بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أقول وبالله التوفيق
بأن الاسلام ما حرم شيء الا وفيه منفعة للبشرية قال تعالى في عقوبة الزناة { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (سورة النور 2) ، مع المبالغة في التنكيل بهم { وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ } (سورة النور 2) والتشهير بهم { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (سورة النور 2) ومنعهم من زواج أهل العفة { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (سورة النور 3) وقال تعالى في عقوبة خوض اللسان في الفواحش وقذف المحصنات { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (سورة النور 4) وقال الله في عقوبة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (سورة النور
وقال تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [29 – 31 المعارج]
وفي تحريم الزنا أشد المنفعة للبشرية بل في تحريم النظر للمرأة الاجنبية قمة المنفعة
يقول الدكتور محمود نجاأستاذ في كلية طب المنصورة

إن التحرشات الجنسية في بلاد الغرب بدأت تخرج عن السيطرة بما يهدد أمن هذه المجتمعات بدرجة كبيرة ويكلفها الأموال الطائلة في سبيل محاربة هذه الظاهرة، وعلاج تداعياتها، فقد بدأ البعض في الغرب إلى العودة إلى العلاج الأمثل وهو الفصل بين الجنسين وخصوصا في مراحل التعليم المختلفة.

في مقال نشرته النيويورك تايمز بعنوان فصل البنين عن البنات في التدريس (Teaching Boys and Girls Separately) للكاتبة إليزابيث ويل، ناقشت فكرة الفصل بين الجنسين في التعليم لوجود فروق بيولوجية بين الجنسين، وكيف أدى هذا الفصل إلي تحسن أداء الجنسين، وبالرغم من أن هذه الفكرة مازالت تلقي معارضة شديدة إلا أن الواقع يثبت أنها سوف تتغلب وتنجح برغم المعارضة، فقد أصدرت شعبة التعليم الاتحادية في أمريكا نُظماَ سهلت للولايات والمناطق فتح مدارسها وفصولها الغير مختلطة الخاصة، وبعد أن كان عدد المدارس أحادية الجنس اثنتان فقط في كل الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1995، فقد قفز العدد إلى أكثر من ثلاثمائة وستين مدرسة منتشرة في طول البلاد وعرضها، ويتوقع الخبراء أن يزيد هذا العدد خلال العام 2008 - 2009 .

ويبدوأن هذا التوقع كان سليما بنسبة 100 %، ففي مقال بعنوان الفصل الفعال بين الجنسين (Gender Segregation: Separate But Effective)، تم نشره في عام 2010، يقول بأن عدد المدارس التي تفصل بين الجنسين في الولايات المتحدة الأمريكية قد وصل إلي 550 مدرسة، وليس هذا فقط بل وأشار إلى أن هذا الفصل بين الجنسين في التعليم قد انتشر أيضا في الأرجنتين وكندا وغيرها الكثير، وإن كان هذا الانتشار مازال مصحوبا بالجدل حول أهميته وفاعليته، بين مؤيد ومعارض. وجاءت نتائج اجتماع المنظمة الدولية للتعليم العام الغير مختلط (NASSPE) في المؤتمر الدولي السابع بولاية فلوريدا في عام 2011، ليؤكد على أن هذا الفصل بين الجنسين في العملية التعليمية يؤدي إلى تحسن ملموس في أداء كلا الجنسين بشرط تحسن أداء المعلم وقدرته على التعامل مع هذا الفصل بطريقة جيدة.

ومع أن التقارير السابقة لا تريد أن تعترف بأن السبب الرئيسي في فشل التعليم المختلط هو انشغال أحد الجنسين بالآخر ومحاولة الإيقاع به إما بالرضا (الزنا) أوالغصب (التحرشات الجنسية)، إلا أن تقرير المؤسسة التعليمية في أمريكا للعام 2011 عن التحرشات الجنسية في المدارس (sexual violence in schools is a civil rights violation) يعترف بزيادة الاعتداءات الجنسية في المدارس لدرجة خطيرة تصل إلى واحد لكل عشرة أفراد، وما خفي كان أعظم لأن أغلب التحرشات الجنسية لا يتم الإبلاغ عنها، وأضف إلى ذلك حالات الزنا التي تتم بكثرة بين طلاب المدارس.

ونأتي إلي قاصمة ظهر المجتمع الغربي الذي يدعو إلى التحرر من قيود الأخلاق، ففي تقرير بعنوان (Teen Pregnancy Statistics) عن نسب الحمل في سن ما دون العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، يقول التقرير أن حوالي 34 % من البنات يحدث لهن الحمل على الأقل مرة واحدة دون سن العشرين، وأن حوالي 79 % منهن غير متزوجات، أي أن حملهن جاء من سفاح، إما بالزنا أونتيجة للتحرشات الجنسية المنتشرة في المدارس والجامعات. وفي تقرير آخر أحدث من السابق في عام 2010 بعنوان (Facts on American Teens’ Sources of Information About Sex)، يقول بأن نسب الحمل قبل سن العشرين بدأت تزداد بقوة من بعد العام 2009، وأن حوالي 7 من كل 10 من كلا الجنسين يمارسون الجنس قبل سن 19 سنة (وتزداد النسب في المدارس العليا عن المدارس المتوسطة) .

وعليه فالذين يطالبون بالفصل بين الجنسين في التعليم في الدول الغربية ليس فقط من أجل تحسين أداء الطلاب لاختلافاتهم البيولوجية ولكن أيضا لحماية أبنائهم من طلاب المدارس والجامعات من الاعتداءات الجنسية التي حتما ستقع بسب الاختلافات البيولوجية التي تقضي بميل أحد الجنسين إلى الآخر، ولحماية البنات من الحمل المبكر خارج إطار الزوجية وما يتبعه من أعباء جسدية ونفسية ومالية.

وعندما أقول بأن الاعتداءات الجنسية حتما ستقع بين الجنسين بسب الاختلافات البيولوجية التي تقضي بميل أحد الجنسين إلى الآخر، فهذا ليس لكوني أنقل ما يقول الإسلام وفقط (وإن كان يكفينا)، بل إن الغرب نفسه بدأ يناقش هذه المسالة بطريقة علمية، ففي مقال بعنوان هل يفكر الرجال في الجنس طوال الوقت (Do Men Think About Sex All the Time)، يقول بأن أغلب الرجال بطبيعتهم الوراثية لا يستطيعون الكف عن التفكير في الجنس، وتخبرنا صحيفة التيليجراف أن الرجال يفقدوا عقولهم في وجود نساء جميلات (Men lose their minds speaking to pretty women)، وذلك نقلا عن دراسة علمية منشورة في دورية علمية تسمي (Journal of Experimental and Social Psychology)، وخلصت هذه الدراسة إلى أن الرجال ينشغلون بالتفكير في تلك المرأة الجميلة مما يؤثر بالسلب على أعمالهم، وبالرجوع لهذه الدورية العلمية وجدت هذه الدراسة منشورة تحت عنوان (Interacting with women can impair men’s cognitive functioning)، لمن أراد الرجوع إليها (إنظر المراجع).

وفي دراسة علمية أجراها جيمس روني من جامعة شيكاجو بعنوان تأثير النظر الي الجنس الآخر (Effects of Visual Exposure to the Opposite Sex)، أظهرت هذه الدراسة أن نظر الرجل إلي المرأة يؤدي إلي تغيرات كبيرة في التصرف والمزاج والشخصية مما يدفع بالرجل إلي مزيد من الاقتراب من المرأة لإقامة علاقة، وأوضحت الدراسة أن هذا التصرف ربما تم دون وعي من صاحبه.

وعليه فهذه الأبحاث تكشف صدق ديننا الداعي إلى غض البصر والبعد عن الاختلاط، كما تكشف كذب وافتراء من يدعون إلى الاختلاط الجنسي بدعوى التحرر والصداقة، والقدرة على التحكم في شهواتهم، حيث أن ميل أحد الجنسين إلى الآخر هو من الأمور الجبلية التي زرعها الله في الإنسان للحفاظ على الجنس الإنساني من خلال التكاثر. كما أن هذه الأبحاث تبين لنا أن القانون الوضعي قد أخطأ في تعامله مع قضية الزنا والتحرشات الجنسية، لأنه شدد في عقوبة المتحرش جنسيا، وأباح السفور والزنا والفواحش طالما أنها بالتراضي بين الطرفين، وبدلا من أن يضع حدود فاصلة في التعامل بين الرجل والمرأة، أطلق العنان في اختلاط الرجل بالمرأة بدعوى أنه لا توجد فروق بيولوجية بين الرجل والمرأة، وأن كلا الطرفين لا ينبغي أن ينظر إلى الآخر على أنه مختلف عنه، وبذلك سهل الطريق للزنا وشجع على التحرشات الجنسية لأنه وضع البنزين بجوار النار.

فمن السهل أن تفرض القانون ولكن الصعب أن تقود النفوس للانصياع للقانون، فالنفس لها حدود للكبح إذا تجاوزتها صارت كالأسد الجائع الذي لا يمكن كبح جماحه، فالغضب مثلا لو لم نحسن معالجته فانه يدفع صاحبه لا محالة إلى القتل، وكذا الشهوة الجنسية إذا لم نحسن التعامل معها، فهي إما تصل بصاحبها إلى الزنا أو إلى التحرش الجنسي الذي يعتبر من وجهة نظر الإسلام إمتداد طبيعي لتحرك غير طبيعي في شهوات النفس، فالطبيعي هوما يحدث بين الرجل وامرأته في الحلال، قال تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [29 – 31 المعارج] وغير الطبيعي هو ما كان وراء ذلك، فالرجل والمرأة على السواء إن تحركت الشهوة فيهما يطلب أحدهما الآخر إما بالحلال أو بالحرام، والحرام قد يكون بالتراضي فيسمي زنا، وقد يرفض أحد الطرفين أن يزني مع الآخر، فيسعى الطرف المرفوض في تحقيق غايته بشتى الوسائل التي تعرف باسم التحرشات الجنسية، ولما كان الرجل أقوى من المرأة فقد اشتهر أن التحرشات الجنسية تقع فقط من الرجل تجاه المرأة، ولكن الإسلام يفضح النفوس الخبيثة ويبين أن المرأة أيضا قد تمارس التحرش الجنسي إذا امتلكت المنصب والجمال، فبحكم جمالها ومن خلال منصبها تدعوه إلى الزنا، فإن أبى تسلطت عليه بمنصبها، ويذكر لنا القرآن الكريم أشهر قصة تحرش جنسي في التاريخ تمارسها امرأة على رجل وهي قصة امرأة العزيز مع نبي الله يوسف عليه السلام التي راودته عن نفسها بجمالها {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُون} [يوسف 23]، فلما رفض أن يطاوعها في شهوتها ويزني بها، مارست سلطتها عليه متحرشة به بقوة السلطة {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف 32].

ومع كل هذه الحقائق البينات نجد أن هناك أُناسا من بيننا يطالبون بتحرر المرأة ومساواتها بالرجل مع عدم الفصل بين الجنسين في كافة مناحي الحياة من تعليم وعمل ومواصلات وأفراح ومآتم وغيرها، وذلك بدعوى أن هذا الاختلاط لا يؤدي إلى الإثارة الجنسية فكلاهما قادر على التعامل مع الآخر كصديق، وهم بذلك يزعمون أن ما جاء به الإسلام غير صحيح وأنه لا يفهم مكنون النفس البشرية، ولو قلت لبعضهم إن وضع إناء البنزين بقرب النار ليس سبباً طبيعياً للاشتعال، لاتهمك في عقلك أو رماك بالجهل الفاضح والمكابرة والإنكار لبعض مقتضيات الطبيعة، ومع ذلك يصر على أن خلط النساء بالرجال لا يقتضي إشاعة الفاحشة ولا استعار الشهوات! مع أن الميل بين الجنسين طبيعة أودعها الله سائر الثقلين وأنواع الحيوانات، وجعلها من القوة بمكان يناط به بقاء الأجناس الحيوانية والبشرية على ظهر البسيطة.

* إعجاز التشريع الإسلامي في محاربة الزنا والتحرش الجنسي:

الإسلام دين كل زمان ومكان لأنه من الله العليم الخبير الذي يعرف النفس البشرية حق المعرفة لأنه خالقها وبالتالي يعرف ما يصلحها {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الملك 14]، فالقانون الرباني ينظر للمشكلة بنظرة شاملة، فكان له مع حماية الأعراض شأن آخر يقوم على فهم طبيعة واحتياجات النفس البشرية، قال تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران14]، والشهوة في ذاتها ليست خطأ بل هي جبلة في الإنسان، ولكن حب الشهوة وتزيينها للعقل هو الخطأ، وليس أعظم في تزيينها وتأجيجها في النفوس من الاختلاط الذي يحرك الشهوات الكامنة. نجد أن الإسلام تعامل مع هذه المشكلة بالترهيب من العقوبة المشددة، وبالوقاية من خلال التربية الإسلامية الصحيحة التي تقنن الشهوة ولا تكبتها، فتشجع على الزواج وتمنع العلاقات الجنسية غير المشروعة وما يؤدي إليها .

أولاً: العقوبات الرادعة:

بدأ الإسلام بفرض العقوبات المشددة لمنع الزنا والتحرشات الجنسية، فمن اللافت للنظر أن سورة النور في حربها على الفاحشة لم تبدأ ببيان فضل العفاف وذكر محاسنه والتنفير من ضده، بل ولم تخوف الزاني بعقاب الآخرة، ولكن بدأت ببيان عقوبات الزناة وخوض الألسنة في أعراض المحصنات والذين يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فقال تعالى في عقوبة الزناة { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (سورة النور 2) ، مع المبالغة في التنكيل بهم { وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ } (سورة النور 2) والتشهير بهم { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (سورة النور 2) ومنعهم من زواج أهل العفة { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (سورة النور 3) وقال تعالى في عقوبة خوض اللسان في الفواحش وقذف المحصنات { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (سورة النور 4) وقال الله في عقوبة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (سورة النور 19)

فإن قيل فأين التخويف بعذاب الآخرة بدلا من شدة العقوبة في الدنيا ؟ فالجواب أنه قد جاء كثيرا في ثنايا السورة وفي غيرها، ولكن الفاحشة إذا فارت في القلب طغت على نور العقل، فقلما يردعها تذكر الآخرة إلا عند عباد الله المخلصين ، بينما الخوف من الجلد والفضيحة والخوف من نبذ المجتمع ينزع الله به مالا ينزع بالقرآن.

ثم جعل الله حد الحرابة لمعاقبة كل من سولت له نفسه سفك الدماء وسلب الأموال وهتك الأعراض وإهلاك الحرث والنسل، والتحرش بالنساء يتضمّن إفسادًا في الأرض، بحسبانه متضمنًا قطع الطريق على المتحرَّش بها، أو إلجائها إلى الطريق الضيقة بغية النيل منها أو إسماعها ما تكره ، أو إجبارها على الرضوخ له بطريقة أو أخرى ، وقد يتضمن إخافتها أو إرعابها لتحقيق مقصوده، وذلك يكوِّن جريمة حرابة متكاملة الأركان، ولذا فإنه يرد في حق المتحرشين بالنساء العقوبتان الدنيوية والأخروية الواردتان في قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [33 المائدة]، وذلك لقطع دابر هذه الجريمة من المجتمع.

ثانياً: الوقاية من خلال تربية النفوس على العفة:

بعد أن بين الله كيف نطهر المجتمع من الفواحش بتطبيق العقوبات المشددة، انتقلت الشريعة الإسلامية إلى المرحلة التالية من إشاعة نور العفة بين الناس لكي تحول بينهم وبين الوقوع في الشهوات والعقوبات، فدعت إلى تخفيف نار الشهوة في النفوس بنهيها عن إتباع خطوات الشيطان التي تأمر بالفاحشة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [21 النور]، ثم بين الله أهمية غض البصر وأهميته في كبح جماح الشهوة وحفظ الفروج للرجال والنساء {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }[النور30]، {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور31]، وحث على ستر المرأة لزينتها حتى لا يفتن بها الرجال {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور31]، وفي مقابل كف النفس عن إشباع الغريزة الجنسية بالحرام، شجع المولى تبارك وتعالى على تيسير الزواج الحلال حتى لا يحدث كبت نفسي قد يؤدي إلي انفجار غير محسوب فقال تعالي {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [النور32]، وأمر بالعفاف في غير وجود الزواج {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور33]، وجاء الحبيب صلى الله عليه وسلم بالدواء المعين على الاستعفاف فقال صلى الله عليه وسلم عن علاج الشهوة بالصوم (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) رواه البخاري ومسلم.

ولأن الاختلاط بين الرجال والنساء يؤجج نار الشهوة ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، فقد حرص شرعنا الحنيف على منع الاختلاط بين الجنسين، قال تعالى {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [53 الأحزاب]، فقد دلت هذه الآية على أن الأصل احتجاب النساء عن الرجال، وعدم الاختلاط لاسيما في دور العلم، حرصا على طهارة قلوب الرجال والنساء، وقال تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [33 الأحزاب] ، فأمرهن بالقرار، ثم منعهن من الخروج غير متحجبات، ومع قرارهن في البيوت منع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال الأجانب من الدخول عليهن فقال (إياكم والدخول على النساء، فلما قيل له: الحمو؟ قال: الحمو الموت) متفق عليه، وهذا يدل على أن الأمر بالقرار ليس خاصاً بنساء النبي الله صلى الله عليه وسلم. بل ونهي الشرع عن خلو الرجل بالمرأة، فقال صلى الله عليه وسلم (لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم) رواه البخاري ومسلم.

ولعل البعض يتهم الإسلام بأنه يحمل المرأة أكثر من الرجل في قضايا الزنا والتحرش الجنسي بحجة أن المرأة هي التي دفعته بزينتها وتبرجها إلى فعل التحرش، فأقول كلا وألف كلا، لأن المرأة إن خالفت ربها بإظهار زينتها وتبرجها، فلا ينبغي أبدا للرجل أن يطلق بصره فيصيب من هذه وتلك حتى تتمكن الشهوة من قلبه فتدفعه إما إلى الزنا أو إلى التحرش الجنسي، ومعلوم من القرآن أن الله عاقب الزانية والزاني بنفس العقاب بالرغم من أن الله قدم الزانية علي الزاني {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}[النور2]، فجعل الله عقوبة الاثنين واحدة، وقدم ذكر الزانية ليلفت الانتباه إلى أن المرأة بزينتها وتبرجها وجمالها الذي جبلت عليه أكثر إثارة ولفتا لانتباه الرجل، أكثر من تأثر المرأة بالرجل. وساوى الله عقوبة الزاني بالزانية لأنه خالف أمر الله له بغض البصر، حيث قدم الله الأمر بغض البصر للرجال على النساء لكون الرجل يفتن بالمرأة أكثر ما تفتن النساء بالرجال، فحمى الله النساء من الرجال بغض البصر {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور30]، وحمى الله الرجال من النساء بغض البصر وإخفاء الزينة {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور31] ، فسبحان الله العليم بأحوال النفوس وبما يصلحها {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر14].

فلو كان الإغراء هو أساس وقوع الزنا فقط لخفف الله العقوبة على الزاني ولشدد العقوبة على الزانية، ولكن لأن الإسلام تعامل مع هذه الحالات قبل ارتكاب الجريمة من خلال تهذيب النفس لمقاومة الإغراء مهما كان حجمه، فإذا كانت النفس قد استجابت للتهذيب الديني، فليس هناك إغراء يؤثر فيها. فالنفس قد تغري الفرد بالنظر إلى الكاسيات العاريات إلا أن قوة الإرادة التي ربّتها الشريعة الإسلامية في نفس المؤمن تدفعه إلي غض البصر، فإذا خالف ونظر كان مخالفا للشريعة قبل أن يؤثر فيه الإغراء، ولذا يتساوى مع الزانية في العقوبة على الرغم من تقديم الزانية على الزاني في الترتيب اللفظي، الذي ربما أراد منه القرآن حث المجتمع على ملاحظة دور الإغراء في ارتكاب مثل تلك المخالفات الشرعية .

منقول من موقع موسوعة الاعجاز العلمى في القرآن والسنة