقول : نعم ، فيقال : وهل تعلم أن هذه بغلةٌ ؟ فيقول : نعم ، فيقال : فكيف توهَّمتَ حملها ؟ ” .
والبرهان في المقدِّمة يحصلُ بمقدِّمتين صغرى وكبرى مثل :
العِلم نور ، وكُّل نورٍ يهدي صاحَبه .

ومن فوائد المُقدِّمة التي يُمكن الوقوفُ عليها :
معرفة أنواع الألفاظِ وأقسامُها ، هل هي مُفردات أم مُضافة ، وهل هي مُشتركة أم متُواطئة أم متُباينة أم مثترادفة ، وهذا المعنى يرِدُ كثيراً في نصوص الوحييِّن فيجبُ التفطُّن لهذه المسألة .
مثل لفظة الصلاة لها معاني مُتعدِّدة ، ولفظة الدُّعاء ، ولفظة الزكاة ، ولفظة القُرء ، ولفظة العَين ، وهكذا .
ويجب التفطُّن إلى أن بعض أرباب البدِّع استفادوا من هذه المسألة في تأويل أو نفي الصفات ، فيجب الحذر من دسائس أهلِ الفرقِ والمقالات في هذه الجزئية .

وفي المُقدِّمة ترويض للذِّهن على أنواع المعاني المدركة : المحسوسة والمتخيَّلة والمعقولة ، ويُلحق بهذه المسألة خِلاف العلماء حول محلِّ العقل : هل هو في الرأس أم في القلب ؟! .
وثمرةُ الخلِافِ في هذه المسألة تبرزُ عند من أُصيبَ في رأسة إصابةً بالغة ، هل يُحكم له بِديةٍ كاملةٍ ؟! ، والمسألةٌ طويلةٌ ، ليس هذا محلُّها . وقد أشار إلى المسألة الزركشي (ت: 794هـ)رحمه الله تعالى في ” البحر المحيط “( 1/ 90) فلتراجع.

وفي المُقدِّمة : تدريب للطالب على كيفية المُغالطة وكيفية الحذرِ منها ، لكن المؤلِّف لم يُطل النَّفس فيها ! .
وهي مِثلُ : تحريفِ حُجةِ الخَصم ، وإستخدام العاطفةِ والمشاعرِ في التأثيرِ على الخَصم أو المستمعِ ، أو الحديثِ عن الشخص بدلاً من تفنِّيدِ حُجته أو نقض كلامه ، وعلى هذا النحو يُمكن فهم المراد .
ويُمكنُ الإستغناءُ عنها بمراجعة أحكام الحِيَلِ في المُصنَّفات الفقهية مثل : مسألةِ من اجتمع عليه حقٌّ من حقوق الله كالنَّذرِ ، مع وقت وجوب الزكاة ، هل تسقط الزكاة عنه ؟! ، والراجح : أن دَّين اللهِ لا يمنعُ وجوب الزكاة ، وهو قولٌ عند الأحنافِ والمالكيةِ والأظهرُ عند الشافعية .

ويمكن مراجعة المسألةِ للتدرُّب على طريقة تفنِّيد الحجة في ” تبييِّن الحقائق ” للزيلعي ( 1/ 254) و” الفواكه الدواني ” للنفراوي( 2/ 755) و” المجموع ” للنووي ( 5/ 345 ) .
وفي المُقدِّمة تدريب للطالبِ على أصول الجدل والمناظرة والمنعِ والهدمِ وسدِّ المنعِ والنَّقضِ والمعارضة بالقلبِ أو بالمثل أو بالغير ، وفيها تنبيهٌ على قاعدةِ الإستدلال وإستسلافِ المُقدِّمات .

وراقمٌ هذه الأسطرِ ينصحُ بقراءةِ شرح حديث أبي سفيان رضي الله عنه مع هِرقل ملك الروم ، في صحيح البخاري / كتاب بدء الوحي ) فإنه مفيدٌ جِداً في هذه المسألة .

(د) : المصطلحات الواردة في المُقدِّمة المنطقية :
وردت في المُقدِّمة مصطلحات كثيرة بمعرفتها يمكن للطالب فهمُ بعض القضايا والمسائلِ التي طرحها المَناطقةُ .
وقد قمتُ بحصرِ المُصطلحات فبلغت مِئة مصطلحٍ تقريباً ، ويمكن الوقوفُ على المعاني الواردة فيها من خلال الدِّراسة أو إستشارة مُعلمٍ حاذقٍ بتلك المسائل .

وهذا مسرد لتلك المصطلحات على حسب ورودها في المُقدِّمة :
الحدُّ ،البُرهان ، إدراك الذوات المفردة ، إدراك نسبة المفردات ، التصوُّر ، التصديق ، العلم ، المعرفة ، البسيط ، المُركَّب ، الأوليُّ ، المطلوب ، الضروريات ، النظريات ، الحدُّ الحقيقي ، الحدُّ الرسمي ، الحدُّ اللفظي ، الماهية ، الكيفية ، الذاتي ، الوصف اللازم ، الوصف العارض ، الأوصاف الذاتية ، الجِنس ، الفصل ، الجوهر ، الموجود ، النامي ، غير النامي ، الموجود ، النقيض ، المُعارضة ، المُقدِّمات ، التركيب ، المطابقة ، التضمُّن ، الإلتزام ، المتُرادف ، المتباين ، المتواطىء ، المشترك ، المختار ، الإدراك ، المعاني المحسوسة ، المعاني المُتخيَّلة ، المعاني المعقولة ، العقل ، الفِكرة ، التأليف بين المفردات ، الحكم ، المحكوم عليه .
القضية ، القضية المُطلقة ، القضية النافية ،القضية العامة القضية المُهملة ، النتيجة ، المُقدِّمة المظنونة ، المُقدِّمة المُسلَّمة ، القياس ، المبتدأ ، الخبر ، العلة ، المُقدِّمة الأولى ، المُقدِّمة الثانية ، التلازم ، وجود الشرط والمشروط ، إنتفاء الشرط والمشروط ، ثبُوتُ الأعمِّ ، إنتفاءُ الأعمِّ ، ثُبوتُ الأخصِّ ، إنتفاءُ الأخصِّ ، لزومُ الوجود بالوجود ، لزوم الإنتفاء بالإنتفاء ، السَّبرُ والتقسيم ، القصورُ في العِلم ، إهمالُ إحدى المُقدِّمتين ، التلبيسُ على الخَصم ، إنقطاعُ المُطالبة ، إقامةُ الدليل ، اليقين ، الظن ، درجات اليقين والظن ، الأوليات ، المشاهد الباطنة ، عوارض المحسوسات ، المحسوسات الظاهرة ، أسباب الغلط ، التجريبيات ، اطِّراد العادات ، المتواترات ، الوهميات ، المشهورات ، المطلوب بالنظر ، خروج القضية على القضيتين ، صدق المُخبِر ، اعتقاد الخَلق ، المجهول ، فهم المفردات ، الاستدلال بالعِلة على المعلول ، الاستدلال بالمعلول على العلِة ، الاستدلال بأحد المعلولين ، الاستدلال بالاستقراء .

(ه) تنبيهات وإستدراكات منطقية مهمة :
تقدم في أول هذا المقال أن مجمل القواعد المنطقية مستقاة من ترتيب أرسطو الذي يُدعى بالمُعلِّم الثاني ، بعد شيخه أفلاطون المُعلِّم الأول .
وقد اشتمل ذلك المنطق على ملاحظات وإستدراكات ، بعضها صحَّحهُ المسلمون ، والبعضُ الآخرُ لم يًصحَّح ، فدخل منه بلاٌء عريضٌ لا يُمكنُ وصفُه .

فيجب على الطالب الوقوف عليها حتى يكون فهمه صحيحاً غير منقوص :

1-أشار أرسطو الى أنواع القياس الاستقرائي والجدلي والخطابي، لكنه اعتنى بالقياس الكُّلي الشُّمولي الصُّوري ، وقد سمَّاه القياس البرهاني .
طريقة ارسطو في استخدام هذا القياس تتمثل في : الاستقراء من الجُزء إلى الكل ، ثم جمع الجزئيات للظاهرة الواحدة وتحليلها وتمحيصها ومقارنتها ، ثم الاستنتاج منها وبذلك يخرج لنا النتيجة أو القياس الكلي البرهاني .
وقد أشار أرسطو إلى قاعدة مهمة في كثير من كتبه وهي : ضرورة ممارسة القياس الإستقرائي مع الصغار وأحياناً مع العوام ، أما القياس الصُّوري الإستنباطي فيكون مع المختصين فقط .
وهذه مغالطة وقع فيها أرسطو ونقلها عنه المُتفلسفة من المسلمين والمستعربين ، وهي أن جميع أنواع الأقيسة فطرية في البشر لا تحتاج إلى قانون لتنظيمها بين أصناف الناس في العادة لسببين ، الأول : أن أنواع القياس مُرتبطة ببعضها ، لأن العلاقة بين القياس الصُّوري والإستقرائي علَاقة فرعٍ بأصلٍ ونتيجةٍ بمقدمةٍ ، فالصُّوري فرعٌ من الإستقرائي ونتيجة لمقدمته .
الثاني : أن موضوع الفِكرة أو البحث هي التي تُحدِّد نوع القياس ، فالعمرُ أو المهنةُ أو جِنسُ الإنسانِ أو صِّفتهُ لا عَلاقة لها بتحديد الأقيسة .

2-أرسطو يُدلِّسُ ويَخلطُ لأسبابٍ مذهبيةٍ وعلمية بين القياس الإستقرائي والصُّوري ، فالأول هو من الأقيسة الجزئية التي تقومُ عليها كُّل العلوم ، والثاني نتيجةٌ من نتائج القياس الجزئي .
وقد زعم أرسطو أن القياس الصُّوري هو من المُقدِّمات الكلية ، لأنه يعتقد أن الكليات نتيجة للقياس الجُزئي ، وهذا خطأٌ أقرَّ به حتى عُلماء الغربِ اليوم في جامعاتهم وبحوثهم .
والصحيح أن القياسَ يجبُ أن يكون بمعرفة الكُليِّ والجزئيِّ معاً ، لا تقديم أحدهما على الآخر في الذِّهن كما يُقرِّره أرسطو في مصنفاته .
والقاعدة المشهورة التي يُردِّدُها المناطقة : ” لا عِلم إلَّا بالكليات ” قاعدة مَغلوطة تلقَّفها المناطقةُ من التأسيس السابق دون تمحيص وتهذيب لمعناها ومغزاها ، فَضَّل بسببها فِئامٌ كثيرةٌ من أهل المذاهب .
فالصحيح العلِمُ بالجزء ثم العلم بالكُّل . ولهذا نجد في القرآن أدلةً كثيرةً على تقديم الجُزء على الكُّل ، كقول الله تعالى : ” عالِمُ الغيب لا يعزب عنهُ مِثقالُ ذرةٍ في السمواتِ ولا في الأرضِ ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبر” ( سبأ : 3 ) ، وقوله سبحانه : ” وما تكونُ في شأنٍ وما تتلو منهُ مِن قُرآن ٍولا تعملون من عملٍ إلا كُنَّا عليكم شهوداً ” ( يونس:61 ).
فربُّنا سبحانه يخاطب الخلق أنه يعلم ما يعملونه وما يُشاهدونه ، سواءٌ كان محتقراً عندهم أو عظيماً في عُيونهم وقلوبهم .
ومما يؤكد ما سبق أن صناعة المهن مثلا تبدأ بجزء صغير ثم تكبرُ رويداً رويداً حتى تكتملَ ، كالبِناء والخِياطة وحفرِ البئر وسقي الزرع وكَنس القُمامة ، ونحوها من المِهن والمشغولات .

3- أرسطو لا يجيز الإستقراء إلا إذا كان بحس وحواس لأنه يعتقد أنه من الكليات ، وأنه أبين وأكثر إقناعاً . وهذا الحكم إفتئاتٌ على أنواع القياس الأخرى وتحجيم وإستصغار لها . والصحيح أن الإستقراء وغيره من أنواع الأقيسة تصح إذا كانت بتأمُّل ورويَّة ونظرٍ ثاقب .

4- أرسطو جعل المِعيار بين الحق والباطل هو إتقان علم الجدل دراسةً وفهماً ، بغضِّ النظر عن الحقيقة من وراء ذلك ، وسببُ ذلك أنه يعتقدُ أنَّ الجدل علِمٌ ظنِّي لا يُوصلُ إلى النتيجة الصحيحة ، وكان يُسمِّيه مَنطقُ الإحتمال .
وهذا التقعيد من أرسطو مُخالفةٌ لشيخة أفلاطون الذي كان يعتني بالجدل وينظرُ له نظرةً يقينية عالية، وهو عنده من الضروريات للوصول إلى الحقيقة ، وكان يصفهُ بأنه الرافع للعقلِ من المحسوس إلى المعقول .

5- أرسطو خالفَ تأسيسَ قواعد القياسِ التي قعَّدها أفلاطون لتلاميذه وطُّلابه التي رويت عنه واشتهرت ، والتي كانت تُسَّمى القِسمة الثُّنائية الأفلاطونية وهي :أن الجدل نوعان صاعدٌ ونازلٌ .
فالصاعد يبدأٌ من الإحساسِ إلى الظنِّ، إلى العلم الاستدلالي ، الى المعقول ، الى أن يصل إلى العِلم بالكُليِّ ، والنازلُ ينزل من أرفعِ الكليات الى أدناها ، بتحليلها وترتيبها الى أجناس وأنواع .

6-أرسطو في مُقدِّماتِه للقياس الصُّوري أو البرهاني كما يُسمِّيه ، استفاد من فلسفة السُّوفسطائيين الذين سبقوهُ في تعليم الناس التلاعب بالألفاظ ، واستخدام المغالطات لإفحام الخصوم ، ولهذا سَمَّى المُحقِّقون هذا القياس بالقياس الصُّوري ، فهو شكلي لا مضمون حقيقي له ولا لقيمتهِ في الميزان العلمي .
وسبب ذلك أنه اعتنى بمعرفة العِلةٍ أولاً وآخراً ، ووصفها بالأمر الكُليِّ، وأغفل ما عداها من قضايا حالية أو كيفية ووصفها بالأمر الجزئي ، ففي ميزانه يكون البرهانُ الأقوى هو الكُلي .
وهذا التدليس المُتعمَّد – الذي أبان عنه باحثون غربيُّون اليوم – من أرسطو القصد منه جعل الجزئيات من نتائج أقيسة الكليات ، والصحيح العكس كما تشهد به العقولُ الصحيحةُ والفِطرُ المستقيمة .
ومثال ذلك الزرعُ اليابسُ الذي يُضربُ به المثل في القرآن في هَوان الدُّنيا وسُرعة إنقضائها ، أوَّله حبةٌ فماءٌ يسقيها ، ثم خُضرةٌ وبهجةٌ ، ثم يبُسٌ وتكسُّر وتفتُّت وزوال.
فهذا المثَلُ الكُّلي جاء من القِياس الجُزئيُّ الذي يعرفه أهلُ الألباب المدركة الواعية .

7-الأقيسة التي يتشدَّق بها المناطقة ويتكلَّفون لها من عهد أرسطو الوثني ، ثم أبي نصر الفارابي (ت: 339هـ) المُتفلسِف ، مروراً بابن سينا(ت: 428هـ) الباطني المتمنطق ، ثم ابن رشد (ت: 595هـ ) المُقلِّد، ثم أبي جعفر الطُّوسي (ت: 672هـ) الرافضي ، هي في الأصلِ لا وجود لها في الأذهان إنَّما وجودها في الأعيان ، فلا يمكن ضَبطُها ولا حَصرُها ولا تحديدُ معالمها ، وهذا يؤُكد زيفها وكونها مُهلهلَة لا ثباتَ لها في القلب ولا في العقل ، فكيف إذن يتم تعميمُها وجعلها أصلاً للنظر والتفكير .
ولو فتشَ عَاقلٌ فَطنٌ عن أسانيد هذه الأقيسة – إن وجدت – لوجدها منقولةً عن المتُفلسفة عن الصابئة عن الوثنييِّن عن المشركين ، الذين فاق شِّركهم شِّرك العرب ، عياذاً بالله تعالى.

8-الله تبارك وتعالى وهبَ البشر الحواس الثلاثة الرئيسة للمعرفة والعلم والإدراك واليقين ، ويستوي في هذا الكبيرُ والصغير والذكيُّ والأحمق والقادرُ والأخرق ، لكن تَلك الحواس تَضعفُ أو تتوسطُ أو تَقوى من فئةٍ دون أخرى . ويُشترطُ للإفادة من الحواس الثلاثة الرئيسة فهم اللُّغة ومُخالطة الناس ، والتروِّي والتعقُّل في الأقوال والأفعال . وقد ثبتَ أن رجلاً كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يُخدع في البيوع ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إذا بايعتَ فَقل لا خِلابة “. متفق عليه .
ولما جاءه رجلٌ أقرَّ على نفسه بالزنِّى ، قال له : ” أبِك جُنونٌ ؟ ، فقال : لا ، فأمرَ بِرجمهِ “. متفق عليه .

9- اشتراط مُقدِّمتينِ للبُرهانِ بصورةٍ مطلقةٍ غيرُ صحيح ، فقد ثبتَ بالمعقولِ والمنقولِ وجود براهينَ بخمسِ مقُدِّمات مَنطقية وربما أكثر ، مثل حديث جبريل عليه السلام المشهور في الإيمان والإسلام والإحسان وأشراط الساعة ، ومثل حديث النجاشي مَلِك الحبشة رضي الله عنه ، مع رجال قريش ، ونحوها من الأحاديث الطويلة ، وهي صحيحة ومشهورة .

10- لو أن الطالبَ أطال النظرَ في تفسير القرآن المجيد وعلوم العقائد وعلوم العربية ، لكفاهُ ذلك عن كثيرٍ من كُتب المنطق والجدل . والأولى والأسلم للمُطالعِ والطالبِ والباحثِ ، أن تكون مُذاكرتُه لهذا العلمِ بقدر الحاجة ، فما أسكر كثيرهُ فَقليلهُ حرام .

(و ) : أهم المُصنَّفات لفهم المُقِّدمة والمنطِّق :
من أراد فهم المُقدِّمةِ والمنطقِ فهماً صحيحاً مُتقناً، فعليه بقرآءة المُقدِّمة المنطقية من كتاب ” روضة الناضر” لابن قدامة أو من ” المستصفى ” للغزالي ، رحمهما الله تعالى ، بشرط أن يكون ذلك على مُعلمٍ أو شيخ ٍمُتقن ، وعنده حظٌّ من عِلم التوحيد والسُّنة النبوية ، على جادَّة السلف ، لا على جادَّة الخَلَف ، ثم قرآءة سُّلم المنطق للأخضري(ت: 983هـ) رحمه الله تعالى ، مع شرحه للدَّمنهوري (ت: 1192هـ) رحمه الله تعالى، ثم نُزهة الخاطِر لابن بدران (ت: 1346هـ) رحمه الله تعالى في أُصول الفقه ، ليجمع بين المنطقِ والُأصولِ في ذِّهنه ،وليعرفَ الفُروق الجوهرية بين الفنيَّين وقواعدهما ، ثم طُّرق الإستدلال ومُقدِّماتها ليعقوب الباحسين ، ثم ” الردُّ على المنطقييِّن ” لابن تيمية (ت: 728هـ) رحمه الله تعالى .

فإذا أتقن هذه المُصَّنفات الخمسة ، فسيكونُ جبلاً في فهم المُقدِّمة والمنطقِ والأُصولِ ، إن شاء الله تعالى.

وفي نهاية المقال أودُّ أن أؤكِّد على أن طالب العلم والباحث والناقد هم أولى الناس بتلمُّسِ معالم هذا الفنِّ، لأن المسائل الصحيحة منه تُحصِّنهُ من الخطأ في إنتقاء الأدلة ، فليحذروا من إنزال كلام العلماء منزلة النصِّ ، أو تقديس الموروث العلمي الذي يفتقر إلى دليل صحيح صريح ،وعدم تحقيق المناط ، وتقديم النتيجة على البرهانِ ، لأن ذلك يُفضي إلى الدَّور . ويجب عليهم التفريق بين الدليل الأصليِّ والتبعي ،والتفريق بين الأدلة والإعتراضات ، وضرورة تنقيح العِللِ والأوصافِ ، والله الهادي .

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات .

د/ أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بمعاهد القوات البرية

__________________

مؤسِّس مُدوَّنة المتوقِّد التأصيلية
http://ahmad-mosfer.com/