يُعدُّ العلَّامة بكر بن عبد الله أبو زيد (ت: 1429هـ) ، عَلاَمةً فارقةً بين المعاصرين ، فهو من الأعلام المجدِّدين في هذه الفترة ، في العلم والتربية والمنافحة عن العقيدة الصحيحة .

وليس هذا بغريب على عالم جدَّ واجتهد حتى رقى إلى ذُروة الجبل ،وتعلَّق برأس القُلل ، ولم ينقطع عن هِجِّيراه إلى أن بات ضجيع الجنادل وأليف الجداول . رحمه الله تعالى .

وقد وقفتُ على سيرته محررة تحريراً ماتعاً للباحث صالح بن عبد الله آل داود ، وفقه الله تعالى ، وبعد مُطالعتي لها رقمتُ على نُسختي من كتابه بعض الاستدراكات التي رأيتها مهمة ، أسأل الله أن ينفع بها من وقف عليها ، وهذا أوانُ الشروع في المقصود :

أولاً : أورد الباحث ( ص/ 47) نقلاً عن كتاب التعالم للشيخ بكر قوله : ” فكم من مُتصدِّر للعلم في أيِّ من مجالاته وهو قرندل ” . وقال في الحاشية نقلا عن بكر : ” القرندل بلهجة المصريين : حَالق لحيته ” . قلت : ما ذكره الشيخ بكر يحتاج إلى تأمُّل وتعقُّب ، فالقرندل مرتبة من مراتب الصوفية ، وهي سبع مراتب : المنتسب والمريد والدرويش والمرشد والقلندر والرند والقطب. والظاهر أن الكلمة مصحفة من قلندر إلى قرندل ، ومن صفات بعضهم في تركيا وبغداد شرب المسكر وحلق شعر الرأس والوجه ، وقد وصفهم ابن كثير في البداية والنهاية ( 12/274) ، ومثله ابن بطوطة في رحلته ( 1/17).

ثانياً : أورد في ( ص/ 58) تعقُّب العلامة بكر أبو زيد على الشيخ عبد السلام هارون رحمه الله تعالى في المنع من التعبير بلفظة ( لغة العلم الأوروبي ) ، واحتج بأن الأديب الكرملي النصراني غلَّط هارون في ذلك . قلت : لم أتيقَّن من تخطئة بكر أبو زيد لعبد السلام هارون في الموضع المحال إليه ، فهو مجرد ناقلٍ للمذاكرة بين الكرملي وهارون ، لأن المسألة خلافية بين المعاصرين ، وهذه طريقة الشيخ بكر في كثير من بحوثه ، إن لم يجد دليلاً صحيحاً في المسألة فإنه يورد الفائدة للمباحثة لا للاحتجاج أو الجزم ، ولعل الباحث التبس عليه آخر النقل في رسالة الكرملي : ” وقوله بلغة العلم صحيح بخلاف من أنكر هذا التعبير جهلاً لأسرار العربية ” .

فهذه الجملة للكرملي وليست لبكر أبو زيد ، وقد أوردها للإعلام بالخلاف حولها ،لا للاحتجاج بصحة الاستدراك كما يظهر من السِّياق ، وتوقف الشيخ بكر في المنع منها أن لفظة ( لغة ) ليست عربية كما حقَّقه كثير من الباحثين المعاصرين الثقات ، ومنهم حسن ظاظا في كتابه ( اللسان والإنسان / ص55) ، ولهذا في القرآن المجيد ترد كلمة ( لسان ) ولم ترد كلمة ( لغة ) كما هو معلوم لمن تأمل . والله أعلم .

ثالثاً : أورد الباحث ( ص/ 137) قوله عن الشيخ ابراهيم المنصور : “إنه لازم الشيخ بكراً إحدى عشرة سنة ” . قلت: من الأولى اضافة المترجَم إلى قائمة من تم ايراد أسمائهم ( ص/ 119) ممن لهم قوة تواصل مع بكر ،لأن طول الملازمة في العمل أقرب في معرفة الإنسان من ملازمته في مجالس العلم والأمل .وهذا معروف بالمشاهدة والتجربة ، وبعض المحدِّثين قديماً يشترط على الراوي طول الملازمة للرواية عنه ، كما نبَّه عليه الخطيب البغدادي(ت: 463هـ) رحمه الله تعالى . والله أعلم .

رابعاً : أورد في ( ص/ 221) أن الشيخ بكر أبو زيد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال : ” الدالُّ : الله ، والدليل : القرآن ، والمبيِّن : الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمستدل : أولو العلم . هذه قواعد الإسلام “. قال الباحث : ” أحال بكر إلى الطبقات لابن أبي يعلى ولم أقف عليه في الطبقات ” قلت : احالة الشيخ بكر صحيحة ، وهذا النص ورد في أكثر من طبعة في( 1/ 65)، و(1/ 147)، فلعله سَقط من بعض الطبعات المصورة .

خامساً : أورد في ( ص/ 222) في مسألة الذِّكر عند خَدر الرجل نقلاً عن كتاب تصحيح الدعاء قول الشيخ بكر في تضعيف الذكر الوارد : ” ومن العجيب أن جمعاً من الأئمة المحقِّقين مثل : النووي وابن تيمية وابن القيِّم والشوكانيُّ وغيرهم تتابعوا على ما ذكر ما أخرجه ابن السني … ” . قلت :

الراجح والله اعلم أن الأئمة تتابعوا على العمل به على ضعفه عندهم ، لأنه ترجيح بأمرٍ خارج كما هي قاعدة الأصولييِّن في الترجيح ،فالترجيح هنا أُصولي وليس حديثياً ، وقد عمل بهذه القاعدة الإمام ابن تيمية نفسه كما في ( رسالة القياس / ص50) وهي رسالة جُمعت من كلامه وكلام ابن القيِّم ،رحمهما الله تعالى ، لأن الأصل الوارد في الحديث صحيح معنىً ، بغض النظرٍ عن سنده . فإما أن يكون المقصود به : اذكر مصابك بالنبي محمدٍ ، على سبيل التأسِّي ، لأنه اُبتلي بأشدِّ من هذا ، أو أن المقصود به مثل ما ورد في حديث عبد الله ابن عباس موقوفاً قال : ” إن لله عز وجل ملائكة في الأرض سوى الحفظة ، يكتبون ما يسقط من ورقِ الشجر ، فإذا أصابت أحدكم عرجة بأرض فلاة ، فليناد : يا عباد الله أعينوني ” . أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح .

ومثله ما رواه الإمام أحمد : (حججتُ خمس حجج ، اثنتين راكباً وثلاثة ماشياً ، أو ثلاثة راكباً واثنتين ماشياً ، فضللتُ الطريق في حجة و كنت ماشياً ، فجعلت أقول : يا عباد الله دُّلونا على الطريق ، فلم أزل أقول ذلك حتى وقعتُ على الطريق). أخرجه البيهقي بإسناد صحيح .
وبهذا يستقيم سكوت الأئمة عن الكلام حول الأثر الوارد .

ولا يصح أن يستدلَّ به أحدٌ على جواز دعاء الأموات أو الاستغاثة بهم .كما يتوهَّم بعض المبتدعة .
وقد أورد الباحثُ تعليقاً مفيدا على الرواية بما معناه أن الذِّكر عند خَدر الرجل من عادات العرب في الطب، وقد استدل بنقلٍ عن الوزير صالح آل الشيخ وفقه الله تعالى ، وهو منقول عن كتاب ( بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ) للآلوسي ، وهذا التعليل عند الأصوليين فيه نظر ، لأن الحقيقة الشرعية مُقدَّمة على الحقيقة العرفية .

فالصواب أن يقال هو مما يُستأنس به ، لكن لا يصح أن يكون تعليلاً لمسألة شرعية . والله أعلم .

سادساً : أورد الباحثُ ( ص/ 235) أسماء من جَرت بينهم وبين الشيخ مذاكرات ومباحثات . قلت : من توفيق الله تعالى لراقم هذه السُّطور أنه جرت بيني وبين الشيخ مذاكرات قبل عشرين سنة أو أكثر ،كلها بالهاتف ، أول الترقِّي للفهم ، والشغف بالعلم من سنة 1415هجرية تقريبا ًإلى قبيل وفاته رحمه الله تعالى .

وكان اتصالي به على هاتف مكتبه في الإفتاء ، وقد أفدتُ من أدبه وسمته في الجواب والاستدلال ما لا يُمكن وصفه .

وكان سُكوته كلام ، ولسانه حُسام . فمما سألته وكان مُشكلاً عندي : معنى قول المؤرِّخين : توفي في عَشر التسعين ، ودرجة حديث : ليس في الهيشات قَود ، وقول بعض المؤرِّخين : كان حسان ابن ثابت رضي الله عنه جباناً !، والسؤال عن بعض الكتب المفقودة في الحديث ، والسؤال عن نسب ابن تيمية رحمه الله تعالى ، والسؤال عن عقيدة شكيب أرسلان ، وبعض الأسئلة الأُخرى التي أُنسيتها الآن .

سابعاًً : أورد الباحث ( ص/ 241) أن الشيخ بكر حصل على إجازات من عبد الله الغُماري(ت: 1413هـ) ، وقد يتوهَّم البعض أنه زلة خفية للشيخ بكر ، فلعل الغماريُّ أجازه ولم يستجزه الشيخ بكرٌ ، لأن من كان متلطخاً ببدعة عقدية لا يجوز الرواية عنه ولا استجازته ، أو أن هذا كان قديماً قبل أن يتبيَّن حال الغماري في مخالفته للسُّنة .فمن أشهر مؤلفاته المنتقدة : ( إتحاف الأذكياء بجواز التوسُّل لسيد الأنبياء ) و( القول المقنع في الرد على الألباني المبتدع ) و( جواز بناء القِباب على المقابر) . فهذا موضع يحسن التنبيه عليه لئلا يغترَّ به أحد من الناس .

ثامناً : أورد في (ص/ 248 ) فائدةً عن الشيخ بكر حول كتاب غرائب الإغتراب ، وهو لمحمود الآلوسي (ت: 1270هـ )رحمه الله تعالى ، وكانت رحلة علمية أخبر أنه شَرع فيها سنة 1267هـ إلى القسطنطينة ، والكتاب فيه فوائد ولطائف ودُرر نفيسة ، لكن فيه تعظيم لِغُلاة الصوفية النقشبندية وعوامِّهم ، وتوسُّلات غير مشروعة بعلمائهم . فليت الشيخَ بكرٌ رحمه الله تعالى نبَّه على هذا ، وليت الباحثَ يستدركه في الطبعات اللاحقة .

ومسألة البسملة التي أحال الشيخ إلى مذاكرة الآلوسي لها مع مشايخ الأتراك في كتاب الإغتراب ، هي في ( ص/421) وليست في ( ص/ 431) ، فليستدرك .

تاسعاً : هناك مسائل مهمة لعل الباحث أغفلها عمداً أو لم يُكشف له عنها ، وهي مواقف الشيخ بكر من الحوادث التأريخية المعاصرة في مجالات السياسة والاقتصاد وأحوال العالم الإسلامي ، والأحداث المهمة في الواقع ، فلعل المقرَّبين من الشيخ من الثقات ، يُذيعون بعض تقريرات الشيخ بكر ووصاياه فيما يتعلَّق بذلك ولو برؤوس أقلام ، لتأصيل النافع منها وتقريره . وقد أشار إلى بعض منها في كتابه خصائص جزيرة العرب ، وحُكم الانتماء . ولما سطَّر الباحث اهتمام الشيخ بقضايا المسلمين ( ص/ 230) لم يستطرد في ذلك ولم ينقل عن طلاب الشيخ وأقرانه شيئاً من ذلك ! .

عاشراً : أشار الباحث إلى تفسير الشيخ بكر أبو زيد للقرآن المجيد في ثنايا ترجمته ، في عِدَّة مواضع ، والآن وقد مضى عشر سنوات تقريباً على وفاة الشيخ ، يحقُّ لنا أن نسأل أين تفسيره ؟!
لماذا بقي حبيس الأدراج كل هذه السِّنين ؟! . فإن كان نِسياناً فقد تقرَّر عند الأصولييِّن أن الواجب لا يَسقط بالنسيان . وإن كان غيره فلعل في الأمر خِيرة . والله الهادي .

هذه أهم الاستدراكات التي حرَّرتُها على نُسختي ، لعل الباحث الكريم يتأمل فيها عند تعديله أو تنقيحه لكتابه في الطبعات اللاحقة . نسأل الله أن يُلهمنا الصواب ، وأن يفتح على قلوبنا بِحُسن الجواب .

هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

د/ أحمد بن مسفر العتيبي