هذا المقال هو مقتطفات من تفسير "تفهيم القرآن" لأبى الأعلى المودودى رحمه الله مترجم عن ترجمة بالإنجليزية عن أصل باللغة الأردية و زدت عليه بعض المسائل

دلائل النبوة العقلية

كثيرا ما يطالب الملحدون بالدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم زاعمين أن دعوى المسلمين بأن محمد صلى الله عليه وسلم كان نبيا يأتيه الوحى من خالق الكون هى دعوى تفتقر للدليل و أن المسلمين في إيمانهم بنبوته ما هم إلا مقلدين لما وجدوا عليه آباءهم. وكثير من المسلمين لا يحير جوابا عندما يطرح عليه هذا التساؤل. و السبب فى ذلك أن الاستدلال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بخلاف الأنبياء قبله استدلال مركب لا يستند إلى دليل منفرد. فالأنبياء قبله - كما قاله هو صلى الله عليه وسلم- مَا مِنْ نَبِيٌّ منهم إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ فكانت دلائل نبوتهم قريبة إلى الأذهان فأُرسل موسى إلى قومه بتسع آيات حسية إلى فرعون وملئه وأُرسل صالح إلى قومه بالناقة التي أخرجت من الصخر وأرسل عيسى بإحياء الموتى و إبراء الكمه و البرص ونحو ذلك. غير أن ما يميزه عن الأنبياء قبله أن رسالته لا تختص بأمة دون أخرى ولا بزمان دون زمان فكان لزاما أن تكون دلائل نبوته صالحة لكل زمان ومكان بخلاف من كان قبله من الرسل الذين كانت دلائل نبوتهم لا تصلح إلا لأقوامهم ممن عاين و شاهد تلك الآيات. و النبى صلى الله عليه وسلم وإن كان بعث مؤيدا بآيات حسية لعشيرته كآية انشقاق القمر التي خلد القرآن ذكرها وسجل ردود أفعال قومه عليها وأنهم عدوها سحرا سحرهم به لن يلبث أن يزول أثره فقالوا "سحر مستمر" إلا أن هذه الآيات ليس لها أثر إلا على من شاهدها أو ثبت لديه وقوعها بطريق الاستدلال و بطبيعة الحال فالمكذبون بدعوته سيجدون عدة مخارج لتبرير عدم تصديقهم بتلك الآيات فمنهم من سيقول بأنها من اختلاق المسلمين بعد عصر محمد وإن كان كون القرآن تواتر به النقل يبطل هذا المخرج عند من لديه نظر ومنهم من سيقول أن الآية لا تعنى انشاق القمر على وجه الحقيقة و سيحملها على المجاز ولا يخفى ما في ذلك من التكلف أو أن القوم رأوا ظاهرة طبيعية بدت لهم وكأن القمر قد انشق ونحو ذلك من التأويلات و التى ستكون بدورها موضعا للنزاع.
إلا أن الدلائل على نبوته و التي تصلح للاحتجاج بها في كل زمان ومكان لأنها باقية إلى يوم القيامة هو ما ذكره النبى صلى الله عليه وسلم بقوله وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. لكن كيف أن الوحى بحد ذاته دليل على نبوته فهذا من وجوه عديدة يطول شرحها وبطبيعة الحال سيكون كل وجه منها موضعا للنزاع بين المؤمنين و المكذبين فكما نازع المكذبون في معجزات أنبيائهم الحسية قديما سينازع نظراؤهم من المكذبين حديثا في كل وجه من من وجوه الأدلة التي تضافرت على صدقه وكونه يأتيه الوحى من خالق الكون ومجرد نزاعهم لا يعنى أنها ليست بأدلة مثل أن دعوى فرعون أن آيات موسى كانت من قبيل السحر لا يعنى أنها كانت سحر ولا أدل على ذلك من سجود السحرة. وأحد أوجه الأدلة من الوحى أن أحد قسميه وأشرفهما وهو القرآن تحدى النبى صلى الله عليه وسلم به البلغاء و الفصحاء أن يأتوا بمثله في الفصاحة و البلاغة فعجزوا عن ذلك إلى يومنا هذا و التحدى مستمر إلى يوم القيامة لأن القرآن سيظل بين أيدينا معلنا هذا التحدى. و بالرغم من اتفاق أهل البلاغة و الفصاحة على مدى قرون عديدة على أنه لم يات أحد بما هو أفصح و أبلغ من هذا القرآن وهذا أمر يعلمونه بالاستقراء و تتبع النصوص الأدبية و محاولات معارضة القرآن إلا أن نزاع البعض في ذلك لا يخرجه عن كونه بالفعل أفصح النصوص و أبلغها. ومن ذلك أنه أخبر فى وقت كان فيه مستضعفا أن دينه سينتصر و يكتب له الظهور على سائر الأديان وأن ملك أمته سيبلغ مشارق الأرض و مغاربها وهو ما وقع بالفعل وهو بحد ذاته دليل من جملة الأدلة التى يُستند إليها على صدقه و نبوته. وعلى هذا يمكن قياس سائر أوجه الدلائل على صدقه و نبوته ومحصلة ذلك أن هذا الوحى وما أنجز بناءا عليه لا قبل لمحمد صلى الله عليه وسلم و لا لغيره من البشر ممن ادعى قومه او غير قومه أنهم أعانوه عليه ان يأتوا بمثله من تلقاء أنفسهم وليس ثمَّ تفسير موضوعى يأخذ الحقائق بعين الاعتبار إلا كونه خارج عن نطاق امكانات البشر على الأقل إمكانات محمد صلى الله عليه وسلم ومن يمكنه أن يستعين بهم. وسيظل الناس في نزاع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ثم يفصل بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون و هو المطلع على ما تكن صدورهم و ما يعلنون. و سأفصل فيما يلى كيف ان الوحى وما أنجز بناءا عليه من وجوه دال على صدق و نبوة محمد صلى الله عليه وسلم و غير ذلك من الدلائل.

العالم قبل ألف وأربعمئة عام

كم كانت وسائل الاتصال و تبادل الأفكار شحيحة في ذلك الزمان و كم كانت المعرفة البشرية وسبل التفاعل بين الأمم و البلدان محدودة و يعترى القصور تصورات البشر، وأفكارهم يشوبها الخرافة و التوحش حينئذ. كم كان نور المعرفة خافتا وقتئذ في خضم ظلمات الجهل المطبق، وكم لاقى من مقاومة وهو يشق طريقه في خضم تلك الظلمات. حينئذ لم يكن العالم يعرف شيئا عن الأسلاك ولا عن الهواتف ولا المذياع ولا القطارات ولا الطائرات ولا دور الطباعة و النشر، ولم يكن هناك إصدار للصحف ولا المجلات ولم يكن هناك وفرة من المدارس و الجامعات ولم تكن الكتب تنسخ بأعداد كبيرة و لم تكن تنشر بأريحية. فالدارسون في ذلك الزمان كانوا على درجة أقل من المعرفة في بعض الجوانب من عوام الناس في زماننا هذا ، و ما يعرفه العامة في أيامنا دون جهد أو عناء كان يتطلب حينئذ سنوات مضنية من البحث و التدقيق، و المعلومات التي تنتشر بسرعة البرق في وقتنا حتى أصبح من السهل حتى على المراهقين الوصول إليها كان حينئذ يمكن الحصول عليها فقط بعد تجشم عناء السفر لأميال في رحلات قد تستغرف أعمار البعض. وما يعد سخيفا و خرافيا من التصورات الآن كان حينئذ يمثل حقيقة مطلقة، وما يعتبر بربريا ولا أخلاقيا من الأفعال في زمننا كان هو السلوك البشرى المعتاد وقتها.

الأوضاع في الجزيرة العربية

في تلك الأيام التي يغشاها الظلام كانت هناك بقعة منسية من الأرض حيث الظلام كان أشد حلوكة. كانت جزيرة العرب تقع في وسط البلدان التي كانت تعد بمقاييس ذلك العصر بلدان متحضرة دون أن تحظى بأى قدر من الاهتمام. يحيط بها بلاد فارس و مصر و روما التي كانت تتمتع بشىء من نور العلم و الفن و الثقافة، في حين نأت الجزيرة العربية بنفسها عن تلك البلدان محاطة بمساحات شاسعة من الرمال.كان التجار العرب يرتحلون معا لأشهر لتلك البلاد المجاورة لأجل التجارة ولا يعودون إلى بلادهم إلا محملين بالبضائع التي قاموا باستبدالها دون أن يصحبهم إلى ديارهم قبس من معرفة أو حضارة. فلم يكن بأرضهم مدارس ولا مكتبات ولم يكن عندهم تطلع إلى التعلم ولا أدنى اهتمام بالعلوم و الفنون. ولم يكن يجيد منهم القراءة و الكتابة إلا نفر قليل ولم يكونوا على قدر كاف من المهارة أو الكفاءة بحيث يكونوا على اطلاع على علوم و فنون ذلك الزمان. كان بحوذتهم بالرغم من ذلك وعاء لغوى يتميز بالثراء و بقدرة فائقة على صياغة الأفكار مهما بلغت درجة رقيها و سموها فضلا عن ملكة شعرية من الطراز الأول. إلا أن النصوص الأدبية التي وصلتنا من ذلك العصر تدلنا إلى أى درجة و على نحو مثير للشفقة كانت معارف القوم محدودة وكم كانت ثقافتهم و حضارتهم متدنية وكم كانوا مثقلين بالخرافات وكيف كان يتسم سلوكم وعاداتهم بالهمجية و معاييرهم الأخلاقية بالفظاظة و الغلظة.
لم يكن بالجزيرة العربية - باستثناء الممالك على اطراف الجزيرة - حكومة ولا قوانين و كل قبيلة كانت كيانا مستقلا بذاته في ظل سيادة شريعة الغاب وكان يقتل بعضهم بعضا و يستولى بعضهم على ممتلكات البعض لمجرد اختلاف الانتماء القبلى. فقد عاشوا حياة رثة وكانت أخلاقهم و تعاملاتهم تتسم بالتوحش فقد كان الزنا و الميسر و قطع الطرق و سفك الدماء يمثل روتين حياتهم.
وكان الواحد منهم لا يجد حرج في أن يُرى عريانا حتى إن نساءهم كن يطفن عرايا بالكعبة وكانوا يئدون بناتهم بدفنهن أحياءا في التراب ليتجنبوا العار الذى يجلبه عليهم وجود زوج للإبنة في نطاق الأسرة و كانوا يتزوجون بنساء آبائهم بعد وفاتهم ولم تكن لديهم أدنى فكرة عن آداب الطعام و اللباس و الطهارة.
أما فيما يتعلق بشئونهم الدينية فقد كان الجهل و فساد التصور قاسما مشتركا بينهم و بين عالمهم المعاصر فكل صور العبادة من وثنية و عبادة للأرواح و النجوم التي كانت منتشرة في العالم من حولهم قد وجدت لها موطىء قدم في بيئتهم. و إن كان شيئا غيابه ملفت للنظر فهو عبادة إله واحد فلم يكن لديهم معرفة صحيحة بالأنبياء القدماء ولا بتعاليمهم. فقط كانوا يعلمون أن أنسابهم ترجع إلى إبراهيم و إسماعيل لكن لم يعودوا يتذكرون ماذا كانت ديانة هؤلاء الأجداد ومن الذى كانوا يعبدون.
وقد كانت قصص عاد و ثمود زائعة الصيت بينهم غير أن الواحد لا يجد قط أى أثر لتعاليم هود و صالح ضمن تراثهم الذى وصل إلينا من خلال المؤرخين العرب. كما نمت إلى أسماعهم قصص بنى إسرائيل من خلال احتكاكهم باليهود و النصارى غير أن مدى سخافة تلك القصص يمكن رؤيته من خلال ما بلغنا منها عن طريق المفسرين المسلمين وكيف كان تصور هؤلاء العرب - و اليهود أيضا- عن النبوة و الأنبياء شائنا شائها.

ميلاد إنسان

وفى ظل تلك الأوضاع و على تلك الأرض شهد العالم ولادة النبى صلى الله عليه وسلم. وقد ابتلى بفقد أبيه قبل أن يولد فضلا عما تلا ذلك من وفاة أمه و جده بينما لا يزال صغيرا و فقد جراء ذلك أى فرصة للتعلم و التدرب ولو كان قدرا متواضعا مما كان متاحا لأى طفل عربى نشأ في ظل حياة أسرية طبيعية. و في صباه وجد نفسه يرعى الأغنام و الماعز بصحبة أقرانه من الغلمان. و في شبابه كان بصحبه التجار وكان نهاره و ليله في معية هؤلاء العرب الذين تقدم وصف أوضاعهم دون أدنى حظ من التعلم لدرجة أنه لم يكن يجيد القراءة و الكتابة.
غير أنه في مناسبات محدودة كانت لديه الفرصة لتطأ أقدامه خارج الجزيرة العربية إلا أنه لم يذهب إلى ما هو أبعد من أرض الشام وكانت طبيعة رحلاته تلك إلى أرض الشام من جنس طبيعة رحلات القوافل العربية التجارية إلى نفس الوجهة. ودعونا نفترض أنه خلال سفره لتلك الوجهة لاحظ لبرهة بعض أمارات المعرفة و الثقافة و قابل بعض أهل المعرفة إلا أن تلك الملاحظات اليسيرة و المقابلات التي كانت وليدة الصدفة البحتة ليست كافية بشكل من الأشكال لبناء شخصية كاملة وأثرها ليس من العمق و البقاء بمكان بحيث يصبح المرء منبت الصلة بالبيئة المحيطة مترفعا عنها. كما أن استقاء تلك المعرفة من هؤلاء لا يجعل من بدوى لا يقرأ ولا يكتب ليس فقط زعيما لبلد من البلدان بل قائدا لأمة بأجمعها يمتد سلطناها عبر شطر العالم فضلا عن كون تلك القيادة ليست محدودة بزمان بل ممتدة عبر الأزمان. ولو افترضنا جدلا أنه أفاد معرفيا من بعض الناس خلال أسفاره إلا أنه لا يوجد مصدر يمكن أن يقتفى أثره لتصوراته الدينية و الأخلاقية و الحضارية ولا لنماذج الشخصية الإنسانية التي لم يكن لها وجود في عالمه المعاصر.

شخصيته

ضع نصب عينيك ليس فقط الأجواء السائدة في جزيرة العرب حينئذ بل في العالم أجمع و خذ بعين الاعتبار مايلى: ذلك الإنسان بدا مختلفا في عاداته و أخلاقه عن هؤلاء الذين ولد بينهم وقضى طفولته و بلغ أشده وظل بصحبتهم في احتكاك يومى. فلم يؤثر عنه كذبة قط وشهد له قومه بأنه أهل للثقة حتى ألد خصومه لم يسبق لهم أن اتهموه بالزيف قط في مناسبة من المناسبات ولم يسمع قط ينطق بسباب أو فاحش من القول ولم يكن فظا ولا غليطا و كان حلو اللسان وكل من احتك به حاز على إعجابه و ثقته المطلقة ولم ينخرط في تعاملات غير عادلة ولم يجور على حقوق الغير ألبتة حتى لقبه قومه بالصادق الأمين.
وكان يرعى الأرامل و الأيتام و أبناء السبيل و يسعى في الصلح و لم ينخرط في عادات قومه الذميمة من شرب للخمر و تعاطى الميسر أو الظهور بمظهر غير لائق وكان يبغض العنف ولا يشجع عليه ولم يقنع بعبادة الأوثان ولم يراها أهلا للعبادة و لم يحنى جبهته لمخلوق على الإطلاق. فكان في قومة بمنزلة مصباح يضىء في ظلام دامس أو الألماس يشع في عديد الحصى.

التحول الذهنى و الروحانى

بعد أن عاش حياته تلك نقيا نبيلا دمث الخلق لمدة أربعين عام طرأ تغير جذرى على حياته فقد أخذ يضيق ذرعا بهذا الظلام الكالح الذى يحيط به من جميع الجهات وأراد أن ينأى بنفسه عن بحار الجهل و فساد الأخلاق و الخلاعة و غياب الهوية و الفوضى و عبادة الأصنام و الشرك من حوله فلم يكن من شىء مما يحيط به ما يناسب طباعه وبدأ ينعزل بنفسه عن هذا كله باحثا لنفسه بصورة متكررة عن خلوة وسط الجبال الهادئة بعيدا عن صخب قريته حيث سيقضى أياما فى ظل السكينة و العزلة يتفكر و يتأمل ملتسما النور الذى بواسطته يستطيع أن يبدد عهد الظلام المهمين باحثا عن سلطان يمكنه من إعادة هيكلة ذلك العالم المنحل ويعيده سيرته الأولى إلى جادة الحق و الصواب.

نداء الثورة

وإذ فجأة حدث تغير جلل إذ أضاء نور فى قلبه لم يكن قبل ذلك وإذ فجأة غشيته قوة لم يعهدها من قبل. دفعه ذلك للخروج من خلوته فى الغار مقبلا على قومه مخبرا إياهم أن تلك الأوثان التى يحنون لها الجباه لا حقيقة لها ناهيا إياهم عن عبادتها موضحا لهم حقيقة أنه ليس بين البشر ولا الشجر ولا الحجر ولا النجوم ما هو أهل للعبادة و الخضوع و الطاعة وأن هذه الأرض التى يحيون عليها و الشمس و القمر و النجوم كلها مخلوقات لله. وأن الله وحده هو خالقهم و الجدير بالعبادة و الطاعة و الخضوع محذرا إياهم من أن السرقة و النهب و سفك الدماء و و التخريب و سائر الفظائع من الأفعال هى خطايا لا يرضاها الله و يتحتم الإقلاع عنها. وأمرهم أن يقولوا الصدق و ينتهجوا سبيل العدل ونهاهم عن قتل النفس والاستيلاء على ممتلكات الغير وأمرهم أن يأخذوا ما يأخذوا بالمعروف و يدعوا ما يدعوا بالمعروف و أخبرهم أنهم جميعا لأب واحد ومتساوون كأسنان المشط وأنه لا فضل لأحد على أحد باللون أو العرق بل الناس تتفاضل بالتقوى وحسن الخلق وأنهم بعد الموت لا محالة صائرين للمثول بين يدى الله وسوف يسألهم عن أفعالهم و يحاسبهم عليها فهو عليم بكل شىء مطلع عليه وستنشر أعمالهم جميعا فى صحائف بين يديه فلا يخفى عليه شىء فإما أن يكون مصيرهم إلى الجنة ونعيمها أو إلى النار وعذابها. تلك هى فحوى النداء الذى خرج به من مأواه فى الغار.

ردود الفعل الأولية على نزول ملاك الوحى

هناك أمر يجب أن يستوقفنا ههنا بخصوص ردة فعله على نزول ملاك الوحى للمرة الأولى. فاللافت للنظر أنه ابتداءا لم يتهلل لهذا الأمر بل أزعجزه بشدة وأدخل الفزع إلى قلبه حتى أنه هبط من الغار مهرولا إلى زوجه طالبا منها أن تدثره بثيابه وظل يرتجف لبعض الوقت حتى ذهب عنه الروع وأخذ يتفكر فى هذا الذى عرض له ولم يقفز إلى استنتاج أن هذا الذى ألم به هو نزول الوحى من خالق السماوات و الأرض بل أشكل عليه الأمر وأخذ يستشير فيما حدث و تشكك فى بادىء الأمرحتى تشكلت لديه القناعة إن هذا الذى ظهر له هو كائن علوى لاسيما لما رآه على صورته الحقيقة سادا بعظم خلقه الأفق فى مناسبة أخرى وتلك التفاصيل كما ذكرت عالمة النفس ليزلى هازلتون تنبئنا بأن هذه التجربة تجربة صادقة وليس أمر مفتعلا ولا من وحى الخيال.

التنوع المثالى

على خلفية التاريخ البشري تبدو شخصية هذا الرجل المدهش سامقة جدا بالنسبة لكل الآخرين - من أولهم لآخرهم- الذين يحتفي بهم العالم" كأبطال" تاريخيين. فإنهم يبدون أقزاما إذا ما قورنوا به، لا أحد من هؤلاء الذين يوصفون بأنهم "عظماء" العالم يمكن أن يتم تقديمه كمثال على كون إنجازاته تتعلق بأكثر من مجال أو اثنين من مجالات الحياة البشرية.
منهم من يعد أسطون النظريات لكن يتسم بغياب البعد العملى ، وأحدهم رجل أفعال لكن يفتقر للفكر ، ومنهم من تقتصر موهبته على الحنكة السياسية ، وشخص آخر يظهر كعبقرية عسكرية و آخر يتركز اهتمامه على جانب واحد من الحياة الاجتماعية بينما يختفي أي وجود لباقي الجوانب من رؤيته ، وواحد يركز على الأخلاق والروحانيات بشكل حصري ويتجاهل الاقتصاد والسياسة وغيره يتجاهل الأخلاقيات والروحانيات أثناء نظره في الاقتصاد والسياسة، باختصار فنحن نجد أبطال يقتصر اهتمامهم على جانب من الجوانب في كل صفحات التاريخ.
هذه الشخصية وحدها هي مثال متفرد على التنوع المثالي في كل أبعاد الحياة، فهو فيلسوف حكيم ومنفذ لأيديولوجيته في الحياة العملية ، هو رجل دولة وقائد جيش ومشرع ومعلم أخلاق بالاضافة لكونه مرشد ديني وروحى. فرؤيته تتضمن الحياة البشرية بكليتها وتستوعب حتى أدق التفاصيل. فهو يصدر توجيهات و تعاليم بخصوص كل شئ يتراوح تعلقها ما بين الأمور الشائعة مثل آداب الطعام والشراب وتنظيف الجسد إلى مسائل حيوية ومعقدة مثل العلاقات الدولية. فهو يثبت نفسه من خلال إيجاد حضارة مستندة لأيديولوجيته، و ينشىء مثل هذا التوازن بين جميع أبعاد الحياة المختلفة بصورة لا تعرف أي اختلالات لأن كل جزئية متناغمة بشكل مثالي مع سائر الجزئيات. هل سبق لك أن عرفت شخص آخر بهذا التنوع والكمال؟

فوق محيطه

ليس هناك واحد من الشخصيات العظيمة في العالم الا وكان بدرجة او بأخرى نتاج ظروفه المباشرة، لكن هذا الرجل مايزال استثناء محير ، فيبدو أن بيئته لم تلعب أي دور في صعوده، ولا يمكن بأي حجة من الحجج إثبات أن الظروف المعاصره له في الجزيرة العربية حتمت تاريخيا ظهور مثل هذه الشخصية.

أقصى مايمكن أن تقوله هنا هو أن العوامل التاريخية المعاصرة في الجزيرة العربية ربما تطلبت قائد يمكنه عبر إزالة أو التقليل من الخلافات القبلية أن يوحد العرب في أمة واحدة وعبر غزو مناطق أخرى أن يؤمن مستقبلهم الاقتصادي . والمعنى أن ما سيفرزه ذلك هو قائد قومى يجسد كل الخصائص العربية المعاصرة له والذي سيستخدم كل الوسائل ايا كانت بما فيها الوحشية وسفك الدماء والخداع والغدر من أجل ازدهار أمته وبناء امبراطورية يتعاقب على وراثتها نسله من أجل اقامة حكم دائم في سلالته. وعدا ذلك فليس هناك أى شىء آخر يمكن إثبات أن ذلك الظرف المعاصر يحتمه أو يقتضيه. ومن وجهة نظر الفلسفة الهيجيلية للتاريخ أو التفسير المادي المركسى للتاريخ فإن أقصى ما يمكن القول به هو أنه في تلك الظروف يمكن أن يكتب الظهور لمؤسس دولة أو إمبراطورية.
ولكن كيف بأي حال يمكن أن تفسر النظريات الهيجيلية والماركسية أو تبرر خروج مثل هذا الرجل في هذا الوقت وفي هذه الظروف والذي ثبت أنه أفضل معلم أخلاقي ومصلح للبشرية ومنقيّ للأرواح ومزيل للتحيزات والخرافات والذي تخطت رؤيته حواجز الأمة والوطن الأم وشملت البشرية جمعاء. ووضع أسس النظم الأخلاقية والروحية والثقافية والسياسية للبشرية كلها وليس لأمته وحدها. هذا الإنسان الذي أسس العلاقات الاقتصادية والحكم المدني والعلاقات الدولية على أسس أخلاقية وليس فقط من الناحية النظرية بل أيضا من خلال الممارسة العملية. ومزج الروحانية والمادية في توازن مثالي ونظام دقيق لا يزال آية فى الحكمة كما كان في أي وقت مضى. هل يمكن حقا أن تعتبر هذه الشخصية نتاج للبيئة البربرية في جزيرة العرب ؟

شخصية تصنع عهد جديد

ليس فقط أنه لا يبدو أنه نتاج بيئته بل يمكن أن ندرك من خلال التفكر فى إنجازاته أنه متجاوز لحدود الزمان والمكان ، فرؤيته تجتاز كل حواجز الزمن و الظرف المحيط و تخترق الحجب عبر القرون. فهو يبصر البشر في كل عصر وكل بيئة ويعطي لأسلوب حياتهم إرشادات عملية وأخلاقية تناسب كل ظرف على نحو مثالي وبتناغم تام.
إنه ليس من هؤلاء الذين تخطاهم التاريخ بحيث يمكننا أن نلهج بالثناء عليه فقط كقائد فذ فى سياق عصره، بل كونه شخصية فريدة وشديدة التميز ، فهو زعيم يساير التاريخ ويظهر وثيق الصلة بكل حقبة تالية كما كان في كل حقبة سابقة.
إن من تتفضلوا عليهم بلقب "صناع التاريخ" هم في الحقيقة "صنائع التاريخ" ، إن "ًصانع التاريخ" الوحيد في تاريخ البشرية كله هو هذا الرجل. فإذا ألقيتم نظرة فاحصة على أحوال الثوار العظام في التاريخ ستدركوا أن العوامل التي أدت للثورات كانت بالفعل موجودة، هذه العوامل هي التي حددت مسار واتجاه هذه الثورة التي سعوا إلى تحقيقها، وفي هذه اللحظة المناسبة فإنه يظهر القائد الثورى الذى يتقدم للأمام فقط ليلعب دور الممثل الذى حدد له بالفعل طبيعة الدور الذى سيلعبه فضلا عن مسرح الأحداث وهو فقط يقوم بترجمة إملاءات الظرف القائم ونقلها من حيز الإمكان إلى حيز الواقع ( كمن يقطف ثمرة نضجت وأينعت بالعوامل الطبيعية) ، ففي أغلب الحالات لا يعدو أن يكون مجرد عامل مساعد.
ولكن من بين صناع العصور والقادة الثوريين فإن هذا الأمى يقف متفردا لكونه أنتج أسباب الثورة التى لم يكن لها وجود وأنشأ مادتها التى فى حين لم تكن كائنة: وأعد الأشخاص المناسبين لقضيته حيث لم تكن روح الثورة ولا الإمكانية العملية للثورة موجودة، فسكب في قلوب الآلاف من البشر روح شخصيته المبهرة و قولبهم على النمط الذى أراده لهم أن يكونوه. وبقوة شخصيته وصلابة إرادته مهد الأرض للثورة، فهو بنفسه قام بتحديد معالمها واتجاهها و بقوة اقتناعه الذاتى و عزمه قام بتذليل الظروف وتوجيهها بالاتجاه الذى اختاره. هل يمكن أن تحدد لنا أي شخصية أخرى من صناع العصور يتسم بهذا الجلال الذى لا يضاهى أو ثائر بمثل هذه العظمة التي لا مثيل لها في التاريخ؟

ورعه الكامل

أنت تقول أن كل هذا اختلقه عقله، لكن أنا أقول لو كان هذا من تخيلاته فمن المفترض أن يدعي الألوهية وليس النبوة ، فلو قدم مثل هذا الزعم فإن العالم الذي تقبل ألوهية راما ولم يتردد في اعتبار كريشنا إله واتخذ بوذا إله وقبل باعتبار المسيح ابن الله وعبد حتى النار والماء والهواء ما كان ليتردد في اتخاذ الشخص الأروع عبر العصور كإله.
الآن فكر للحظة ما هو المصدر الذي يمكن أن يصدر عنه كل هذا الكم من المعرفة والنور والقوة والبراعة والمهارات المتناغمة والطاقات الهائلة في شخص بدوي أمي يعيش كراعي وتاجر في مكان نائي وغامض ومظلم من الارض مثل الجزيرة العربية، مكان أكثر ظلاما من باقي العالم ، وقبل 14 قرنا من الزمان؟
لكن أنظر ماذا يقول هو، إنه يرفض أن ينسب الفضل لنفسه حتى فيما يتعلق بصفاته الذاتية ، فيقول " أنا شخص عادي مثلك ولا شيء مما لدي ملكي، فكل شيء من الله وإليه، هذا الخطاب -الذي لا يمكن أن يصدر من كل البشر مجتمعين - ليس مني ، إنه ليس نتاج قدراتي الذهنية ، لقد أرسل كله كلمة كلمة إليّ من الله الذي يستحق الثناء، هذه الانجازات التي أحققها وهذه القوانين التي صغتها وهذه المباديء التي علمتكم إياها لم أخترع أي شيء منها بنفسي ، أنا لا أملك أي قدرة على تقديم شيء بقدرتي الذاتية ، أنا اتطلع لله واطلب توجيهه في كل مسألة ، أنا افعل وأقول كما يخبرني هذا المصدر"
أنظر كم هي مذهلة هذه النزاهة! يالها من ثقة ومصداقية مطلقة! الكاذب لن يتردد في أخذ الفضل حتى فيما يمكن ان يثبت نسبته لغيره، لكن هذا الرجل يرفض أن ينسب لنفسه الفضل في الامور التي قام بها والتي لا يمكن لأحد أن ينكر عليه إن هو من فعل ذلك، ببساطة لأنه لا أحد يملك امكانية الوصول لمصادر هذه الأمور، هل هناك دليل أوضح من هذا على صدقه؟ من يمكن أن يكون أصدق من رجل لديه امكانية الوصول لمصدر خفي من الامتيازات لا يتوفر لغيره ومع ذلك فهو بلا تردد يتيح للآخرين أن يعرفوا المصدر الأصلي لكل هذه الانجازات الرائعة؟ أخبرنا إذا لماذا يجب ألا نشهد بصدقه؟

تحمل المشاق فى سبيل دعوته

إن إيمانه الراسخ بنبوته وحده هو الذى يفسر مثابرته فى وجه الطغيان والاضطهاد اللذين واجههما فى الفترة المكية حيث من وجهة النظر المنطقية لم يكن ثمَّ أمل للنجاح كما ذكر وليام مونتجمرى وات وغيره و بالرغم من أن قومه عرضوا عليه المال و الجاه و الملك نظير أن يتخلى عن دعوته إلا أنه أبى إلا أن يستمر في دعوته رغم المعاناة و الشدائد التي لاقها و في وقت كان النجاح أمل بعيد المنال في ظل تلك الظروف و المعارضة الشديدة التي تطورت إلى محاولات الاعتداء على حياته. فضلا عن كون ايمانه بأنه مرسل من قبل الله وبعدالة القضية التى ينافح من أجلها هو الذى له الأثر البالغ فى القدرة على التأثير فى الآخرين و حملهم على التصديق برسالته

أقرب الناس إليه اشدهم إيمانا وأكثرهم إخلاصا

وهنا يلفت السير ويلم موير أنظارنا إلى مسألة مهة ألا وهى أن أقرب الناس إلى النبى صلى الله عليه وسلم في حياته كانوا هم أشد الناس موالاة له في الظاهر و الباطن في حياته و بعد موته فضلا عن كونهم من الفضلاء و يتسمون بالذكاء و الفطنة وهؤلاء الخاصة يكونون على اطلاع على بواطن الأمور و هذا يدل على أن ما اطلعوا عليه في الباطن لا يختلف عن ظاهر أمره مما دل على إخلاصه و صدقه.

ثناء العقلاء عليه و الشهادة باخلاصه

شهادت العقلاء فى هذا الباب لا تحصى وإن كان الأمر بدأ بشكل تدريجى إلا أنه ابتداءا من توماس كارليل أخذ الاعتقاد فى اخلاصه يزاداد شيئا فشيئا حتى ذكر وليم منتجومرى وات أن الرأى السائد الآن لدى المؤخرين و الكتاب – من غير المسلمين - أنه كان مخلصا يعتقد فى تفسه أنه صادق وليس كما كان يزعم الأوروبيون قديما فى العصور الوسطى أنه مخادع احتال على الناس لمجد شخصى و المقام ههنا يضيق بذكر شهادات هؤلاء العقلاء الذين عدوه من أعظم الشخصيات على مر التاريخ. وتحضرنى ههنا آية من آيات الذكر الحكيم وهى قوله تعالى : أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى إسرائيل.