http://articles.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=218722



مَن الذي عليه عبء الإثبات؟ Burden of Proof
في البداية علينا أن نقول أن: القضية الوجودية الكبرى لا تحتمل الركون في منتصف الطريق ولا تحتمل عدم الوصول، فالأمر جد وليس بالهزل: مِن أين جئنا وإلى أين نحن ذاهبون؟
هذا هو السؤال الأكبر في المسألة الوجودية.

والذي لا خلاف عليه بين المؤمن والملحد واللاأدري: أن كل متع الدنيا وكل شهوات العالم لا تكفي إنسان يعلم أنه وُلد ليموت!

فالقضية الوجودية الكبرى هي أعظم القضايا ، ولذا هي لا تحتمل أنصاف الحلول-كما تقتضي اللاأدرية-، أو التأجيل للمستقبل لعل العلم يُخبرنا شيئًا- كما يقتضي الإلحاد فيما يُعرف بفجوات المستقبل المعرفية، حيث المستقبل العلمي قد يسد فجوات ما نجهله، مع أن الدين جواب لسؤال آخر لا علاقة له بالعلم -.

فالقضية الوجودية لا تحمل إلا الجواب الشافي الوافي والآن وحالاً!
فهذه طبيعة إلحاح الأسئلة الوجودية على العقل البشري، وكأن هذا العقل مُصمَّم للبحث عن إجابة هذه الأسئلة وتكون هذه غاية ما يريده من العالم. -1-

لكن يا تُرى! مَن المُطالَب بتقديم أجوبة للأسئلة الوجودية الكبرى، الملحد أم المؤمن أم اللاأدري؟
الذي يؤمن بوجود الله والذي يُنكر وجوده والذي لا يدري؛ كل واحدٍ من هؤلاء مُطالَبٌ بمنتهى البساطة بطرح منطقي متكامل!

فلن يقبل العقل بأنصاف الأجوبة ، ولا بإرجاء الحلول!
وبما أن ادعاء وجود الله له من الوجاهة والأدلة والقرائن الشيء الكثير مثل: السببية والعناية والقصد والغاية والإيجاد من اللازمان واللامكان، ودليل الحدوث، ومعجزة خلق الحياة، والنبوات والدين والفطرة والأخلاق، والمعايرة الدقيقة لحظة الخلق الأولى لكل الموجودات، والمعايرة الدقيقة لحظة خلق الكون، والمعايرة الدقيقة في كل شيء حولك وداخلك، واستيعاب الخير والشعور بالإمتنان وما لا يمكن حصره من الأدلة.

وآحاد آحاد هذه الأدلة قد يوّلد يقينًا لا يبق معه إلا التسليم لله، فضلاً عن آحادها فضلاً عن الأدلة في مجموعها! -2-

ولمّا كان كل ذلك من الأدلة التي يمتلكها المؤمن بالخالق صار من البديهي أن ينتقل عبء الدليل إلى المنكر-منكر وجود الله- وإلى اللاأدري!

وهذا ما يفعله القاضي المنصف حين يطلب دليل نفي من المتهم، خاصةً لو كانت تحت يده عدة إثباتات أو حتى قرائن.

فمثلاً في قصة سيدنا يوسف -عليه السلام- مع امرأة العزيز التي راودته عن نفسه، شهد شاهدٌ من أهلها وجاء بقرينةٍ تدل على أنها هي التي راودته عن نفسه، وبالتالي انتقل عبء الدليل ليكون على المنكِر. -3-

وبالمثل نقول إن قرائن كبرى عقلية كالتي ذكرناها تجعل عبء الدليل في الحقيقة على المُنكِر.

لكن صراحةً والذي يصدم القاريء المحايد فإن جميع أدلة مفكري اللاأدرية والإلحاد كانت من السذاجة والسماجة بمكان!

فمثلاً يقول برتراند راسل Bertrand Russell أحد مفكري اللاأدرية أنه لا يستطيع إثبات وجود الله كما لا يستطيع نفي وجود إبريق شاي يدور حول كوكب زحل. -4-

أوكما يقول الملحد المعاصر ريتشارد داوكنز Richard Dawkins أنه لا يستطيع إثبات وجود وحش سباجيتي طائر Flying Spaghetti Monster أو نفي وجوده! -5-

أو كما يقول آخر لا نستطيع إثبات وجود تنين قابع في جراج، وما لا حصر له من الأمثلة الساذجة!

وكالعادة يرتجع الملحد العربي نفس هذه الأمثلة سابقة الذكر بنفس الصياغات والأسلوب الذي حيكت به دون أدنى إعمال للآلية العقلية في تدّبر هذه الأمثلة وهل هى تستحق أن يعيد الملحد العربي استخدامها أم أنها فاشلة عقليًا!

فنحن لا ندري ما وجاهة هذه الأمثلة الساذجة التي لا تمت بأي صلة للعلل والمعلولات والأسباب والنتائج؟

فهل مثلاً إبريق الشاي له صلة بالسببية أو الغائية أو الضبط؟
هل إبريق الشاي معلول – مخلوق -، أم عِلة – خالق- ؟
هل إبريق الشاي سبب أم نتيجة ؟

فهذا خلطٌ ساذج بين مستوياتٍ مختلفة –خالقٍ ومخلوق، فإبريق الشاي مخلوق بينما نحن نتحدث عن موجِدٍ أول- فها هنا اللاأدري يخلط بين مستوياتٍ لا علاقة لأحدها بالآخر، وليس بين بدائل يُجيز النظر الخلط بينها ولو افتراضًا، وهذا يُعرف بالخطأ الطبقي category error.

فهو مغالطة منطقية ساذجة يقع فيها كبار مفكري اللاأدرية ويبتلعها الملحد العربي بلا وعي!

وهذا يوضح أن كبار فلاسفة اللاأدرية والإلحاد على قدرٍ مدهشٍ من السذاجة، فما وقعوا فيه بطرح هذه الأمثلة هو تناقضٌ جوهري لا يُفرق بين المعلول والعلة أو السبب والنتيجة، فنحن نتحدث عن علة أولى- خالق-، ولا نتحدث عن معلول- مخلوق-.

نحن نتحدث عن سبب لا نتيجة.

هذا التناقض المُركب Paradox في الطرح يؤكد عدم استطاعة كبار مفكري اللاأدرية والإلحاد مجاراة المتدينين في وجاهة الأدلة وكثرة القرائن وحضور المنطق في الطرح!

فلم يبق لهم إلا الإفلاس المعرفي والطرح المتناقض الذي يعبر عن عدم استيعاب المسألة أو استيعابها لكن مع الفشل والخيبة في مجاراة أدلة المؤمن.

وبذلك يصبح عبء الإثبات Burden of Proof إشكالية حصرية بالإلحاد واللاأدرية لم تتم الإجابة عنها ولو بصورة ساذجة أو بسيطة منذ آلاف السنين وحتى الساعة، ويظل موقف المتدين هو الأكثر عقلانية ومنطقية خاصًة مع تكامل فلسفته ورؤيته للحياة والوجود من حوله!

فالشيء المقبول الممتليء بكل هذه الأدلة والقرائن، لو أردت أن تنفيه فيجب عليك أن تخرج علينا بأدلة أقوى حتى نؤمن بما تقول، وحتى تفعل ذلك- ولن تفعل- يبقى التفسير الديني هو التفسير الوحيد المنطقي المقبول.

هوامش المقال
----------------------
1- بحْث العقل عن أسئلة الوجود الكبرى، هذا يُسمى ب"الدوار الميتافيزيقي" وهو دوار لأنه لا يترك صاحبه دون إجابة للأسئلة الماورائية الميتافيزيقية الكبرى. يقول هنري سيمل Henry Semel :- " إن رجل الكهف الذي عانى من الدوار الميتافيزيقي قبل آلاف السنين لا يزال هذا الدوار هو مرض الإنسان الحديث."
ويعترف الملحد الشهير ريتشارد داوكنز Richard Dawkins في لقاءٍ له على أحد أفلام BBC الوثائقية فيقول : "وأنـا أيضاً أعاني من الدوار الميتافيزيقي والأسئلة المحيرة، ولا يستطيع إنسانٌ يتـأمل في نفسه وفي الزمان والحقب الجيولوجية إلا واعتراه دوار ميتافيزيقي شديد."
Video source, BBC Productions
2- قد نتعرض لتفصيل بعض هذه الأدلة في مقالاتٍ قادمةٍ إن شاء الله تعالى.
3- من وحي أحد مقالات: لست ملحدًا.. لماذا؟ للأستاذ: كريم فرحات.
4- http://www.tandfonline.com/doi/pdf/1....2010.10820011
5- http://archive.wired.com/wired/archi...1/atheism.html