تجربتي في دِراسة وفَهم كتاب الإحكَام لابن حَزم

كتاب الإحكام في أُصول الأَحكام لابن حزم (ت: 456هـ)رحمه الله تعالى ، كتاب قيِّم يُقوِّي المَلكة ويُرسِّخ مسائل العِلم ، وهو كتاب وعر ، فهو قريبُ المأخذ عسر الإحاطة ، ولا يجوز لطالب العلم أن يحمل نفسه على المهالك في سبيله قبل أن يقف على معالمه ومُراد مؤلِّفه منه، وطريقته في ترتيبه ومعانيه .

ومن معالمه معرفة كيفية طرح ابن حزم للمسائل والدلائل ، والجواب عنها وكشف الشُّبه حولها .
والكتاب – على بعض هنَّاته – مُحكم كما سمَّاه مؤلفه ، وينطبق عليه قول القائل : فيه سِحر البلاغة وسرُّ البراعة .
وكنت أسمع المحدِّث الألباني (ت: 1420هـ)رحمه الله تعالى في دروسه ينصح بمطالعة وفهم هذا الكتاب ، فازداد اقبالي عليه والنهل من علومه حتى أفدتُ منه كثيراً ، لا سيما التقعيد الأُصولي والحديثي .
ولأنني صاحبُ تجربة مع هذا الكتاب – على ضعف ٍمني -مذاكرةً وتدريساً ومناقشةً لمسائله ،وحفظاً لبعض قواعده وأدلته ، فقد أحببتُ أن أرقم تجربتي المتواضعة في دراسته وفهمه ، والأساليب المناسبة التي تُقرِّب فوائده وفرائده .

• مقدِّمة الكتاب :
مُقدِّمة الإحكام هي مفتاح المنهج العام لكتاب الإحكام .
والمقدِّمة لخَّص فيها ابن حزم غَرضه من تأليف الكتاب ، وهو بيان الحق بالدليل ، وبيان مراد الله تعالى في الأحكام ، وقد عبَّر عنه بجملة نافعة وهي قوله : ” مُستوفى مستقصى ، محذوف الفضول محكم الفصول “.
وبيَّن في مقدِّمته أن الدِّين لا يُؤخذ إلا عن الله تعالى وعن لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد اعتنى بهذين الأصلين في كل صفحات كتابه كل العناية ، تقعيداً وتقريراً واستقراءاً .

وقد أشار في مقدمته إلى ضرورة التعقُّل بالقلب ، وطلب الرشد من الله تعالى ، وأنه لا يجوز للمسلم التعلم بلا تعقل أو تدبر .
ويقصد من هذه النصيحة أن يفهم طالب العلم الدليل وأن يتبيَّن في معانيه قبل تقليد كلام أهل العلم ، وأن يُمحِّص المسائل ويختبرها قبل الحكم فيها ، لينال رضا الله تعالى .

وبسبب هذا المسلك فقد جعل ابن حزم أوَّل أبواب كتابه في إثبات حجج العقول وبيان الحقيقة والغلط فيه . ومن حِدَّة ذكائه أنه ختم الباب الأخير في كتاب الإحكام بكيفية حدوث الخطأ في الاجتهاد تأسيساً لضرورة التعقُّل واثبات حجج العقول على مراد الله تعالى .
ومن خلال تجربتي بكتاب الإحكام فمن الأكمل أن يقرأ المطالع للعلم كتاب مراتب الإجماع وكتاب النُّبذ في الأصول لابن حزم ، ففي هذين الكتابين تلخيص وضبط لأهم ما سطَّره وفصَّله هو في كتاب الإحكام .

• أبواب الكِتاب :
بدأ رحمه الله تعالى بباب اثبات حُجج العقول ثم بباب ظهور اللغات ، ثم ببيان الألفاظ المعروفة عند أهل النظر، ثم بالمراد من الحظر والإباحة ، ثم بأصول أحكام الدِّيانة وأقسام المعارف ، ثم بمعنى البيان وحكم تأخيره وفي القول بموجب القرآن ، ثم بأخبار السُّنن ، ثم بالأوامر والنواهي الواردة في الوحيين ، ثم بالعام والخاص ، ثم الاستثناء ، ثم الكناية والضمير ، ثم الكناية بالإشارة ، ثم بالمجاز والتشبيه ، ثم أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم النسخ ، ثم المحكم والمتشابه ، ثم الإجماع ، ثم استصحاب الحال ، ثم بأحكام أقلِّ ما قيل ، ثم حكم الاختلاف ، ثم حكم الشذوذ ، ثم بيان خلاف الصحابة ، ثم الفرق بين القياس والدليل النظري ، ثم ضرورة لزوم الشريعة لكلِّ إنسان ، ثم صفة الفقيه والمفتي ، ثم بيان شرائع الأنبياء ، ثم ابطال الاستحسان ، والاستنباط والرأي ، وإبطال التقليد ، ثم حكم دليل الخطاب وصفته ، ثم إبطال القياس ، ثم إبطال العلل ، ثم الاجتهاد .

ويُستفاد من ترتيب الأبواب السابقة في الإحكام أن ابن حزم يريد تمرين الطالب على الترقِّي في تناول المسائل وهضمها شيئاً فشيئاً ، حتى يشتدَّ عُوده ويتمكَّن من الدخول في المناقشة والترجيح . فالترتيب السابق منطقي ، وقد تعمَّده ابن حزم ليكون تسلسلاً عِلمياً عملياً في الذِّهن وفي الواقع العملي .

• منهج ابن حزم في الإحكام :
ابن حزم رجل منهجي منطقي ، لا يُسطِّر جملة إلا بدليل نصي أو عقلي ، وله عناية بالبراهين العقلية تكاد تكون من أنفس ما كتبه أهل العلم .
وهو ينتصر للمذهب الظاهري بالاستدلال بلغة العرب التي هي لغة القرآن ، والمقصود بالظاهر عنده ظاهر اللفظ الذي لا يجوز تأويله إلا بحجة قوية . وهذه قاعدة مطِّردة عنده في جميع الأبواب والمسائل التي يناقشها ، لا تكاد تنخرم أو تختلف .

ودليله على وجوب الأخذ بالظاهر قول الله تعالى : ” خذوا ما آتيناكم بِقوة ” ( البقرة: 93) . وقد بنى على هذا القول وجوب العمرة كالحج ، لقوله تعالى : ” وأتمُّوا الحج والعمرةَ لله ” ( البقرة : 196) . ووجوب الزواج على القادر لحديث : “من استطاع منكم الباءة ، فليتزوَّج ” متفق عليه .
وقد حرَّم ذبيحة من ذكَّى بسكين مغصوبة ، لأن البطلان عنده أثر ونتيجة للفعل المنهي مطلقا .

ومن أدلة ابن حزم على صحة مذهبه الحديث المرفوع : “… لو قلتُ نعم لوجبت “( حديث الإخبار بفرض الحج ) متفق عليه .
ويلاحظ أن ابن حزم يبدأ الباب بقوله : قال أبو محمد ، ثم يشرع في عَرض المسألة ثم أدلتها من النقل والعقل وبعض أقوال السلف ، ثم يُفنِّد أدلة المخالف بالجدل الفقهي والإلزم المنطقي .

وكثيراً ما يُورد في صفحات كتابه : لا يحلُّ كذا ، لم يصح كذا ، برهان هذا هو . وكل ذلك بأسلوب الجزم والقسوة في كثير من الأحيان .
وابن حزم دائما يقرِّر حُرمة خرق الإجماع لأقوال الصحابة والتابعين ، وضرورة استعمال العقل في دائرة الشرع .
وأغلب الفروع الفقهية مُخرَّجة عنده على هذين الأصلين ولا يكاد يخرج عنهما . وهو في كثير ٍمن صفحات الكتاب يقرر حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : ” فإذا نهيتكم عن شي فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ” متفق عليه .
وابن حزمٍ يردُّ على قواعد العلماء التي تُستنبط بالاستقراء باستقراء مثله ، كردِّه على من قال إن مقتضى الأمر بعد الحظر الإباحة ، أن الإباحة في الآيات التي يستدلون بها ليست من مقتضى صيغة الأمر ، إنما المقصود بها الإباحة والجواز بدليل أن قول الله تعالى : ” وإذا حَللتم فاصطادوا ” ( المائدة : 2) أن الاصطياد غير واجبٍ لحديث أنه صلى الله عليه وسلم حلَّ من عمرته ومن حجِّه ، ولم يصطد .
وابن حزم يعتني بمعاني الحروف كثيراً ، وقد وظَّف الترجيح فيها في مسائل كثيرة مثل مسألة الواجب المخيَّر ، فقد غلَّط من يقول إن الواجبات كلها فرض عند الأمر بها عند التخيير ، فقال إن ذلك غلط لأن ( أو ) لا توجب تساوي ما عطف بها واجتماعه ، إنما يوجب ذلك الواو والفاء وثُم .

ويلاحظ أن ابن حزم إذا كان في المسألة خِلافٌ لفظي أو معنوي يميل بقوة إلى ترجيح مذهبه لإعتزازه به ، ولا يتوسط في ذلك ، وهذا مشاهد في كثير من المسائل ومقرر في كتابه الإحكام ، ومثاله مسألة واجب التخيير ومسألة وجوب الوضوء عند معاودة الجماع ، وغيرهما من المسائل كمسألة دخول النساء في خطاب الذُّكور .

في مسألة تفريق الحنفية بين الفاسد والباطل ردَّ ابن حزم عليهم بما معناه أن الله تعالى لا يحبُّ العمل الفاسد ولا يُصلحه ، فكيف نقول بمشروعيته مع أن الله تعالى أخبر أنه لا يصلح العمل الفاسد ولا يحبه .

وابن حزم رحمه الله تعالى يرفض الاحتجاج بمفهوم الموافقة لأنه عنده جزء من القياس ، والصحيح أنه ليس من القياس لأن دلالته لفظية ، ومما يُضعِّف قول ابن حزم هنا أن دلالة الموافقة قال بها داود الظاهري (ت: 270هـ) رحمه الله تعالى شيخ ابن حزم ، وقد نَقل هذا القول ابو إسحاق الشيرازي (ت: 476هـ) رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة ، فاحفظ هذه الفائدة فإنها مهمة جداً .

وابن حزم في كتاب الإحكام وغيره يرفض مفهوم المخالفة وهو عنده ليس بحجةٍ في استنباط الإحكام الشرعية . وقد استدل على إبطال مفهوم المخالفة بقول الله تعالى : “المُلكُ يومئذ ٍلله ” ( الحج : 56) . حيث قال : ” أترون قوله تعالى مانعاً من أن يكون الملك في غير يومئذٍ لله ” ( الإحكام 2/ 358) .

وابن حزم يُقسِّم الكلام إلى ثلاثة أقسام : خصوص يراد به الخصوص ، وعموم يراد به العموم ، وعموم فيه استثناء .
وابن حزم دقيق في استخراج الحجة من النصوص ، من ذلك أنه استدل على طهارة فم الكلب بقول الله تعالى : ” وما عَلَّمتم من الجوارح مُكلِّبين ” ( المائدة :4 ) بينما قال بعض الأئمة بنجاسته لأدلةٍ أخرى من السنة النبوية .

وابن حزم مُعظِّم للرواية النبوية حتى لو كان راويها مخالفاً لروايته لأمرٍ خارج ، فقد قال : ” ولا يحلُّ لأحدٍ ترك كلامه عليه السلام لفتيا جاءت عن صاحبٍ فمن دونه ، مخالفة لما صح عنه صلى الله عليه وسلم ” ( الإحكام 1/ 154).
وابن حزم يستطرد في الاحتجاج على صحة ما يعتقده ، وهو صاحب نَفس طويل في الجدل وإيراد البراهين . والدليل على ذلك أنه سطَّر نحواً من عشرين صفحة في إبطال الاستدلال بعمل أهل المدينة ! .

وابن حزم رحمه الله تعالى يعتني بالأثر الفقهي للمسائل الفقهية ، وهي كثيرة منثورة في كتاب الإحكام ، منها مسألة حكم الترتيب في الوضوء ، فقد قال بوجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء تفريعا ًمن مسألة التأسِّي ببعض أفعاله صلى الله عليه وسلم ، سواءٌ ظَهر في المسألة أمر القُربة لنا أم لم يظهر .وهو بهذا يوافق قول الإمامين الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى.

والمرسل عند ابن حزم غير مقبول ولا تقوم به حجةٌ مطلقاً ، سواء قال التابعي : حدثنا الثقة أو لم يقل . ( الإحكام 1/ 107) .
ومسألة الإجماع عند ابن حزم رحمه الله تعالى فيها اضطراب شديد ، فيبدو أنه مُتردِّد في ميزان الإجماع الذي يجب التحاكم إليه . فمرة يحدُّه بنصوص الوحيين ، ومرة يحدُّه بأقوال الصحابة وعلماء الإسلام ، ومرة يحدُّ الإجماع بمسائل الإعتقاد فقط . انظر : ( الإحكام 1/ 537 – وما بعدها ) .
وابن حزم توسع في مفهوم الاستصحاب المعروف عند الأصوليين ، لأنه ضيَّق مصادر التشريع عنده ، واعتمد على الظاهر دون النظر إلى فحوى الخطاب .

وهو أيضاً ينُكر القياس في الدِّين جملة في كثير من صفحات الكتاب سواء بالتصريح أو التلميح . فمن ذلك قوله : ” لا يجوز البتة أن يتعبَّدنا الله بالقياس ، لأن وعد الله تعالى حق لا يخلف البتة ، وقوله الحق ” .( الإحكام 8/523) .
وابن حزم يُفرِّق بين العلة والسبب في المعنى ، وهو تأصيل منه لموقفه من انكار القياس ، وقد استطرد في ذلك في مواضع كثيرة من كتابه.

واستدل بقول الله تعالى : ” فلا تضربوا لله الأمثال ” ( النحل : 74) على إبطال القياس وتحريمه في استطراد عجيب غريب سامحه الله ورحمه .( الإحكام 8/ 506- وما بعدها ) .
وقد ردَّ ابن حزم أيضاً قاعدة القول بالذرائع مستدلاً بقول الله تعالى : ” وقد فصَّل لكم ما حرَّم عليكم ” ( الأنعام : 119) ، وزعم أن القول بالذرائع فيه اتهام للخلق بما لم تقم عليه دلالة ! . ( الإحكام 2/ 188) .

• أهم تجاربي في دراسة الكتاب وفهمه :
إضافة لما تقدَّم من فوائد متفرقة عن الكتاب فمما جرَّبته وانتفعتُ به وظهر لي أثره وثمرته ، أن تلخيص فصول كل باب في دفتر خاص أو ملف مستقل ، له أهمية كبيرة في ضبط المسائل وإحكام المفاهيم . فالقراءة الحاصرة فقط لا تُسمن ولا تغُني من جوع ، ومما يُضاف أيضاً :

أ‌- الكتاب موسوعة حديثية ، فقد ضمَّ مئات الآحاديث صحيحها وحسنها ، وهو فرصة للوقوف على الكنوز النبوية الواردة فيه ووجوه الاختلاف بين الروايات ، وهذه الجزئية لم أر من نبَّه عليها رغم أهميتها . ويمكن الإفادة منها سواء بحفظ الأحاديث أو بدراستها دراسة حديثية مقارنة .

ب‌- في الكتاب اختيارات كثيرة لابن حزم رحمه الله تعالى ، فيمكن تتبُّعها وجمعها في ملف واحد ، ومعرفة معالم ابن حزم في اختياراته وترجيحاته . وهذه الاختيارات ليست في فروع الشريعة ، بل حتى في اللغة والمنطق والتأريخ والحياة عموما ً.

ج-في كثير من صفحات الكتاب وقفات قيِّمة لتدبر كلام الله تعالى من خلال تفسير الآيات القرآنية ، أو من خلال نقد مَن فسرها بخلاف ما يعتقده ابن حزم ، ففي حصرها وتدبرها خير عظيم لا ينكره من سمت همته إلى الخير .

د- في كتاب الإحكام أسلوب تربوي لكيفية النقد وتقوية الملكة الفقهية والأصولية ، وذلك من خلال المناقشة والإلزام لحجة الخصم ، فيجب الإعتناء بهذا المسلك عناية فائقة لأهمِّيته لطالب الفقه وأصوله ، فلو أُقيمت ندوات ومحاضرات في هذا الجانب لكانت مَعلما مهما يشحذ الهمة نحو التربية العلمية ويُوسِّع المدارك في العلوم .

هـ- في الكتاب آثار ومرويات للسلف تبلغ المئات ، فلو رُتِّبت واستنبط منها الفوائد الفقهية والحديثية ، لكانت رافداً للمتفقِّه وباباً مهما ًلمعرفة أحكام المسائل.

و- يوجد في الكتاب موسوعة فقهية مقارنة ، عرض فيها ابن حزم آراء الفقهاء والمجتهدين من الأئمة والمحقِّقين مما وقف عليه في مصنفات الفقه في عهده ، أو ما نقله عن المصِّنفات الفقهية الموثوقة ، فلو تتبعها الباحث وقيِّدها في كراسة لكانت رافدا رئيساً لاستنباط الأحكام الفقهية والإجتهادية .
ز-من خلال جردي للكتاب لاحظتُ كثرة عزو ابن حزم للمصادر الفقهية والحديثية ، فيمكن من خلال ذلك معرفة موارد ابن حزم وطريقته في الجمع والحُكم على المسائل من خلال مجالات المصنفات التي أفاد منها ، ومنهجه في ذلك تقسيماً وتبويباً .

ح- ساق ابن حزم في كتابه الإحكام بعض القصص والمناظرات ، كقصته مع من ناظره من فقهاء عصره في مسألة دية الأصابع ، فيمكن الإفادة من تلك القصص والحوادث بتحليل ما جاء فيها من معاني وشواهد والحكم عليها بما تقتضيه المسائل .

ط- أُرشِّح لمن أراد فهم كتاب الإحكام أن يقرأ النُّبذ في أصول الفقه فهو مختصرمهم للإحكام ، ثم مُقدِّمة الإحكام ثم يطالع مطالعة سريعة في أجزاء الكتاب الثمانية ، ثم يضع جدولاً مرتباً مُبوَّباً لجرد الكتاب وتأمله خلال ثلاثة أشهر ، ولا بد من استعمال القلم الرصاص والرسوم البيانية لكسر الملل والسأم الذي ينتجان من طول الكتاب .

ي- لغة الكتاب سهلة وفيها مَسحة أدبية أحياناً ، وفي بعض أجزاء الكتاب يوجد استطرادات وتكرار لكلام المؤلف مما تقدَّم من مسائل .

ك- في الكتاب نُكت وفوائد علمية ينثرها ابن حزم بين ثنايا كلامه ، وهي كثيرة ومبثوثة في أوَّل الكتاب ووسطه وآخره .

من ذلك ما روي عن مكحول (ت: 112هـ)رحمه الله تعالى أنه كان إذا سُئل لا يجيب حتى يقول : ” لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ” . وفي آخر فصل سؤال الرواة عن أقوال العلماء لطائفُ من ذلك .

ل – النقد الحديثي عند ابن حزم مهم وفيه فوائد وعليه ملاحظات ، ويمكن إيجازه في الآتي :

أن ابنَ حزمٍ لا يجمعُ بين النُّصوص عند الترجيج – وهذا في غالب الأحوال – بل يتعسَّفُ للبحث عن معنىً يُوافق أُصول الظاهرية ، وهو مُتأوِّلٌ في ذلك. انظر : ( الإحكام : جميع فصول الكتاب تقريباً ).
وفي إنكاره للقياس قال في الرسالة التي كتبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إلى أبي موسى الاشعريِّ رضي الله عنه : ” رواها رجلان متروكان “( الإحكام 2/ 343) .

وسببُ ذلك عنده ، أن الرِّجال على درجتين فحسب ، إما على الثقةٍ وإما على الضعفٍ . وحديثُ الثِّقة عنده في غاية الصِّحَّة وحديثُ الضَّعيف عنده في غاية السُّقوط ، وكان من مآلات هذا المنهج هو أنَّ الرَّاوي الثِّقة لا يُخطئُ أبدًا ، كما أنَّ الراوي الضَّعيف لا يَحفظُ أبدًا.
وكان من لوازمه : تركُ النَّظر في دقائق العِللِ والتَّرجيح بينَ روايات الحفَّاظ والثِّقات .
وبناءاً على ما تقدَّم فإنه لا وجود للحَديث الشَّاذِّ عند ابن حزم أو المُعلِّ وَفق جادَّة المحدِّثين .
وقد أسَّس أن دعوى الخطأ في خبر الثِّقة لا يجوز إلاَّ بإحدى ثلاث قواعد :

1-إعتراف الراوي بخطئه .
2- شهادةُ عدلٍ على أنَّه سمع الخَبر مع روايه ، فوهم فيه فلان .
3 -أن تُوجب المشاهدة بأنَّه أخطأ .
قال ابن حزم: ” ولكنَّا لا نلتفتُ إلى دعوى الخَطأ في رواية الثِّقة إلاَّ ببيان لا يُشكُّ فيه” ( انظر لتأكيد ما سبق : المُحَّلى : 3/242) .
ومن إختياراته وتقعيداته : أنه ترك الاعتبار بالحَديث الضعيفٍ مطلقاً ، حتى ولو كان مُختلفاً فيه ، حيث أن ابنَ حزم يعتَبر حديث الضَعيف لا يُقبل حديثه أبدًا ، فيكون باطلاً غير صحيحٍ ، ولا يرتقي إلى الحسن إبدًا ولو جاء من ألف طريق ، ولا يُقيمُ وزنًا لمُتابعٍ ولا شاهدٍ ، حتى إنَّ بعض الأحاديث التي ضعَّفها أُصولها في الصَّحيحين وغيرهما ، فهو بمنهجه هذا لم يقبل كثيرًا من الأحاديث الَّتي هي مِن هذه الصفة .
فخلاصةُ منهج ابن حزم في الرَّاوي الضعيف عنده : هو تركُ حديثه مطلقاً وعدمُ الاعتدادِ به ، ولو كانَ ضعفُه يسيراً من جهة حفظِه ، وأنَّه لا وجودَ للمتابعات والشَّواهد عنده التي تبيِّن أنَّ هذَا الحديثَ له أصلٌ معين .

وخُلاصةُ منهجه في التَّدليس وزيادة الثِّقة : أنها مبنيةٌ على قاعدته ” أنَّ الراويِّ الثِّقة لا يُخطئ أبدًا ، وأنَّ الضَّعيف متروكٌ حديثه مطلقًا ، فهو عنده تدليسُ الثِّقة وتدليس الضَّعيف ، فتدليس الثِّقة عندَه مقبولٌ ولو عنعن ولم يصرِّح بالسَّماع ، جَرياً على أن خَبر الثِّقة مقبولٌ مطلقًا ولو خالفَ أو دلَّس .
وتدليس الرُّواة الضُّعفاء مردودٌ عنده مطلقًا ، بل ذلك جرحٌ فيهم ، وعليه تُردُّ جميعُ رواياتِهم ولا يقبَلُهم صرَّحوا بالسَّماع أو لم يُصرِّحوا ، فما دام أنَّهم ضعفاء فهُم في حيِّز المردودين ، ولم يَسِر على سَنن المُحدِّثين في هذه المسألة إلاَّ مع راوٍ واحدٍ ، وهو أبو الزُّبير المكِّي ، لأنَّه صرَّح هو بذلك ، بل ولاضطرابه في هذه المسألة نُسبَ إلى التَّناقض.

م – الدِّراسة الجماعية لكتاب الإحكام مفيدة جداً ، وهي تُعينُ على كسر الملل وتخفيف ثِقل صفحات الكتاب . فيجتمع ثلاثة مثلاً ، يتناوبون القراءة وتأمل المعاني والأحكام مع بعض التعليق على ما يلزم . هذه الطريقة مجربة ونافعة جدا ً. وأنصح بها لكل من يكسل عند جَرد الكتاب إذا كان مُنفرداً .

ن- طبعات الكتاب كثيرة ، وأفضلها طبعة دار الحديث ودار الجيل ، وطبعة دار الآفاق الجديدة ، بتحقيق المحدِّث أحمد شاكر (ت: 1377هـ )رحمه الله تعالى، وطبعة ابن حزم الأخيرة التي حقَّقها فواز زمرلي وفقه الله تعالى جيدة جداً ، وهذه الأخيرة عليها ملاحظات يسيرة أرسلتُها للمحقِّق ووعدني بالاعتِناء بها جزاه الله خيرًا .

وكلمة أخيرة في آخر هذه التجربة المتواضعة أن ندعو لابن حزم بالرحمة والمغفرة ، فقد كان معُظِّما لنصوص الوحييِّن ، وعلمه وعقله كانا على نورهما وهديهما ، وهو رجل كسائر الرجال ليس بمعصوم في سائر الأحوال .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

د/ أحمد بن مسفر العتيبي
http://ahmad-mosfer.com/1955