مذاكرةٌ مع الصنعاني

هذه مذاكرةٌ نافعةٌ ماتعة جرت بيني وبين أخي وشيخي وأُستاذي مَحمود عبد المُنعِم ، رئيس قسم أصول الفقه بجامعة الأزهر ، حفظه الله تعالى .
والمذاكرة حول كتاب مزالق الأصولييِّن المنسوب للإمام محمد بن الأمير الصنعاني (ت: 1182) رحمه الله تعالى . والدكتور محمود عبد المنعم له عنايةٌ بكتاب المزالق وسبقَ أن كتبَ عنه ، ونقده نقداً علمياً جزاه الله تعالى خيراً ، لكن نَقدهُ لا يخلو من تعقُّب وإستدراك ، فَمع حُبِّنا له لكن الحقَّ أحبُّ إلينا منه ، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الحقِّ العارفين له المُعرِّفين به .

والمقصود من هذا المقال مناقشة الأفكار وتصحيحها بغض النَّظرِ عن قائليها ، فكل يُؤخذُ من قوله ويُردُّ عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولم أقصد نشر هذه المذاكرة ، لكن كما قال الأُصوليون : الأعيان لا تَقبلُ الآجال ، ففيها مسائلُ أصوليةٌ وعقديةٌ لا يجوز كتمها ، لتعدِّي نَفعُها .

وكتاب مزالق الأصولييِّن له نسخة خطية واحدة محفوظة في مكتبة الأحقاف بتريم باليمن ، وقد انتهى ناسِخُها من نسخها قبل وفاة الصنعاني بسنةٍ واحدة .

والكتاب طُبع في الكويت ونشرته دار غراس ، بتحقيق وتعليق محمد صباح المنصور .

وقد وقف أهلُ العلم من الكتاب موقفين ، الأول : أهلُ الأُصول المتخصصون ، ومنهم طائفة يُشكِّكون في نسبة الكتاب للصنعاني ، ومنهم الدكتور محمود عبد المنعم .
الثاني : أهل العلم عامة ، وكثيرٌ منهم يميلون إلى تأكيد نسبة الكتاب للصنعانيِّ . وهذه النتيجة توصلتُ إليها بالاستقراء من كثير من أهل العلم والفضل .

( أ ) : موضوعات كتاب مزالق الأصوليين :
مخطوطة الكتاب بلا اسم ولا دِّيباجة ، فيبدو أنه فتوى أو إملاءٌ من الصنعانيِّ على بعض تلاميذه ، أو نصيحة منه لمن اشتغل بالعلوم وأغرقَ ذِّهنه بمسائل الأصول ، وأعرضَ عن علوم الوحيين ، ومحقق الكتاب اجتهد في تسميته بمزالق الأصولييِّن لتكرار لفظ المزالق في الرسالة .

• ومزالق الأصولييِّن تناول الموضوعات التالية :
فوائد أصول الفقه ، اختلاف قواعد أصول الفقه ، تباين آراء علماء أصول الفقه ، التعصُّب للقواعد الأصولية ، حقيقة الإجماع وصعوبة الجزم به ، الحدود والألفاظ في أصول الفقه وصعوبة ضبطها وإتعابها للذِّهن ، الكلام النفسي وضررهُ على مسائل العقيدة ، بُعد السلف عن العلوم الكلامية والمنطقية ، الفرق بين الظنِّ واليقين ومعرفتهما بالقرائن ، ضرورة العِناية بالدليل قبل الإشتغال بالخلافيات ، التصوُّر والتصديق ومفاسدهما الكلامية ، المصطلحات الكلامية والتمثيل لها والتحذير منها ، خلط علم الأصول بكتب أهل الكلام سبَّب لها مفاسد عظيمة ، وجوب الرجوع إلى علم الكتاب والسنة وعدم الإغراق في مسائل الأصول.أهـ.

مما سبق يتبيَّن أن كتاب مزالق الأصوليين ليس كتاباً في فنِّ الُأصول بعينه ، بل هو رسالة عامة تعرَّض فيها المُؤلِّفُ إلى مواطن النقصِ والضعف عند الُأصولييِّن والمناطقة والمتكلِّمين ، وتضمَّن كذلك نصيحة لطيفة فيها مواعظ جميلة في عِلم السُّلوك ، ووجوب تصحيح النية والإرادة . ولا تتبيَّن هذه المعاني إلا بِمطالعة كتاب المزالق .
وثمرة هذا المقال تتضمَّن في بيان أهم آراء الصنعاني رحمه الله تعالى في المسائل الأصولية ، وكذلك الإستدراك على أخي الدكتور محمود عبد المنعم في تعليقاته على مزالق الأصولييِّن .

والمنهجية الصحيحة عند نقد كتاب المزالق ، أن نُناقشه على ضوء علم النقد المُستمدِّ من الوحييَّن ، لا على منهج أهل الُأصول فقط ، ولا من منظار الأُصوليين فقط ! .

فلو أن الكتابَ في عِلم الأصول فحسب ، لوجبت مناقشتهُ على ضوء كلام الأصوليين ، ولو أنه في الُّلغة فحسب ، لوجبت مناقشته على ضوء كلام الُّلغويين ، لكن الكتاب فتوى أو نصيحة في الميزان الصحيح لتلقِّي العلم الموروث عن الأنبياء ، وبيان ما وقعَ في عِلم الأصول والمنطق والكلام من مزالق لا تُحمد عُقباها ، فهو لبيان مواطن الضَّعف عند الأُصوليين والمنطقييِّن والُّلغويين وأرباب السُّلوك ، وغيرها ذلك من المسائل .
والدليل على ذلك أن الصنعانيَّ في المزالق ختم الكتابَ بضرورة تدبُّر القرآن واستحباب البُكاء على التقصير في العمل بأحكامه وعدم الركون إلى الشهوات والشُّبهات .

(ب) : سبب تأليف الصنعاني لكتاب المزالق :
سواءٌ كان كتاب مزالقَ الأصولييِّن للصنعانيِّ نفسه ، أو لأحدِ تلاميذه ، أو أنه تراجعٌ من الصنعانيِّ ، أملاهُ على بعض خاصته أو محبيه وهو ما أميلُ إليه ، لأنَّني وجدتُ شواهدَ وقرائنَ من تُؤكِّد هذا الرأي ، فإن لُّب المزالق ليس جديداً، بل سبق أن قال به بعضُ أهلِ العلم ، ومنهم ابن خلدون(ت: 808هـ) رحمه الله تعالى ، فقد قال : “واعلم أنَّ هذا الفنَّ من الفنون المُستحدثة في المِلَّة، وكان السلف في غُنية عنه؛ بما أنَّ استفادة المعاني من الألفاظ لا يُحتاجُ فيها إلى أزيد ممَّا عندهم من المَلكة اللِّسانيَّة “.
وليست هذه المثلبٌة خاصةٌ بعلم الأصول ، بل كل العلوم لحَقها ذلك لاختلاف عُقول مؤلِّفيها وطلابها ،ولاختلاف المناهج والعلماء في التلقِّي والفهم ، ففي التفسير مثلاً ظهرت أحاديث الإسرائلياتِ في الروايات والنقل عن عُلماء اليهود ، والترجيج بأقوال التابعينَ أو بالأحاديث الضعيفة ، ووقع الوهمُ في تفسير آيات الصفات ، فأفسدت كُتب التفسيرِ أكثر مما أصلحت على أهل العلم ، لأن تلك المزالق كانت سبباً في الإحتجاج بها وتسويقها بين الطوائف للتراشق والتنابز ، حتى تباعدت القلوبُ وأظلمت البصائرُ عياذاً بالله تعالى .

وفي كتب الحديث أيضاً ظهرت الأحاديث الضعيفة والموضوعة والواهية وانتشرت بين الخطباء والواعظين وطلبة العلم ،حتى نسى كثيرٌ من الناس ما صح من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي كتب الفقه أيضاً ظهرت المُصنفات التي تُقدِّم آراء الرجال من أئمة المذاهب على ما صحَّ من أحاديث التشريع ، فكانت سبباً لترسيخ المذهبية والتعصُّب لها ، واغفال الغاية الصحيحة من التأليف في هذا العلم .

فلا يجوز أن نعيبَ علم الأصول كُّله ، ولا يجوز أن نُبرئه كُّله من كل وهم وزلل وخلل . لأن المثالب التي قصدها الصنعانيُّ سبق أن أشار إليها كثيرٌ من العلماء ، بل حتى من الأصولييِّن والمحقيِّين له .

وقد نبَّه الطوفي (ت: 716هـ )رحمه الله تعالى على هذه المسألة عندما قال : ” كثيرٌ من الأعاجم تتوفر دواعيهم على المنطق والفلسفة والكلام ، فيتسلَّطون به على أُصول الفقه إما عن قصدٍ أو استتباع لتلك العلوم العقلية ، ولهذا جاء كلامهم فيه عَرياً عن الشواهد الفقهية المُقرِّبة للفهم على المشتغلين ، ممزوجًا بالفلسفة ، حتى إن بعضهم تكلَّف إلحاق المنطق بأوائل كتب أُصول الفقه لِغَلبته عليه ، واحتج بأنه من موارده” . ” شرح مختصر الروضة”( ص/3/37) .

ولأن أخي الدكتور محمود لم يُشر أويستدرك على الصنعانيِّ في منهجه أو طريقته في الأُصول، فإنني حررتُ بعض المسائل الهامة في هذا الباب ، من كتابه ” إجابة السائل شرح بغية الآمل ” ، و” الأجوبة المرضية على الأسئلة الصعدية ” ، على وجه الخصوص ، ومن كُتبه الأخرى على وجه العموم :

1-قرَّر الصنغانيُّ في كثيرٍ من مؤلفاته أن القواعد الأصولية تارة تكون قطعيةً وتارة تكون ظنيةً ، وأن مسألة واضع الُّلغة مسألة فُضولية .
2-قرر الصنعانيُّ أن المباح ليس من الأحكام الشرعية .
3-قرر جواز الرواية للحديث بالمعنى فيما عدا أحاديث الصفات الإلهية .
4-قرر قبول خبرِ الآحاد والأخذ بالمرسل .
5-قال بعدالة الصحابة رضي الله عنهم إلا من أظهر منهم الفسق . وقرر عدم الإحتجاج بقول الصحابي .
6-لا يحتج الصنعانيُّ بالإجماع إلا ما وقع في الضروريات كأركان الإسلام ، وكذلك عند التخصيص ، ولا يحتجُّ بالإجماع السكوتي ولا إجماع أهل المدينة ولا إجماع العترة ولا إجماع الخلفاء الراشدين .
7-قرَّر جواز العمل بالاستصحاب حتى يأتي دليلٌ يرفعه .
8-قرر أن الاستحسان يرجع إلى الكتاب والسنة والقياس.
9-قرر أن مسألة التحسين والتقبيح لا فائدةً منها عند معرفة حكم الشرع .
10-قرر أن المنطوق والمفهوم من أقسام الدلالة ، وقرر عدم صحة تقسيم المنطوق إلى صريحٍ وغير صريح .
11-قرَّر أن مسألة خِطاب الغائب والمعدوم لا فائدة منها ، رغم وُرودها في كثيرٍ من كتب الأُصول .
12- منع الصنعانيُّ القول بتقسيم الشريعة إلى فروع وأصول .
فهذه التوضيحات الأصولية تُعينُ على فهم ما عناهُ الصنعانيُّ في مزالق الأصولييِّن ، وتكشف بعض ما في المزالق من تباين أو اختلاف مع كُتبه الأخرى .

( ج ) : نَقَدات على تعليقات محمود عبد المنعم :
أخي الدكتور مَحمود عبد المُنعم وفقه الله تعالى ، نَقدَ كلام الصنعانيِّ وفنَّد كثيراً من مسائله على ضوء رؤيته هو ، لا على ضوء رؤية منهج المُحدِّثين ، فقد أخذتهُ الغيرة إلى عدم الإنصاف في هذا الباب ، على حَسب ما ظهر لي .
فقد أوغل في الدِّفاع عن عِلم الأصول على وجه العموم ، وغفل عن بعض فُضول علم الأصول ،لأنه تبيَّن لي أنه وقف موقف الخصم والقاضي في بعض المباحث، فلم يعترض على الأصولييِّن فيما زلَّت فيه أقلامُهم ومؤلفاتهم .

وها هو الماوردي (ت 450هـ)رحمه الله تعالى يقول لطالب العلم : ” ولا يتشاغل بطلبِ ما لا يضرُّ جهله ، فإن لكل علمٍ فُضولاً مُذهلة ، وشذوراً مُشغلة ، إن صرف إليها نفسهُ قَطعتهُ عما هو أهمُّ منها ” . ” أدب الدنيا والدين”( ص/ 58).
فهذا النهيُ من الماورديِّ هو عَينُ الفتوى في رسالة الصنعانيِّ ، التي ُسمِّيت بمزالق الأصولييِّن .

وتعقُّبات أخي محمود عبد المنعم على الصنعانيِّ، بعضها مُسدَّد وبعضها مُفنَّد ، فالمُسدَّد توضيحهُ لكثيرٍ من المسائل التي يُوهم ظاهرها عدم فائدته في أصول الفقه كالقواعد المنطقية والأصولية ، فقد أجاد فيها وأفاد جزاه الله خيرا . أما المُفنَّد فإنه لم يُعرِّج على ما لصق بعلم الأصول من شوائبَ لا يُنكرها إلا مكابرٌ ، ومن ذلك ما أشار إليه الإمام ابن تيمية (ت: 728هـ )رحمه الله تعالى في قوله : ” كثيرٌ من المتكلِّمين من المعتزلة والأشعرية يخالفُ في هذا لمَّا ظن أن بعض ما نُهي عنه ليس بفاسدٍ ، كالطلاق المحرم والصلاة في الارض المغصوبة ونحو ذلك ، ولو كان النهي موجباً للفساد لزم انتقاضُ هذه العلة ، فدلَّ على أن الفساد حصل بسببٍ آخر غير مطلق النهي ، وهؤلاء لم يكونوا من أئمة الفقه العارفين بتفصيل أدلة الشرع . فقيل لهم : بأيِّ شي يُعرف أن العبادة فاسدة ، والعقد فاسد ؟ قالوا : بأن يقول الشارع : هذا صحيح وهذا فاسد . وهؤلاء لم يعرفوا أدلة الشرع الواقعة بل قدَّروا أشياء قد لا تقع وأشياء ظنُّوا أنها من جنس كلام الشارع ، وهذا ليس من هذا الباب ، فإن الشارع لم يدلَّ الناس قط بهذه الألفاظ التي ذكروها ، ولا يوجد في كلامه : شروط البيع والنكاح : كذا وكذا ، ولا هذه العبادة ، والعقد صحيح ، أو ليس بصحيح ، ونحو ذلك مما جعلوه دليلاً على الصحة والفساد ، بل هذه كُّلها عبارات أحدثها من أحدثها من أهل الرأي والكلام ” ( الفتاوى 29/ 281- وما بعدها ) .

ثم إن الدكتور لم يستدرك على الأصولييِّن والكلامييِّن اغفالهم للإستدلال بالكتاب والسنة في كثير من التفريعات والتخريجات الفقهية والأصولية ، وهذا ظاهر للمطالعِ في حواشي السعد والجرجاني وشرح العضد وحاشية العطار وتعليقات المطيعي ، ونحوها من الحواشي والشروحات القديمة والحديثة .
كذلك لم يستدرك على الأصولييِّن والكلامييِّن بعض المسائل التي لا طائل من ورائها ، كمسألة التكليف بالفعل قبل حُدوثه التي قال المرداوي(ت: 885هـ ) رحمه الله تعالى فيها: هذه المسألة قليلة الجدوى ولا أثر لها في الفروع ، وقال فيها البرماوي(: 831هـ ) رحمه الله تعالى : هذه المسألة دخيلة في مسائل الأصول ، ومسألة أول الواجبات التي قال عنها السمعاني(ت: 562هـ )رحمه الله تعالى: إن الأصوليَّ لا يحتاج لها أبداً ، ومسألة الحظر والإباحة التي قال فيها الفركاح الفزاري(ت: 729هـ ) رحمه الله تعالى: هي من فُروع القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، ولا يُؤمنُ فيها من الهفوات .

وكذلك لم يُبيِّن الدكتور المسائل الأصولية والمسائل الفضولية في تعليقاته على المزالق ، ومن تلك المسائل التي لم يُشر إليها مسألة : هل الآمر بكونه أمراً صفة ؟ ، ومسألة الأمر المطلق .
فهذه المسائل الثلاث قال عنها الصنعانيُّ في كتابه ” الأجوبة المرضية ” ( ص/ 126) : ” هذه مسألة طويلة الذيل قليلة النَّيل ، وثم مسائل من هذا النوع كثيرة ” !.

والدكتور وفقه الله تعالى يُورد كثيراً من الاصطلاحات المنطقية المُستقاةِ من أفلاطون وأرسطو ولا يتعقُّبها بنقدٍ أو تنبيهٍ ، ولا يُصحِّح ما فيها من عِوج ، وهذه ملاحظة مهمة ينبغي الإعتناء بها .

• وهذه بعض التصحيحات التي يجب الوقوف عليها:
1-أشار أرسطو الى أنواع القياس الاستقرائي والجدلي والخطابي، لكنه اعتنى بالقياس الكُّلي الشُّمولي الصُّوري ، وقد سمَّاه القياس البرهاني .
طريقة ارسطو في استخدام هذا القياس تتمثل في : الاستقراء من الجُزء إلى الكل ، ثم جمع الجزئيات للظاهرة الواحدة وتحليلها وتمحيصها ومقارنتها ، ثم الاستنتاج منها وبذلك يخرج لنا النتيجة أو القياس الكلي البرهاني .
وقد أشار أرسطو إلى قاعدة مهمة في كثير من كتبه وهي : ضرورة ممارسة القياس الإستقرائي مع الصغار وأحياناً مع العوام ، أما القياس الصُّوري الإستنباطي فيكون مع المختصين فقط .

وهذه مغالطة وقع فيها أرسطو ونقلها عنه المُتفلسفة من المسلمين والمستعربين ، وهي أن جميع أنواع الأقيسة فطرية في البشر لا تحتاج إلى قانون لتنظيمها بين أصناف الناس في العادة لسببين ، الأول : أن أنواع القياس مُرتبطة ببعضها ، لأن العلاقة بين القياس الصُّوري والإستقرائي علَاقة فرعٍ بأصلٍ ونتيجةٍ بمقدمةٍ ، فالصُّوري فرعٌ من الإستقرائي ونتيجة لمقدمته .
الثاني : أن موضوع الفِكرة أو البحث هي التي تُحدِّد نوع القياس ، فالعمرُ أو المهنةُ أو جِنسُ الإنسانِ أو صِّفتهُ لا عَلاقة لها بتحديد الأقيسة .

2-أرسطو يُدلِّسُ ويَخلطُ لأسبابٍ مذهبيةٍ وعلمية بين القياس الإستقرائي والصُّوري ، فالأول هو من الأقيسة الجزئية التي تقومُ عليها كُّل العلوم ، والثاني نتيجةٌ من نتائج القياس الجزئي .
وقد زعم أرسطو أن القياس الصُّوري هو من المُقدِّمات الكلية ، لأنه يعتقد أن الكليات نتيجة للقياس الجُزئي ، وهذا خطأٌ أقرَّ به حتى عُلماء الغربِ اليوم في جامعاتهم وبحوثهم .
والصحيح أن القياسَ يجبُ أن يكون بمعرفة الكُليِّ والجزئيِّ معاً ، لا تقديم أحدهما على الآخر في الذِّهن كما يُقرِّره أرسطو في مصنفاته .
والقاعدة المشهورة التي يُردِّدُها المناطقة : ” لا عِلم إلَّا بالكليات ” قاعدة مَغلوطة تلقَّفها المناطقةُ من التأسيس السابق دون تمحيص وتهذيب لمعناها ومغزاها ، فَضَّل بسببها فِئامٌ كثيرةٌ من أهل المذاهب .

فالصحيح العلِمُ بالجزء ثم العلم بالكُّل . ولهذا نجد في القرآن أدلةً كثيرةً على تقديم الجُزء على الكُّل ، كقول الله تعالى : ” عالِمُ الغيب لا يعزب عنهُ مِثقالُ ذرةٍ في السمواتِ ولا في الأرضِ ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبر” ( سبأ : 3 ) ، وقوله سبحانه : ” وما تكونُ في شأنٍ وما تتلو منهُ مِن قُرآن ٍولا تعملون من عملٍ إلا كُنَّا عليكم شهوداً ” ( يونس : 61) .

فربُّنا سبحانه يخاطب الخلق أنه يعلم ما يعملونه وما يُشاهدونه ، سواءٌ كان محتقراً عندهم أو عظيماً في عُيونهم وقلوبهم .
ومما يؤكد ما سبق أن صناعة المهن مثلا تبدأ بجزء صغير ثم تكبرُ رويداً رويداً حتى تكتملَ ، كالبِناء والخِياطة وحفرِ البئر وسقي الزرع وكَنس القُمامة ، ونحوها من المِهن والمشغولات .

3-أرسطو لا يجيز الإستقراء إلا إذا كان بحسٍ وحواس لأنه يعتقد أنه من الكليات ، وأنه أبين وأكثر إقناعاً . وهذا الحكم إفتئاتٌ على أنواع القياس الأخرى وتحجيم وإستصغار لها . والصحيح أن الإستقراء وغيره من أنواع الأقيسة تصح إذا كانت بتأمُّل ورويَّة ونظرٍ ثاقب .

4-أرسطو جعل المِعيار بين الحق والباطل هو إتقان علم الجدل دراسةً وفهماً ، بغضِّ النظر عن الحقيقة من وراء ذلك ، وسببُ ذلك أنه يعتقدُ أنَّ الجدل علِمٌ ظنِّي لا يُوصلُ إلى النتيجة الصحيحة ، وكان يُسمِّيه مَنطقُ الإحتمال .

وهذا التقعيد من أرسطو مُخالفةٌ لشيخه أفلاطون الذي كان يعتني بالجدل وينظرُ له نظرةً يقينية عالية، وهو عنده من الضروريات للوصول إلى الحقيقة ، وكان يصفهُ بأنه الرافع للعقلِ من المحسوس إلى المعقول .

5-أرسطو خالفَ تأسيسَ قواعد القياسِ التي قعَّدها أفلاطون لتلاميذه وطُّلابه التي رويت عنه واشتهرت ، والتي كانت تُسَّمى القِسمة الثُّنائية الأفلاطونية وهي :أن الجدل نوعان صاعدٌ ونازلٌ .
فالصاعد يبدأٌ من الإحساسِ إلى الظنِّ، إلى العلم الاستدلالي ، الى المعقول ، الى أن يصل إلى العِلم بالكُليِّ ، والنازلُ ينزل من أرفعِ الكليات الى أدناها ، بتحليلها وترتيبها الى أجناس وأنواع.

6-أرسطو في مُقدِّماتِه للقياس الصُّوري أو البرهاني كما يُسمِّيه ، استفاد من فلسفة السُّوفسطائيين الذين سبقوهُ في تعليم الناس التلاعب بالألفاظ ، واستخدام المغالطات لإفحام الخصوم ، ولهذا سَمَّى المُحقِّقون هذا القياس بالقياس الصُّوري ، فهو شكلي لا مضمون حقيقي له ولا لقيمتهِ في الميزان العلمي.

وسبب ذلك أنه اعتنى بمعرفة العِلةٍ أولاً وآخراً ، ووصفها بالأمر الكُليِّ، وأغفل ما عداها من قضايا حالية أو كيفية ووصفها بالأمر الجزئي ، ففي ميزانه يكون البرهانُ الأقوى هو الكُلي.

وهذا التدليس المُتعمَّد – الذي أبان عنه باحثون غربيُّون اليوم – من أرسطو القصد منه جعل الجزئيات من نتائج أقيسة الكليات ، والصحيح العكس كما تشهد به العقولُ الصحيحةُ والفِطرُ المستقيمة.
ومثال ذلك الزرعُ اليابسُ الذي يُضربُ به المثل في القرآن في هَوان الدُّنيا وسُرعة إنقضائها ، أوَّله حبةٌ فماءٌ يسقيها ، ثم خُضرةٌ وبهجةٌ ، ثم يبُسٌ وتكسُّر وتفتُّت وزوال.
فهذا المثَلُ الكُّلي جاء من القِياس الجُزئيُّ الذي يعرفه أهلُ الألباب المدركة الواعية .

7-الأقيسة التي يتشدَّق بها المناطقة ويتكلَّفون لها من عهد أرسطو الوثني ، ثم أبي نصر الفارابي (ت: 339هـ) المُتفلسِف ، مروراً بابن سينا(ت: 428هـ) الباطني المتمنطق ، ثم ابن رشد (ت: 595هـ ) المُقلِّد، ثم أبي
جعفر الطُّوسي (ت: 672هـ)، هي في الأصلِ لا وجود لها في الأذهان إنَّما وجودها في الأعيان ، فلا يمكن ضَبطُها ولا حَصرُها ولا تحديدُ معالمها ، وهذا يؤُكد زيفها وكونها مُهلهلَة لا ثباتَ لها في القلب ولا في العقل ، فكيف إذن يتم تعميمُها وجعلها أصلاً للنظر والتفكير .
ولو فتشَ عَاقلٌ فَطنٌ عن أسانيد هذه الأقيسة – إن وجدت – لوجدها منقولةً عن المتُفلسفة عن الصابئة عن الوثنييِّن عن المشركين ، الذين فاق شِّركهم شِّرك العرب ، عياذاً بالله تعالى .

8-الله تبارك وتعالى وهبَ البشر الحواس الثلاثة الرئيسة للمعرفة والعلم والإدراك واليقين ، ويستوي في هذا الكبيرُ والصغير والذكيُّ والأحمق والقادرُ والأخرق ، لكن تَلك الحواس تَضعفُ أو تتوسطُ أو تَقوى من فئةٍ دون أخرى . ويُشترطُ للإفادة من الحواس الثلاثة الرئيسة فهم اللُّغة ومُخالطة الناس ، والتروِّي والتعقُّل في الأقوال والأفعال . وقد ثبتَ أن رجلاً كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يُخدع في البيوع ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إذا بايعتَ فَقل لا خِلابة “. متفق عليه.
ولما جاءه رجلٌ أقرَّ على نفسه بالزنِّى ، قال له : ” أبِك جُنونٌ ؟ ، فقال : لا ، فأمرَ بِرجمهِ “. متفق عليه .

9-اشتراط مُقدِّمتينِ للبُرهانِ بصورةٍ مطلقةٍ غيرُ صحيح ، فقد ثبتَ بالمعقولِ والمنقولِ وجود براهينَ بخمسِ مقُدِّمات مَنطقية وربما أكثر ، مثل حديث جبريل عليه السلام المشهور في الإيمان والإسلام والإحسان وأشراط الساعة ، ومثل حديث النجاشي مَلِك الحبشة رضي الله عنه ، مع رجال قريش ، ونحوها من الأحاديث الطويلة ، وهي صحيحة ومشهورة .

10-لو أن الطالبَ أطال النظرَ في تفسير القرآن المجيد وعلوم العقائد وعلوم العربية ، لكفاهُ ذلك عن كثيرٍ من كُتب المنطق والجدل . والأولى والأسلم للمُطالعِ والطالبِ والباحثِ ، أن تكون مُذاكرتُه لهذا العلمِ بقدر الحاجة ، فما أسكر كثيرهُ فَقليلهُ حرام . والله أعلم .

وهناك بعض الإستدراكات العلمية المختصرة على تعقُّبات الدكتور وفقه الله تعالى ، أُلخِصُها في النقاط الآتية :

1- ورد في الكتاب في (ص/ 198) الإستشهاد برسالة زغل العلم للذهبي ،والراجح عند أهل التحقيق أنها لمحمد ابن السراج المتوفى سنة 747هـ ، ولم يتفرَّد بنسبتها إلى الذهبي إلا ابن قاضي شهبة ، وكان بينه وبين الذهبي خصومة وعداوة . ونقلها عنه الحافظ السخاوي . ويُمكن مراجعة رسالة ” التوضيح الجليِّ في الردِّ على النصيحة الذهبية المنحولة على الذهبي ” لإبراهيم الشيباني ، فقد أجاد فيها وأفاد .

2- ورد في حواشي الكتاب في مواضع متفرقة منه العزو لأُصول الشاشي رحمه الله تعالى ، وأورد الدكتور في فهرس المصادر أنه توفي سنة 344هـ ، وهو وهمٌ منه على التحقيق، والصواب أنه من علماء القرن السابع الهجري ، كما في الفوائد البهية للكنوي ، وكما في كشف الظنون لحاجي خليفة .

3- ورد في الكتاب (ص/ 199- وما بعدها ) مناقشة مسألة الكلام النفسي في الُّلغة وفي الإصطلاح ، وفاته أن يُنبِّه على أن إيراد الأشاعرة لهذه المسألة على وجه العموم كان القصد منه القول أن القران مخلوق ، وإن لم يُصرِّحوا بذلك ، لأن الأمر عندهم لا صِّيغة له . وهذا التنبيه مهم حتى وإن لم يكن له مناسبة ، لأنه أصلٌ في بيان معتقد أهل السنة .

والنقل أن الكلام معنى قائم بالنفس مرجوحٌ ،لأن الله تعالى قال لزكريا “:قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً، فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً “(مريم : 10-11).
فلم يُسمِّ إشارته إليهم كلاماً. وقال لمريم” :فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً ” )مريم:26).
وأما السُّنة فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الله عفا لأمتي عما حدَّثت به نفسها ما لم تتكلَّم أو تعمل به” . أخرجه ابن ماجة بإسناد حسن .
وقال: ” إذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا : آمين” متفق عليه . ولم يُرد بذلك ما في النفس.
وقول الدكتور في (ص/ 200) : ” الكلام عند جمهور الأشعرية … ” وهذا إقرار منه بموافقة بعض آراء الأشاعرة ، سامحه الله .
وقد أحسن في هذا الوصف فإن ما أصَّله هو تقرير الأشاعرة ، وليس منهج أهل السُّنة ، أهل الحديث . يُنظر في هذا : ” رسالة إلى أهل الثغر ” لأبي الحسن الأشعري / طبعة الجامعة الاسلامية / تحقيق عبد الله الجنيدي .

4- ورد في الكتاب(ص/140)عند الكلام حول الفرق بين اللُّزومية والاتفاقية إيراد حديث : ” إن سالماً شديد الحُب لله ، لو لم يخف الله ما عصاه ” ولم يُشِر إلى سنده ، وهو من طريق محمد ابن إسحاق عن الجراح بن منهال ، عن حبيب بن نجيح عن عبد الرحمن بن غنم. والإسناد متهالك مسلسل بالعِلل ، وقد حَكم عليه الألبانيُّ بالوضع ، فليُحرَّر . وقد أشار إليه ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى( 10/ 164 لكن بلفظٍ آخر وفيه ” صُهيب “بدل سالم ، ولم يرفعه . والله أعلم .

5- يُلاحظ أنه ترد في الحواشي أسماء لبعض المصنفات ، لكنها غير مرقومة في فهرس المصادر ، وقد تكرَّر هذا في مواضع مثل : فتاوى السبكي ، وحاشية الباجوري ، والمنطق لمحمد محفوظ ، وأنواع البروق في أنواع الفروق ، وغيرها.

6-أورد في الكتاب ( ص/209) عند معنى القياس قول الشاعر بدون نسبة :
خِف يا كريمُ على عِرضٍ يُدنسه
مَقال كُّل سَفيهٍ لا يُقاسُ بِكا
والبيت لأبي العلاء المعري ، كما في ديوانه .

7-ورد في الكتاب ( ص/ 296) ما نصُّه : ” وللصنعاني في كتابه ” إجابة السائل ” كلامٌ مثل كلام مزالق الأصولييِّن ،بيد أنه أطال في ردِّ أدلة إثبات حجية الإجماع ” قلت : لو قيَّد العبارة ب( ما عدا الإجماع الضروري من أحكام الإسلام ) لكان أضبط ، لأن الصنعاني نفسه نبَّه على هذه المسألة كما في إجابة السائل ، وتطير الإعتقاد ، وحاشية الصنعاني على هداية العقول لابن الإمام .

8-ورد في الكتاب ( ص/ 358) مسألة المشترك في القرآن والإستدلال لها ، ويُستدرك على تقريره ما ذكره العلامة زكريا الأنصاري (ت: 926هـ)رحمه الله تعالى في المسألة في كتابه غاية الوصول شرح لُّب الأصول ( ص/ 31، 45) وهو : أن المشترك يكون في الكلام لكنه يمتنع في القرآن ، وقد أورد عِلَّتين لذلك ، فلتُحرَّر . والله أعلم .

9- مع ميلي لرأي أخي الدكتور محمود أن مزالق الأصولييِّن ليس للصنعاني ، لكنني لا أجسرُ على القول بذلك لسببين : الأول : الصنعاني نَفسهُ مُتقلِّب المزاج ، وقد مدح الشيخ محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ، ثم تراجع عن ذلك ، كما هو معروفٌ عنه ، فلعل رسالته هذه من هذا الباب ، فهو لا يردُّ أصل علم الأُصول ، لكنه يكرهُ الإغراق فيه .
الثاني : يبدو أن هذه الرسالة – على فرض ثُبوتها للصنعانيِّ – كانت نصيحة في آخر عُمره لأحد طُّلابه أو خاصته ، ليشتغل بالسُّنة ويحرص على العمل ويترك الجدال وتشقيق المسائل ، فتكون بمعنى التراجعات أو المراجعات العلمية ، لكن لم يُسعفه الوقت لتدوينها تدويناً محرراً. وهذا الرأي عندي قويُّ وأميلُ إليه ، لكن لا أقوى على البوح به .

10- في كتاب الصنعانيِّ ” إجابة السائل ” إختياراتٌ أُصولية مهمة ، يُمكنُ من خلالها معرفة طبيعة المنهج الأُصولي للرجل . وفي كثيرٍ من المسائل في الكتاب يُشير إلى تلاميذه وأنه أملى عليهم أو أوصاهم بجملةٍ من الفوائد ، فلعل هذه المزالق مما أملاه الصنعانيُّ على طُّلابه . والله أعلم .

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.