كِتابُ النُّبذةِ الكافيةِ في أحكام أصول الدِّين ، أو النُّبذ في أُصول الفِقه الظاهريِّ ، للإمام علي بن أحمد ابن حزم الأندلسيِّ (ت: 456هـ) رحمه الله تعالى ، من نفائسِ مُتون الُأصول التي ترُبِّي المَلَكة الأُصولية لمن رَام فهمَ عِلم الأُصول والحُكمَ على المعقولِ والمنقولِ .

والكتابُ وإن كان لا يخلو من مُلاحظاتٍ ، فإن فيه منهجاً فريداً لَأساليبِ تعظيم النُّصوص والإستنباط منها ، وتربية المَلكة الأُصولية .

وإنَّني بهذه المناسبة أنصحُ نفسي ومن يقرأُ هذا المقال من المُعتنين الكِرام الخِيرَة ، أن يتأملوا هذا السِّفر الموجز البليغ في عباراته وأحكامه وقواعده المُختصرة ، فإنه يُمهِّدُ على المطالعِ كثيراً من عَناء الأُصول الذي لا يعرفهُ إلا من صَعُب عليه مُراده وعَزَّ مَرامه في مسائلهِ الوعرة ، التي لا يُطيقها إلا الرجال المهرة .

وهذه نقداتٌ وتعقُّباتٌ واستدراكاتٌ موجزةٌ أمليتُها على بعض طُّلابي في الحَرم المكيِّ ، أثناء شرحي لِنُّبذ ابن حزم ، والنُّسخة التي إعتمدتُها في القرآءة هي نسخة الخانجي بمصر، طبعة سنة( 1431هجرية ) ، أسأل الله أن ينتفع بها من وقف عليها من صالح عباده ، إنه أكرمُ مسؤول وخيرُ مأمول ، وبالله تعالى التوفيق :

( أ ) : سبب تصنيف ابن حزم للنُّبذة الكافية :

صنَّف ابن حزم النُّبذة الكافية لسببين ، الأول : لشرحِ أُصول الإستدلال التي إعتقد صحتها ، على مذهب أهل الظاهرِ، ومن رغب في الوقوفِ على معرفة جزئيات الُأصول بنوعيه : أصول الدِّين وأُصول الفقه . الثاني : للردِّ على المُغالطات المنهجية والفقهية في تسفيهِ آراء الناقدين والناقمين لمذهب أهل الظاهر .

وقد حرص ابنُ حزمٍ رحمه الله تعالى أن يخلط فيها بين التقعيد الحديثيِّ والأُصوليِّ . فَيشترطُ لمن طالع هذه النُّبذة أن يُطالع طريقة ابن حزم في الإستدلال الحديثيِّ ،قبل أن يَدلف إلى مُطالعة ترجيحاته الأصولية .

وهذه النُّبذة الكافية لا تُغني عن الكتاب الأُم ، ولا يُنصحُ من أراد نقد المذهب أو التوسُّع فيه أن يكتفي بمُطالعتها فحسب ، لكنها زبُّدة ميسرة لكتابه ” الإحكام في أصول الأحكام ” ، فقد قال : ” فإننا لما كتبنا كتابنا الكبير في الُأصول وتقصَّينا أقوال المُخالفين وشُّبههم وأوضحنا بعون الله تعالى ومنَّه البراهين في كُّل ذلك ، رأينا بعد إستخارة الله تعالى والضراعة إليه في عونه على بيان الحق ، أن نجمع تلك الجُمل في كتابٍ لطيفٍ فَيسهلَ تناوله ويقرُبُ حِفظهُ ويكون إن شاء الله عز وجل درجةًإلى الإشراف على ما في كتابنا الكبير في ذلك ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ” ( النُّبذة الكافية : 9 ) .

وإنني أُرشدُ من فَهم هذه النُّبذة الكافية أن يُبادر لمطالعة كتاب ” الإحكام في أصول الإحكام ” ، ففيه من الفوائد والفرائدِ ما يعزُّ نظيره ، ولا يكاد يُوجد في سِّواه ، وليس الخبرُ كالمعاينة .

(ب) : المسائل الأُصولية التي ناقشها ابنُ حزم في النُّبذة :

المسائل التي ناقشها ابنُ حزم في كتابه أربعون مسألةً تقريباً، وهذا مَسردٌ لها على حسب ورودها في الكتاب :
التكليف ، الطاعة والمعصية ، الإجماع ، إجماع الصحابة ، إجماع العصر المتأخِّر ، إجماع أهل المدينة ، دعوى تخصيص الإجماع ، الراجح والمرجوح في الإختلاف ، النقل المتواتر ، خبر الواحد ، التدليس ، العدالة في الرواية ، المقطوع ، خبر الثقة ، وقوع اللفظة على معنيين ، دعوى النسخ ، حكم إنفاذ الأوامر ، تأخير البيان ، مواطن النَّسخ ، الأوامر والنواهي ، أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ، حُكم الخطأ والنسيان والإكراه ، حكم النِّية في الأعمال ، واليقين والشك في العبادات ، الواجب المُضَّيق والواجب الموسَّع ، حكم الإستثناء ، حكم مُدَّعي الصُّحبة ، حكم مخالفة الراوي لما رواه ، المتشابه من القرآن ، حكم حقوق الله ، حكم الأفعال بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيابه ، هل الحقُّ في قولٍ واحدٍ أم في الأقوال كُّلها ؟ ، حكم شريعة من قبلنا ، الحكم بالرأي ، الحكم بالقياس ، الأدلة العقلية والنقلية على بُطلان القياس ، حكم التعليل ، حُكم العملِ بدليل الخطاب ، حُكم التقليد ، حكم من لم تقم عليه الحُجَّة .

(ج) : المسائل الأُصوليةِ التي لم ينُاقشها في النُّبذة :

هناك مسائل أُصولية كثيرةٌ لم يُناقشها ابن حزمٍ في النُّبذة الكافية ، لكن أشهرها سِّت عشرة مسألة ، وهي إما مسائل تُفهمُ من سِّياق المسائل الأخرى ، أو مسائل أعرض عنها ابن حزمٍ خشية التطويل والإملال . وهذه المسائل جليلة عند الأصولييِّن عامة ، وهي :
الحكم الشرعي ، الرُّخصة والعزيمة وأثرها ، دلالات الألفاظ ، هل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدخل في الخطاب العام ؟ ، حكم الأمر بعد الحظر ، أحوال المطلق والمقيَّد ، العام وتخصيصه ، حكم تخصيص عامِّ القرآن بخبر الآحاد ، حكم المشترك والمترادف والأضداد ، هل الواو لمطلق الجمع أم تقتضي الترتيب ، حكم تقليدُ العالِم ِللعالِمِ ، المقاصد الشرعية وأحكامها ،المصالح المرسلة ، سدُّ الذرائع .

فإن قال قائل : ما فائدةُ هذه المسائلِ مع ورود أضعافها في النُّبذة الكافية ؟ قيل : التنبيهُ على ضوابط خطاب الله للمكلَّفين ، وتحريرُ محلِّ الخِلافِ في المسائل المتشابهة التي فيها أقوال ، ومعرفةُ حُدود الأوامر والنواهي ، ومتى يرتفع الإثمُ عن المكلَّف عند عدم قِيامه بالفعل ؟ ، وهل المكلَّفون يستوون في الخطاب الشرعي أم لا ؟ .

(د) منهجُ ابن حزم في النُّبذة الكافية :

سلك ابنُ حزمٍ رحمه الله تعالى في النُّبذة الكافية ثلاثة مسالك مهمة ، لإقناع القارىءِ بفقه الشريعة الإسلامية عامة وفقه الظاهرية خاصة .
المسلك الأول : المسلك البرهانيُّ : ويقصدُ به الدليل العقليِّ الموافق للفطرة ، وقد ساعدهُ تضلُّعه في المنطق من إستعمالِ هذا المسلك ، وتوظيفه لتضعيفِ وتصحيحِ الأدلة التي يستدلُّ لها أصحابُ المذاهبِ الُأخرى ، سواء كانت فقهية أو عقدية .

وقد أحصيتُ عددَ المرَّات التي قال فيها ابن حزم رحمه الله تعالى ” وبُرهانُ ذلك ” فبلغت عشرين لفظةً ، وهذا يدلُّ على توظيفه للبرهان العقليِّ، وسأضرب مثالينِ على هذا ، فقد قال : ” إذا اجتمعت الأمةٌ على إباحة شيٍ أو تحريمه أو إيجابه ثم ادَّعى بعضهم أن ذلك الحُكم قد انتقل ، لم يُلتفت إلى قوله إلا بنصٍّ ، وإلا فقولهُ باطلٌ ، لأنه دعوى لا إجماع معها ولا نص من كتاب ولا سنة ، فهي ساقطة ، لقوله تعالى : ” قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ” ( البقرة : 111) فصحَّ أن من لا برُهان له فليس صادقا أعني في ذلك ، وأما إذا جاء نصٌّ بحكم ما ، ثم خُصَّ الإجماع بعضهُ فواجب الإنقياد للإجماع . فإن إدَّعى مُدعٍ أن ذلك التخصيصُ متمادٍ ،وخالفه غيره فالواجب قطع ذلك التخصيص والرجوع الى النصِّ إذ هو البرهان ” ( النُّبذة الكافية /26) .

وقال أيضا : ” ولا يحلُّ أن يُقالَ في آيةٍ أو خبرٍ صحيحٍ : هذا منسوخ ، لما ذكرناه من أن قائل ذلك مُسقطٌ لطاعة ذلك النصِّ ، إلا بنصِّ آخر يُبيِّن أن هذا منسوخ أو إجماع مُتيقنٌ على نَسخهِ ، وإلا فلا يقدر أحدٌ على إستعمال النصِّ ، وأما ما دام يُمكننا جمع النُّصوص من القرآن والسنة فلا يجوز تركهما ولا ترك أحدهما ، لأن كليهما سواء في وجوب الطاعة ، وليس بعضها في وجوب الطاعة أولى من بعض ، قال تعالى : ” من يُطع الرسولَ فقد أطاع الله ( النساء : 80) فالواجب حينئذٍ أن يُستثنى الأقل من الأكثر إذ لا يوصل إلى إستعمالهما جميعا إلا بذلك، فإن عجزنا عن ذلك فلا يجوز التحكُّم في جمعهما بغير ما ذكرنا ، لأنه تحكُّم بلا برهانٍ ، مثل : أن يقول قائل : استعمل هذا النصَّ في وجه كذا وهذا النص في وجه كذا ، فهذا لا يحلُّ له ، لأنه شرعٌ في الدِّين لم يأذن الله تعالى به ” ( النُّبذة الكافية / 41) .

المسلك الثاني : الأدلة من الكتاب والسنة ، وقد ساق ثمانيةً وستين ومئة دليلٍ لتقعيد المسائل في النُّبذة الكافية .
وطريقته في إيراد الأدلة أنه يذكرُ المعنى أو الفائدة التي يُريد التدليل عليهما فَيعقِّبُ عليه بالنصِّ من الكتاب أو السنة الصحيحة ، مثال ذلك قوله : ” فالواجب أن لا يُحال نصٌّ عن ظاهره إلا بنصِّ آخر صحيح ،مخبرٌ أنه على غير ظاهره ، فنتبع في ذلك بيانَ الله تعالى وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم كما بين عليه السلام قوله تعالى : ” ولم يَلبسوا إيمانهم بِظُلم ” ( الأنعام : 82) أن مراده تعالى به الكفرَ، كما قال عز وجل : ” إن الشرك لظلم عظيم ” ( لقمان : 13) ، أو إجماعٌ مُتيقَّن كإجماع الأمة على أن قوله تعالى : ” يُوصيكم الله في أولادكم للذَّكر مثلُ حظِّ الأُنثيين ” ( النِّساء : 11) أنه لم يُرِد بذلك العبيد ولا بني البنات مع وجود عاصبٍ ، ونحو ذا كثير ، أو ضرورةٌ مانعةٌ من حَمل ذلك على ظاهره ، كقوله تعالى : ” الذين قال لهم الناسُ إن الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم ” ( آل عمران : 173) فبيقين الضرورة والمشاهدةِ ندري أن جميع الناسِ لم يقولوا : إن الناس قد جمعوا لكم ” ( النُّبذة الكافية :39 ).

المسلك الثالث : التقعيدُ والتأسِّيس : وهذا كثيرٌ مُستغرقٌ لثلاثة أرباع الكتاب ، وطريقتُه في التقعيد مختصرةٌ ، ثم يُردفها بدليلٍ أو تعليقٍ مُفيدٍ أو نقضٍ لأدلة المخالف .

• وهذه أمثلةٌ على ذلك :

1- ” لا يَحلُّ لأحدٍ أن يُفتي ولا أن يَقضي ولا أن يعمل في الدِّين إلا بنصِّ قرآنٍ أو نصِّ حُكمٍ صحيحٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إجماعٍ مُتيقَّنٍ من أُولي أمرٍ منا لا خِلاف فيه من أحدٍ منهم ” ( النُّبذة الكافية / 11) .

2- “من نفى شيئاً أو أوجبهُ، فإنه لا يُقبلُ منه إلا ببرهانٍ لأنه لا مُوجبَ ولا نافي إلا لله تعالى ، فلا يجوز الخبرُ عن الله تعالى إلا بخبرٍ واردٍ من قبله تعالى ، من القرآن أو السُّنة ” ( النُّبذة الكافية / 11) .

3- ” الإباحة تقتضي مُبيحاً ، والتحريم يقتضي مُحرِّماً والفرض يقتضي فارضاً ، ولا مبيحَ ولا مُحرِّمٍ ولا مُفترضٍ إلا الله تعالى خالق الكُّل ومالِكهُ ” ( النُّبذة الكافية :11) .

4- ” فضل المدينة باقٍ بحَسبِه ، والغالبُ على أهلها اليوم الفِسقُ بل الكفرُ من غالية الروافض ” ( النُّبذة الكافية : 24) .

5- ” إذا اختلف الناسُ على قولينِ فصاعداً فصح النصُّ شاهداً لأحدهما ، فهو الحق ، وإجماعهم في تلك المسألة هو الحجة اللازمة ، لأنه إجماعٌ أهل الحق ، وإجماع أهل الحق حقٌّ ” ( النُّبذة الكافية :25).
وهناك قواعد أخرى تركتها إختصاراً ، ولا تخلو صفحة من صفحات الكتابِ من إيراد قاعدةٍ أو اثنتين ، فلا نُطيل بتعدَادها ، ويلزمُ مراجعة الكتاب .

(ه) : تنبيهات على مواضع في النُّبذة الكافية :

رغم أهمية هذه النُّبذة ونفاستها إلا أن فيها مواضع مُنتقدةٌ ينبغي معرفتُها والوقوفُ عليها ، وهناك إستدراكاتٌ على مذهبِ أهلِ الظاهرٍ عموماً يجب التنبُّه لها .
وأُشيرُ هُنا إلى أنه يلزم الرجوعُ إلى نصِّ كلام ابن حزم رحمه الله تعالى في النُّبذة الكافية ليُعلمَ وجه السِّياق كاملاً ، وليستقيمَ فهمُ المعنى على وجهه الصحيحِ :

1- ابنُ حزمٍ لا يجمعُ بين النُّصوص عند الترجيج – وهذا في غالب الأحوال – بل يتعسَّفُ للبحث عن معنىً يُوافق أُصول الظاهرية ، وهو مُتأوِّلٌ في ذلك. انظر : ( النُّبذة الكافية : جميع فصول الكتاب تقريباً ) ، وفي إنكاره للقياس قال في الرسالة التي كتبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إلى أبي موسى الاشعريِّ رضي الله عنه : ” رواها رجلان متروكان “( النُّبذة الكافية : 82) .

وسببُ ذلك عنده ، أن الرِّجال على درجتين فحسب ، إما على الثقةٍ وإما على الضعفٍ . وحديثُ الثِّقة عنده في غاية الصِّحَّة وحديثُ الضَّعيف عنده في غاية السُّقوط ، وكان من مآلات هذا المنهج هو أنَّ الرَّاوي الثِّقة لا يُخطئُ أبدًا ، كما أنَّ الراوي الضَّعيف لا يَحفظُ أبدًا .

وكان من لوازمه : تركُ النَّظر في دقائق العِللِ والتَّرجيح بينَ روايات الحفَّاظ والثِّقات .

وبناءاً على ما تقدَّم فإنه لا وجود للحَديث الشَّاذِّ عند ابن حزم أو المُعلِّ وَفق جادة المحدِّثين .

وقد أسَّس أن دعوى الخطأ في خبر الثِّقة لا يجوز إلاَّ بإحدى ثلاث قواعد :
أ-إعتراف الراوي بخطئه .
ب- شهادةُ عدلٍ على أنَّه سمع الخَبر مع روايه ، فوهم فيه فلان .
ج -أن تُوجب المشاهدة بأنَّه أخطأ .
قال ابن حزم: ” ولكنَّا لا نلتفتُ إلى دعوى الخَطأ في رواية الثِّقة إلاَّ ببيان لا يُشكُّ فيه” ( المُحَّلى : 3/242) .

ومن إختياراته وتقعيداته : أنه ترك الاعتبار بالحَديث الضعيفٍ مطلقاً ، حتى ولو كان مُختلفاً فيه ، حيث أن ابنَ حزم يعتَبر حديث الضَعيف لا يُقبل حديثه أبدًا ، فيكون باطلاً غير صحيحٍ ، ولا يرتقي إلى الحسن إبدًا ولو جاء من ألف طريق ، ولا يُقيمُ وزنًا لمُتابعٍ ولا شاهدٍ ، حتى إنَّ بعض الأحاديث التي ضعَّفها أُصولها في الصَّحيحين وغيرهما ، فهو بمنهجه هذا لم يقبل كثيرًا من الأحاديث الَّتي هي مِن هذه الصفة .

فخلاصةُ منهج ابن حزم في الرَّاوي الضعيف عنده : هو تركُ حديثه مطلقاً وعدمُ الاعتدادِ به ، ولو كانَ ضعفُه يسيراً من جهة حفظِه ، وأنَّه لا وجودَ للمتابعات والشَّواهد عنده التي تبيِّن أنَّ هذَا الحديثَ له أصلٌ معين .
وخُلاصةُ منهجه في التَّدليس وزيادة الثِّقة : أنها مبنيةٌ على قاعدته ” أنَّ الراويِّ الثِّقة لا يُخطئ أبدًا ، وأنَّ الضَّعيف متروكٌ حديثه مطلقًا ، فهو عنده تدليسُ الثِّقة وتدليس الضَّعيف ، فتدليس الثِّقة عندَه مقبولٌ ولو عنعن ولم يصرِّح بالسَّماع ، جَرياً على أن خَبر الثِّقة مقبولٌ مطلقًا ولو خالفَ أو دلَّس .

وتدليس الرُّواة الضُّعفاء مردودٌ عنده مطلقًا ، بل ذلك جرحٌ فيهم ، وعليه تُردُّ جميعُ رواياتِهم ولا يقبَلُهم صرَّحوا بالسَّماع أو لم يُصرِّحوا ، فما دام أنَّهم ضعفاء فهُم في حيِّز المردودين ، ولم يَسِر على سَنن المُحدِّثين في هذه المسألة إلاَّ مع راوٍ واحدٍ ، وهو أبو الزُّبير المكِّي ، لأنَّه صرَّح هو بذلك ، بل ولاضطرابه في هذه المسألة نُسبَ إلى التَّناقض.

وخُلاصةُ منهجه في قول الصحابي : أنه لا يَعتبرُ قول الصحابي : ” أُمرنا أو نُهينا من قَبيل المرفوع ، فهُو لا يعدُّ القَول منسوبًا إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، إلاَّ إذا قال الصحابي : قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أو نحو ذلك ، فلابدَّ من التَّصريح ، لأنَّه يَرى أنَّ قول الصَّحابي هذَا قَد يكونُ اجتهادًا منه هُو ، وهذا احتمالٌ وإذا دخَل الاحتمال بَطل أن يكونَ هذا مسندًا إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .

2- ردَّ ابنُ حزمٍ الإحتجاجَ بمفهوم الموافقة الذي هو دلالة الَّلفظ على ثبُوت حكم المنطوق به للمسكوتِ عنه ، لإشتراكهما في معنىً قصدهُ المتكلِّمُ في الخِطاب يُفهم من سِّياق الكلام ويُدركه كُّل عارفٍ بالُّلغة ، انظر : ( النبذة الكافية : 42- وما بعدها ) ومُستندهُ في ذلك هو رفضهُ لتعليل الأحكام . لأن مفهوم الموافقة شبيهٌ بالقياسِ الجليِّ، ولا قياسَ بدون تعليلٍ للأحكام ، بل مَدارُ القياس على التعليل.

3- ردَّ ابنُ حزمٍ تعليل الأحكامِ واعتبره باطلاً وكذبا ً، انظر : ( النُّبذة الكافية : 76و79 ) ،وكان مُستندهُ أنهُ فهم أن بعض الآيات تُحرِّم على العبادِ عِلل وحُكم فعل الله وشرعه ، كاستدلاله بقول الله تعالى : ” لا يُسئلُ عمَّا يَفعلُ وهم يُسئلون ” ( الأنبياء : 23 ) .
لكن يجب التنبيهُ إلى أن ابن حزم يثُبتُ الأسبابَ الشرعية ولوازمها الحُكمية ، أما العللُ التي لم ينصَّ عليها الشارعُ فيعدُّها نزعةً فلسفية لا قِيمة لها .

4- ردَّ ابنُ حزمٍ الإحتجاجَ بمفهوم المخالفةِ ، انظر : ( النُّبذة الكافية : 84) ، وهي إثباتُ نقيض حُكمِ المنطوق للمسكوتِ عنه ، إذا قُيِّد الكلامُ بقيدٍ يجعلُ الحُكمَ مقصوراً على حالِ هذا القَيد ، وسببُ ذلك عندهُ ظُّهور التعليلِ فيه ، وهو مردودٌ عنده .

5- ردَّ ابنُ حزمٍ الإحتجاجَ بالقياسِ بجميع أنواعه وأقسامه ، ونفى أن يكون مصدراً من مصادر التشريع المعتمدة ، لأنَّ النصوص عندهُ شاملةٌ لجميع الوقائع في جميع الأزمان ، انظر : ( النُّبذة الكافية : 72- وما بعدها ) ، وقد إستدلَّ على مذهبه بآية إكمال الدِّين ( المائدة : 3) وآيةِ النهي عن التقدُّم بين يدي الله ورسوله ( الحجرات : 1) وآيةِ النهي عن الخوضِ فيما لا يَعلمُ الإنسان ( الإسراء : 36) وإستدلَّ بغيرها من الأحاديث والآثار .

ويُردُّ عليه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إنها ليست بنجس ، إنها من الطوَّافين عليكم والطوافات ” أخرجه أصحاب السُّنن الأربعة بإسناد صحيح ، وبحديث: ” كنتُ نهيتكم عن إدِّخار لحوم الأضاحي من أجل الدافَّة التي دفَّت ” متفق عليه ، واللَّفظ لمسلم ، وبحديث: ” إنها لا تحلُّ لي ، إنها ابنة أخي من الرضاعة ” متفق عليه .

6- ابنُ حزمٍ رحمه الله تعالى يستعملُ المنهج المنطقيَّ في تقرير أفكاره ومسائله ، انظر : ( النُّبذة الكافية : 11) فقد إستدلَّ بطريقةٍ خفيةٍ وذكيةٍ ، إلى وجوب إتباع مذهب أهل الظاهرٍ ونبذ ما سِواهُ من المذاهب ، وقد تفوَّق في تقرير هذا المنهج في سائر مصنفاته .

لكن يؤخذُ عليه أن هذا المنهج لا يصلحُ في كل زمان ومكان ، وبعض إستنباطاته العقدية والأصولية وقع فيها الخطأُ بسبب هذه الطريقة في التقريرِ والتأكيدِ للنتائج ، مثل نفيه لبعضِ صفاتِ الله تعالى عندما خلطَ أفكار الفلاسفةِ بأفكار المعتزلة ، وردِّه لإجماع أهل المدينة وللإستحسان بدون تفصيل منه وتوضيح ، فيجب التفطُّن لهذه المسألة المهِمَّة .

7- ردَّ ابنُ حزمٍ إجماعَ أهل المدينة بإطلاق ولم يستثن ، انظر النُّبذة الكافية : 24 ) ، وهذه عادتُه سامحهُ الله بسبب حِدَّته وعُنفه عند تقرير المسائل .
وعملُ أهل المدينة أقسام : العمل في العصر النبوي ،والعمل في عصر السلف ، والعمل المتأخر، ولكلٍّ حُكم خاصٌ به ،كما هو مُقرَّر عند الأصولييِّن.

8- ردَّ ابنُ حزمٍ الإجماع الذي نصَّ عليه أهلُ العلم ولا دليل عليه ، انظر : ( النُّبذة الكافية : 26 ) وقد تعقَّبهُ الإمام ابن تيمية (ت: 728هـ)رحمه الله تعالى في مسائل الإجماع ، انظر : ” مجموع الفتاوى : ( 19/194) .

9- الخُطوط العريضة لتأصيلات ابن حزم رحمه الله تعالى أنه لا يأخذٌ بقول الصحابيِّ إلا إذا كان هناك إجماعٌ يعضدهُ من صحابة آخرين ، وقد اشترط اليقينية في الدليل وعدم إعتبار الظنِّ الراجح ، والقول بإبطال الرأي المجرد ، ولم يقل بالمصالح المرسلة لأنها إستحسانٌ مذموم ، ولا بسدِّ الذرائع ، وهو لا يَردُّ المجاز ولا يعتبره تأويلا، بل يعدُّه من ظواهر الألفاظ ،فتأمل ! .

10- توسعَ ابن حزمٍ رحمه الله تعالى في الإستصحاب وهو البراءة الأصلية ، أو البقاء على الأصل فيما لم يُعلم ثُبوتُه وانتفاؤه بالشرع ، وهو عُمدتهُ في الإستدلال غالباً . ومع أن الإستصحاب أضعفُ الأدلة ، لكن ابن حزم نَزعَ إليه لأن منهجه إبطال القياس والتعليل .

والإستصحابٌ أنواع ليس هذا محلُّ بسطها ، لكن طريقة ابن حزم فيه أنه يستصحبُ البراءة الأصلية وهي العدم الأصليِّ حتى يَرِدَ دليلٌ يرفعُ الأصل ، ويستصحبُ العموم حتى يَرِدَ التخصيصَ ، ويستصحبُ النصَّ حتى يَرِدَ النَّسخُ .

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات .