قال الموحد: هل يُمكن لسمكةٍ أن تهربَ من الماء؟
قال الملحد: ما هذا الكلام؟ السمكُ لا يعيشُ إلا في الماء!
قال الموحد: ولكن داروين يرى خلافَ هذا! داروين يقول: أن السمكةَ هربتْ من الماء!
ألم يقل أنّ أصلَ ظهور البرمائيات ومن ثمَّ الزواحف اضطرارُ بعض الأسماك إلى الخروج من الماء والزحف على سطح الأرض؟
قال الملحد: بلى، ولكن ليس على هذا النحو الهزلي الذي تتصوره أنت!
قال الموحد: فكيف إذا؟
قال الملحد: أنا أقول لك كيف!
لما ضاقت سبل العيش على بعض صنوف الأسماك تحت الماء لجفاف مسطحات الماء أو نحو ذلك من الأسباب، أوشكت تلك الأنواع أن تنقرض.. فكان أن ظهرت طفرات جينية عشوائية عبر آلاف السنين، كان في بعضها بدايات ما يمكن أن يعمل كنظام للتنفس خارج الماء.. لم يكن نظام تنفس في الحقيقة، وإنما بدايات ضعيفة لما يمكن أن يكون كذلك.. فخرجت بعض صنوف الأسماك التي ظهرت فيها تلك الطفرات– مجترئة على هذا الأمر للمرة الأولى في التاريخ - إلى خارج الماء، فكانت تخرج قليلا – زحفا – ثم ترجع، وهكذا، حتى ظهرت طفرات أخرى فيها ما هو أقرب للجهاز التنفسي من سابقاتها، فالتي كانت طفراتها الجينية تعينها على البقاء لمدة أطول خارج الماء، كان يطول تعميرها نسبة إلى غيرها، وتزيد فرصها في التناسل، أما ما سواها فيهلك، وهكذا، حتى ظهرت صنوف البرمائيات وتطورت ليظهر منها الزواحف!
قال الموحد: هذا الذي تقوله يستحيل حدوثه عقلا!
قال الملحد: فلم؟
قال الموحد: بحسب نظرية داروين، فإن الارتقاء يقوم بالأساس على آليتين: آلية الانتخاب الطبيعي، وآلية الطفرات العشوائية.. أما الانتخاب الطبيعي فمعناه كما تقول، وهو أن كل كائن يولد بصبغة جينية غير ملائمة فإنه يفنى ولا يتكاثر، بينما تستمر الصبغة الصالحة فقط. وأما الطفرات العشوائية فمعناها ظهور صبغات جينية جديدة بصورة عشوائية لا ضابط لها ولا نظام. وبغض الطرف عن كون الطفرات التي نراها لا تزيد عن كونها تشوهات جينية يتغير فيها الشريط الجيني بالنقص دائما لا بالزيادة، فإننا سنتنزل معك ونقول أن من الطفرات ما يمكن أن يضيف إضافة جديدة إلى قاعدة بيانات الحامض النووي من خلال إنشاء جينات جديدة بخصائص جديدة أو "أعضاء جديدة"! فهاتان الآليتان يفترض أن نقبل أنه بهما –وحدهما- ارتسمت تلك القصة التي رسمها الداروينيون لتطور الكائنات بداية من أحاديات الخلية ووصولا إلى الإنسان!
فالآن لو قلنا أن هناك ما حمل أنواعا من الأسماك على الخروج من الماء كما تدعون، وكان الفناء حتميا لكل سمكة لا يمكنها التنفس خارج الماء كما هو معلوم، إذا للزم أن يفنى من فوره بالكلية كل نوع من تلك الأنواع لا يمكنه التنفس خارج الماء، فلا يبقى منه شيء! فلا يتصور عاقل أن جفافا يصيب مسطحا مائيا هكذا بغتة ومع ذلك يبقى فيه شيء مما يعيش تحت ذلك المسطح من أسماك وحيتان حيا بعد جفافه! إلا إن كانت تلك الأسماك تحت ذلك المسطح مجهزة مسبقا بنظام كامل للتنفس البري إلى جانب الخياشيم، حتى إذا ما وقعت تلك الكارثة زحفت تلك الأسماك – اضطرارا - على البر وواصلت حياتها هناك ليظهر منها الزواحف فيما بعد كما تتصورون!! فهل تقولون بأن تلك الأسماك كانت مجهزة من قبل الخروج من الماء تجهيزا تاما؟
قال الملحد: لا، لا تكون مجهزة تجهيزا تاما ولا شيئا من ذلك، إنما ما يصلح منها للبقاء فإنه يبقى، وما لا يصلح فإنه يفنى!! هذا هو الأمر فحسب، دونما تنظيم خارجي مخصوص ولا نظام للموازنة ولا شيء مما تقول!!
قال الموحد: فهل ترى أنه يمكن لكائن حي أن يتنفس بنصف جهازٍ تنفسي؟
قال الملحد: نعم، لو أن فيه ما يدخل به الأكسجين إلى الجسم ولو بنقص أو بصورة ليست متكاملة بعد ُ فإنه قد يصلح، فإن لم يصلح فلعله يأتي في طفرة أخرى ما هو أصلح منه، وهكذا!
قال الموحد: ولماذا يأتي أصلا؟ وما معنى أن تظهر طفرات فيها شبه رئة -ولن تعمل يقينا، ولن تبقي صاحبها حيا ما لم تكن رئة صالحة للعمل من أول ظهور لها- ثم تظهر طفرات بعدها فيها رئة أحسن – هذا إن بقي أصلا من الكائنات ما يصلح للتناسل قبل ظهور تلك الطفرة الناجحة – إلا أن يكون هناك غاية محددة تتبعها تلك الطفرات وتحاول بلوغها بشكل ما؟ إذن تتابع هذه الطفرات لبلوغ ما تسمونه الارتقاء العضوي هو في حد ذاته يهدم كون هذه الطفرات عشوائية، ولا سيما إذا انضاف إلى ذلك حقيقة أن ذلك الارتقاء العضوي – بحسب تصوركم – لم يقع مرة أو مرتين فقط، وإنما لا يزال يجري عليه أمر الكائنات الحية كلها من بداية الخلية الواحدة، وفي كل مرحلة من مراحل التطور وصولا إلى الإنسان!! فالحاصل أنه يجب أن تخرج لنا رئة كاملة ونظام تنفسي صالح لتلك الأسماك من قبل أن تنحسر عنها المياه مثلا حتى تصبح من البرمائيات وتعيش على البر، ليس هذا فحسب، بل تحتاج كذلك نظاما للحركة يعينها على التحرك في اليابسة، وإلا لم تفدها تلك الرئة شيئا، إذ ستموت في مكانها لعجزها عن الانتقال بحثا عن الطعام وهروبا من الوحوش!
قال الملحد: وما يدريك أن الأسماك لم تظهر فيها طفرة عشوائية تجعل فيها ما تقول بالفعل، وذلك من قبل وقوع الحدث الذي اضطرها إلى الخروج من الماء؟ قد يكون ذلك كذلك! فالطفرة عشوائية بالأساس، فلا نظام يحكمها ولا ترتبط بوقوع حدث بعينه ولا دخل لها بذلك ولا دراية! فأقول إنه عبر ملايين السنين من عمر الكائنات الحية كان هذا ما يحدث في كل مرة، وهذا ما أدى في النهاية بالكائنات الحية إلى هذه الهيئة التي نراها!
قال الموحد: إذا تلك السمكة التاريخية لم تهرب، وإنما خرجت من الماء مجهزة بالفعل! أليس كذلك؟
قال الملحد: بلى!
قال الموحد: والزاحف التاريخي الذي احتاج للأكل من فوق الأشجار لأول مرة، لم يغير وجبته المفضلة إلا بعدما استطاع تسلق الأشجار، أليس كذلك؟
قال الملحد: بلى!
قال الموحد: كانت الزرافة إذن تأكل من الأرض ولا ضرر، حتى طالت رقبتها جدا فبدأت حينها فقط – لا قبل ذلك – تعتمد على الأكل من أعالي الأشجار.. أهذا صحيح؟
قال الملحد: نعم، فمن الواضح أن الطفرة العشوائية الصالحة التي يتم انتخابها تظهر قبل فناء النوع!! وأما الأنواع المنقرضة فلا تنقرض إلا لتأخر تلك الطفرة الصالحة عنها!!
قال الموحد: الآن ناقضت نفسك! فأولا: أنا لا أتكلم عن الأنواع التي تنقرض، ولكن عن الأنواع التي تنشأ!
وثانيا: فإنه بهذه التقريرات التي قررتَها وقبلتها في كلامي قد انتفت صفة الضرورة عن عملية الارتقاء، وانتفت فكرة الانتخاب الطبيعي من أساسها! فلو أن السمكة البرمائية -المجهزة مسبقا بنظام للتنفس البري- قد بقيت داخل الماء أو خارجه فإنها لم تكن لتتضرر.. ولو أن ذلك الزاحف الذي صعد الشجرة قد أكل من فوق الشجرة أو من تحتها لما تضرر، ولو أكلت الزرافة كذلك من عشب الأرض أو من جنى الشجرة لكفاها على السواء ولا فرق! فكيف يقال بعد ذلك أن الطفرة تأتي لتضيف عضوا جديدا عند ظهور الضرورة إليه؟! إنَّ الانتخاب الطبيعي إذن لا دخل له بالمحرك الفعلي لعلمية التطور هذه، ولا هو يفسرها ولا الطفرة! وسواء وقعت الطفرة الجديدة أو لم تقع، فكل كائن إذا عجز عن التأقلم مع بيئته فإنه سينقرض ولا فرق! فما هو المحرك الفعلي الدافع لهذا التطور طورا بعد طور، ودرجة فوق درجة على هذا النحو الذي نراه في قصتكم؟
إن خلاصة القول: أنه حتى مع نظريتكم الهزلية هذه فلا مفر لكم معها من خالق مدبر يسيرها ويضبط نظامها!
عندئذ لاذ الملحد بالصمت ولم يحر جوابا.