وسطيّة الإسلام بين اليهوديّة والنصرانيّة، دراسة تحليليّة مقارنة، إعداد: بوودن دحمان.
مذكرة مكملة لنيل درجة الماستر في مقارنة الأديان
المقدمة ونتائج البحث
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
لقد سارت البشريّة منذ نشأتها مع رسل الله المتتابعين إليها حتى كان التهيؤ الكامل لها بمجيء رسالة الإسلام، فقد فضّل الله عزّ وجل دينَ الإسلام وخصّه عن باقي الأديان بأن جعله خاتمها، لما فيه من تكامل وشمول لجميع الاحتياجات الدينيّة والدنيويّة، فالإسلام منهجٌ ربانيّ صالحٌ لكلّ زمان ومكان، فهو دينُ الفطرة، ودينُ التحرّر من العبوديّة لغير الله عزّ وجلّ، يمتاز بالسماحة واليُسر، ويأمر بالإحسانِ والعفو... إلاّ أنّ أقواما من اليهود والنّصارى مافتئوا يحاربون الإسلام، ويتهمونه بالتطرف حيناً، وبالتزمّت أحياناً، وبالإرهاب دوماً، لا لشيء إلاّ لتنفير الناس منه، حتى صار بعض المسلمين الذين يعيشون في بلاد الغرب يستحيون من إعلان إسلامهم فضلاً على أن يدعوا إليه، وكلّ هذا ممّا حفزنا للقيام بدراسة تحليليّة مقارنة نبيّن فيها مدى تفوق الدين الإسلامي على اليهوديّة والنصرانيّة، فكان عنوان بحثنا: "وسطيّة الإسلام بين اليهوديّة والنصرانيّة، دراسة تحليليّة مقارنة".
إشكاليات البحث:
تتجلّى إشكاليّة البحث الذي بين أيدينا في الإجابة على عدة تساؤلات، منها: ما هي الوسطيّة؟ وما هو المعيار الموضوعي الذي تُحدّد به الوسطيّة؟ وهل يمكن أن نطرح الوسطيّة كنقطة ضوء حاكمة كلّما تحدثنا عن كل جانب من جوانب الإسلام؟ بل أين نجد الإسلام الوسط ابتداءً بين كل تلك الفرق المنتسبة إليه؟ وإذا كان الإسلام وسطاً بين اليهوديّة والنصرانيّة على حد تعبيرنا، فهل معنى هذا أنّ الإسلام مجموعة من الشرائع الملفقة من تلك الديانتين؟ أم أنّ هناك جديداً أتى به الإسلام فكان وسطاً بين إفراط قوم وتفريط آخرين؟
أهمية الموضوع:
لا شك أنّنا في أمس الحاجة اليوم إلى نشر ثقافة الوسطيّة لإنقاذ الأمّة من هذا الانحراف الذي جلب عليها الرزايا والبلايا، فأنا أرى أنّ هذا الاتجاه هو طريق النجاة للأمّة الإسلاميّة، وهو الجدير أن يمضي بها في الطريق الصحيح الذي يوصل إلى الغاية المنشودة، وهي الرقي بالأمة مادياً وروحياً، والعودة بها إلى دفّة القيادة للبشرية، بما لديها من رسالة ربانية إنسانية أخلاقية متوازنة، كما أرى أنّ الإعراض عن الوسطيّة هو الهلاك بعينه والضياع في الدين والدنيا معا، سواء كان هذا الإعراض جنوحاً إلى جانب التسيّب والانفلات، أم كان جنوحاً إلى جانب الغلو والتشدّد.
أسباب اختيار الموضوع:
إنّ حديثي عن الوسطيّة ليس رفعًا لِحرَج التُّهمة بـالتطرُّف عن النفس، لا، بل هو سعي منّي إلى التعرّف على الوسطيّة الحقّ وحمل نفسي على ذلك، والذي حملني على دراسة هذا الموضوع بالذات هو إعتزازي بدين الإسلام وغيرتي عليه، كما أنّ خلوّ الدراسات الموثّقة في هذا الباب- على حسب اطلاعي- ممّا دفعني لمعالجته بموضوعيّة بعيداً عن الانسجام مع الشعور الديني الذي يعوق الباحثين في الأديان، فأغلب من تكلّم عن وسطيّة الإسلام بين اليهوديّة والنصرانيّة كان كلامه خالياً من الأدلّة التي تصدّق ذلك، ولهذا ارتأيت أن أضع النقاط على الحروف بهذا البحث، ولو كما قيل: الرقعة خير من الثقب.
الهدف من الموضوع:
تهدف هذه الدراسة إلى تصحيح تلك الصورة الخاطئة عن الإسلام، وكذلك دعوة النّاس إليه، فإنَّ النّاس إذا علموا ما في الإسلام من الاعتدال الذي يُوافق العقل الصحيح رغبوا فيه وآثَرُوه على غيره، فالغربي الذي يريد أن يدخل في الإسلام تهمّه الوسطيّة، بل ربما يكون يبحث عنها بعد أن ملَّ من النظام المادي البحت، أو هرب من الرهبانية المضنية!
منهج الدراسة:
لقد استخدمت في إنجاز هذا البحث عدة مناهج، منها المنهج التحليلي وذلك في تعليل الأفكار والمعتقدات، الأمر الذي قادنا إلى استعمال المنهج النقدي في بعض الأحيان، أمّا المنهج المقارن فقد كان له النصيب الأوفر من هذه الدراسة نظرًا لما تقتضيه طبيعة الموضوع، وقد يستاء البعض من عقد مقابلات بين شريعة الإسلام، شريعة الحق، والشرائع اليهوديّة والنصرانيّة المحرّفة، إلاّ أنّ اللبيب يدرك بلا عناء أنّ ذلك من باب تمييز الأشياء بأضدادها.
الدراسات السابقة:
لقد كان ‏للعلماء جهوداً كبيرة في بيان وسطيّة الإسلام، وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عناية خاصة في التنبيه عليها، حيث ‏نَثَرها في العديد من كتبه ومصنفاته، وقد بدأ مصطلح الوسطيّة بالظهور في مطلع الثمانينات مع كتابات الدكتور يوسف القرضاوي، خصوصاً كتابة: "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف"(1982م)، في هذا الكتاب خصّص فصلاً بعنوان "دعوة الإسلام إلى الوسطيّة" تحدّث فيه عن وسطيّة الإسلام، وأنّ الوسطيّة هي إحدى الخصائص العامة للإسلام، إلاّ أنّ استعمال الدكتور يوسف القرضاوي لمصطلح الوسطيّة كان مشحوناً بالانشغال السياسي، فقد ظهر ليكون جزءاً من مواجهةٍ سياسيّةٍ فكريّةٍ محتدمة مع التطرف الحركي والعنف الذي أصبح نهجاً للعديد من الحركات الإسلاميّة منذ منتصف السبعينيات في مصر وسوريّة وفلسطين، حتى صارت وسطيّة الإسلام في نظره تكاد تنحصر في الدعوة إلى التعقل والتراجع إلى العمل السياسي السلمي، الحال الذي يستدعي ردّ الأمر إلى نصابه.
المصادر المعتمدة:
حتى لا أكون مدعياً على أحد، فقد اعتمدت في تحرير هذا البحث على المصادر التي يؤمن بها أهل الديانات الثلاث، والمتمثلة أساساً في القرآن الكريم والحديث النبوي بالنسبة للإسلام، وما يُدعى بالكتاب المقدس بالنسبة لليهوديّة والنصرانيّة، هذا وقد استعنت بكتابات بعض العلماء والآباء المعتبرين من كلّ ملّة.
الصعوبات:
لقد كانت مسألة الوقت عائقاً كبيراً حال بيننا وبين الولوج في دقائق هذا البحث والنظر في شروح الآباء على النصوص، ولهذا اقتصرت على بعض المسائل التي غالبا ما تتفق عليها كلّ الفرق من أهل كلّ ديانة، كما أعترف بأنّ التجرّد من الذاتية في تحرير هذا البحث كان من الصعوبة بمكان.
الخطة المعتمدة:
اشتملت الدراسة التي بين أيدينا على ثلاثة فصول، مقسمة على عدّة مطالب ومباحث.
يعتبر الفصل الأول مدخل تمهيدي لهذا الموضوع، تناولت في المبحث الأول منه مفهوم الوسطيّة، وذلك في ثلاثة مطالب، كلّ مطلب تحدثت فيه عن الوسطيّة من زاوية معينة: لغوية وشرعية ثم اصطلاحية. أمّا المبحث الثاني فيشتمل على ثلاث مطالب أيضا، تناولت فيها لمحات مختصرة لكل من اليهوديّة والنصرانيّة والإسلام، وذلك من باب الحديث عن الشيء فرع عن تصوره.
في حين جاء الفصل الثاني توطئةً للفصل الثالث، حيث تناولت فيه بعض مظاهر وسطيّة أهل السنّة والجماعة، باعتبار أنّهم يتمثلون الإسلام الوسط بين مختلف الفرق الإسلامية، وذلك في خمسة مباحث، اشتمل كل مبحث على مسألة من مسائل الدين الكبرى، كمسألة الأسماء والصفات، القضاء والقدر، حكم مرتكب الكبيرة، مسألة الصحابة ومسألة الكرامات والأولياء.
أمّا الفصل الثالث فهو يمثل الثمرة من هذه الدراسة، حيث تناولت فيه بعض مظاهر وسطيّة الإسلام بين اليهوديّة والنصرانيّة استناداً على ما ورد في النصوص المقدسة لكلّ ديانة، وقد اقتصرت في دراستي هاته على ستة نماذج هي: مسألة العبادة، الأنبياء، النسخ، الحلال والحرام، الطلاق، القصاص، كل مبحث من هذه المباحث يشتمل على ثلاثة مطالب، وفيها بيان موقف كلّ من اليهودية والنصرانية والإسلام على التوالي.
فأسأل الله تعالى التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.
خاتمة
بعد التعرّض لوسطيّة الإسلام بين اليهوديّة والنصرانيّة، فإنّه ابتداءً يصعب علينا حصر النتائج التي يتطلبها البحث العلمي، لكن يمكن التأكيد على البعض منها:
- من خلال استقراء بعض المعاني اللغوية للوسطيّة، يسوغ لنا أنّ نقول: "الوسطيّة هي الإسلام"، ما دامت أنّ الوسطيّة لا تخرج عن العدل، والخيار... فكل هذه المبادئ جاء الإسلام من أجل تثبيتها.
- مصطلح السنّة عند الأوَّلين هو أقرب مرادف لمصطلح الوسطيّة المعاصر الذي لا يزيد عمره عن أربعين سنة، فكلّ من سلَّم لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعمل بما ورد عنهما فهو من أهلِ الوسطيّة، وكلّ من تعدَّى حدود الشرع أو قصَّر عن القيام به فقد خرج عن دائرة الوسطيّة بحسَب عدوانه أو تقصيره.
- ليس التوسُّط في الدين ذلك البعد الهندسي الذي يقع وسط الطريق بين كل متناقضين، بل هو أن يلتزم شرع الله تعالى في موقفه، فليس كلُّ وسطٍ معتدلاً، وليس كل طرف سقيما، فالوسطيّة الحقّ هي التوسط بين أمرين كلاهما خطأ، فالمَيلُ نحوَ التشدُّد والتعسير على النفس أو الغير انحرافٌ عن منهج الوسطيّة، والميلُ نحوَ التفلُّت والتملُّص من الأحكام الشرعيَّة انحرافٌ مِن نَوعٍ آخر.
- وسطيّة أهل السنّة والجماعة في الدين كانت بسبب تمسكهم بالكتاب والسنّة، في حين كان سبب انحراف غيرهم عن الوسطيّة أنّهم أصّلوا لأنفسهم قواعد، ثم حاكموا إليها النصوص، فما وافق منها تلك القواعد قالوا به معضدين لا محتجين، وما خالف ردوه: إمّا بتضعيف إن كان حديثا أو تأويل إن كان قرآنا، حتى أحدثوا في دين الله تعالى من البدع الشنيعة والمقالات الفظيعة ما ضاهوا أو سبقوا به اليهود والنّصارى.
- اليهوديّة والنصرانيّة ليستا هما الديانتين اللّتين دان بهما موسى وعيسى عليهما السلام، كما أنّ التوراة الحاليّة والإنجيل الذي بين أيدينا اليوم، ليست هي التوراة التي أُنزلت على موسى ولا هو الإنجيل الذي أُنزل على عيسى عليهما السلام، ثم إنّ اختلاف الدين الإسلامي في فروعه وأصوله عن اليهوديّة والنصرانيّة، يبطل مشروع التقارب ووحدة الأديان الذي يدعو إليه البعض.
- وازنَ الإسلام بين متطلبات الروح وحاجيات الجسد موازنة دقيقة، بحيث يلتقي عمل الدنيا بعمل الآخرة، وكلٌّ منهما عبادة لله تعالى، وتحقيقٌ لغاية الوجود الإنساني، بينما تأرجحت المذاهبُ الأخرى بين الاهتمام بالنواحي المادية كما هو الحال في اليهوديّة، وبين الإزراءِ بالمتاع الدنيوي كما هو الشأنُ في النصرانيّة التي تدعو إلى الرهبنة وتعذيب الجسد من أجل رقيِّ الروح وتهذيبها.
- عِظَم افتراءات اليهوديّة والنصرانيّة على أنبياء الله ورسله، يُعطي الفرصة للملحدين كأداة للطّعن في وجود الله، لِما في تلك الادّعاءات من خيالات وتناقضات لا يقبلها عقلٌ متدبّر، بخلاف الأنبياء في الإسلام فهم خير من عَبدَ الله في الأرض، فهم رسلٌ لا يكذبون وعبادٌ لا يعبدون.
- إنكار اليهوديّة للنّسخ بحجّة البداء كان وسيلة من أجل إنكار رسالة النبيّ محمد عليه الصلاة والسلام، في حين وضع النّصارى لسلطة التشريع عند رجال الدين أدَّى إلى نتائج سيئة، منها: إصدار صكوك الغفران واحتكار رجال الدين القراءة والكتابة، وأمّا الإسلام فقد حدّد السلطة التي تملك حق التحليل والتحريم بأن جعلها لله وحده، فكفّ بذلك تنازع الأهواء وتضارب الآراء.
- كثرة المحرمات في اليهوديّة يترك وراءه تديّنا بغيضاً يشبه تديّن الإنسان الآلي، أمّا استحلال النصرانيّة للخبائث هو أمر يدعو المسلم إلى ضرورة الاحتراز من تناول وجباتهم في مطاعمهم العامة.
- تساهل اليهوديّة في الطلاق يؤول إلى هدم الحياة الزوجيّة بأوهى سبب، ومن المخجل أن تكون عدد حالات الطلاق بين النّصارى هو تقريبا نفس العدد بين غيرهم رغم اعتبارهم للزواج رباطٌ لا يقبل الانحلال، بينما اختار الإسلام الطلاق كآخر حلّ، مع إمكانية الرجعة.
- القول بوجوب اعتزال المرأة الحائض في اليهوديّة ينبني عليه أن تكون ربع حياة الزوج مع زوجته هجر لها، ويمكننا الآن أن نعرف لماذا كان الطاعون أكثر فتكًا في النّصارى منه في المسلمين واليهود، ذلك لأنَّ النظافة لم تكن من عقيدة النّصارى.
- القصاص في الشريعة اليهوديّة لازم وواجب التنفيذ، وأمّا الشريعة النصرانيّة فقد أعطت للمجرمين فُسحة للتمادي في إجرامهم بإلغائها للقصاص، في حين تتجلّى وسطيّة الإسلام في القصاص أنّ فيه تخفيف وخيار آخر، وهو الدعوة للتسامح بعد إقامة العدل.
وبالجملة، فإنّ ما جاء به الإسلام لم يكن جديداً بقدر ما كان تصحيحاً للرسالات التي سبقته، فعلاقة الإسلام باليهوديّة والنصرانيّة في صورتهما الأولى هي علاقة تصديق وتأييد كلي، وأمّا عن علاقته بهما في صورتها المنظورة فهي علاقة تصديق لما تبقى من أجزائها الأصلية، وتصحيح لما طرأ عليها من البدع والإضافات الغريبة عنها!..
وختاما أوصي بضرورة طرح بحوث مستفيضة في بيان وسطيّة الإسلام، لأننا بحاجة إلى نشر ثقافة الوسطيّة والاعتدال على مستوى العالم كلّه، حتى نبيّن للناس مزايا الدين الإسلامي، كما أُوصي أيضا بضرورة تفعيل مبدأ الوسطيّة في قطاعات الحياة كلها، بما فيها الجوانب الاجتماعية والاقتصاديّة والسياسية كافَّة، وليس في الجانبِ الديني فقط، فالوسطيّة منهجٌ فكري، وفي الوقتِ نفسِه منهجٌ واقعي يمكن تطبيقُه وتفعيله في قطاعاتِ الحياة المختلفة، كما لا يفوتني أن أخاطب اليهود والنّصارى بما خاطبهم به ربّ العزّة جلّ جلاله إذ يقول في محكم التنزيل:" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ" سورة المائدة، الآية: 77.
وصلّى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.