{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تعلمُونَ}

وَقَوله عزّ وجلّ وَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كثيرا فالآية الأولى فِي الْجِهَاد الَّذِي هُوَ كَمَال الْقُوَّة الغضبية وَالثَّانيَِة فِي النِّكَاح الَّذِي هُوَ كَمَال الْقُوَّة الشهوانية فَالْعَبْد يكره مُوَاجهَة عدوه بقوته الغضبية خشيَة على نَفسه مِنْهُ وَهَذَا الْمَكْرُوه خير لَهُ فِي معاشه ومعاده وَيُحب الْمُوَادَعَة والمتاركة وَهَذَا المحبوب شَرّ لَهُ فِي معاشه ومعاده وَكَذَلِكَ يكره الْمَرْأَة لوصف من أوصافها وَله فِي إِِمْسَاكهَا خير كثير لَا يعرفهُ وَيُحب الْمَرْأَة لوصف من أصافها وَله فِي إِِمْسَاكهَا شَرّ كثير لَا يعرفهُ لانسان كَمَا وَصفه وَصفه بِهِ خالقه ظلوم جهول فَلَا يَنْبَغِي أَن يَجْعَل المعيار على مَا يصره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه بل المعيار على ذَلِك مَا اخْتَارَهُ الله لَهُ بأَمْره وَنَهْيه فأنفع الْأَشْيَاء لَهُ على الْإِطْلَاق طَاعَة ربه بِظَاهِرِهِ وباطنه وأضر الْأَشْيَاء عَلَيْهِ على الْإِطْلَاق مَعْصِيَته بِظَاهِرِهِ وباطنه فَإِذا قَامَ بِطَاعَتِهِ وعبوديته مخلصا لَهُ فَكل مَا يجْرِي عَلَيْهِ مِمَّا يكرههُ يكون خيرا لَهُ وَذَا تخلى عَن طَاعَته وعبوديته فَكل مَا هُوَ فِيهِ من مَحْبُوب هُوَ شَرّ لَهُ فَمن صحت لَهُ معرفَة ربه وَالْفِقْه فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاته علم يَقِينا أَن المكروهات الَّتِي تصيبه والمحن لتي تنزل بِهِ فِيهَا ضروب من الْمصَالح وَالْمَنَافِع لتي لَا يحصيها علمه وَلَا فكرته بل مصلحَة العَبْد فِيمَا يكره أعظم مِنْهَا فِيمَا يحب
فعامة مصَالح النُّفُوس فِي مكروهاتها كَمَا أَن عَامَّة مضارها وَأَسْبَاب هلكتها فِي محبوباتها فَانْظُر إِلَى غارس جنَّة من الجنات خَبِير بالفلاحة غرس جنَّة وتعاهدها بالسقي والإصلاح حَتَّى أثمرت أشجارها فَأقبل عَلَيْهَا يفصل أوصالها وَيقطع أَغْصَانهَا لعلمه أَنَّهَا لَو خليّت على حَالهَا لم تطب ثَمَرَتهَا فيطعمها من شَجَرَة طيبَة الثَّمَرَة حَتَّى إِذا التحمت بهَا واتحدت وأعطت ثَمَرَتهَا اقبل بقلمها وَيقطع أَغْصَانهَا الضعيفة الَّتِي تذْهب قوتها ويذيقها ألم الْقطع وَالْحَدِيد لمصلحتها وكمالها لتصلح ثَمَرَتهَا أَن تكون بِحَضْرَة الْمُلُوك ثمَّ لَا يَدعهَا ودواعي طبعها من الشّرْب كل وَقت بل يعطشها وقتا ويسقيها وقتا وَلَا يتْرك المَاء عَلَيْهَا دَائِما وَإِن كَانَ ذَلِك أَنْضَرُ لورقها وأسرع لنباتها ثمَّ يعمد إِلَى تِلْكَ الزِّينَة الَّتِي زينت بهَا من الأوراق فيلقي عَنْهَا كثيرا مِنْهَا لِأَن تِلْكَ الزِّينَة تحول بَين ثَمَرَتهَا وَبَين كَمَال نضجها واستوائها كَمَا فِي شجر الْعِنَب وَنَحْوه فَهُوَ يقطع أعضاءها بالحديد ويلقي عَنْهَا كثيرا من زينتها وَذَلِكَ عين مصلحتها فَلَو أَنَّهَا ذَات تَمْيِيز وَإِدْرَاك كالحيوان لتوهمت أَن ذَلِك إِفْسَاد لَهَا وإضرار بهَا وَإِنَّمَا هُوَ عين مصلحتها
وَكَذَلِكَ الْأَب الشفيق على وَلَده الْعَالم بمصلحته إِذا رأى مصْلحَته فِي إِخْرَاج الدَّم الْفَاسِد عَنهُ بضع جلده وَقطع عروقه وأذاقه الْأَلَم الشَّديد وَإِن رأى شفاة فِي قطع عُضْو من أَعْضَائِهِ أبانه عَنهُ كَانَ ذَلِك رَحْمَة بِهِ وشفقة عَلَيْهِ وَإِن رأى مصْلحَته فِي أَن يمسك عَنهُ الْعَطاء لم يُعْطه وَلم يُوسع عَلَيْهِ لعلمه أَن ذَلِك أكبر الْأَسْبَاب إِلَى فَسَاده وهلاكه وَكَذَلِكَ يمنعهُ كثيرا من شهواته حمية لَهُ ومصلحة لَا بخلا عَلَيْهِ فأحكم الْحَاكِمين وأرحم الرَّاحِمِينَ وَأعلم الْعَالمين الَّذِي هُوَ أرْحم بعباده مِنْهُم بِأَنْفسِهِم وَمن آبَائِهِم وأمهاتهم إِذا أنزل بهم مَا يكْرهُونَ- ولربي المثل الأعلى- كَانَ خيرا لَهُم من أَن لَا ينزله بهم نظرا مِنْهُ لَهُم وإحسانا إِلَيْهِم ولطفا بهم وَلَو مكنوا من الاحتيار لأَنْفُسِهِمْ لعجزوا عَن الْقيام بمصالحهم علما وَإِرَادَة وَعَملا لكنه سُبْحَانَهُ تولى تَدْبِير أُمُورهم بِمُوجب علمه وحكمته وَرَحمته أَحبُّوا أم كَرهُوا فَعرف ذَلِك الموقنون بأسمائه وَصِفَاته فَلم يتهموه فِي شَيْء من أَحْكَامه وخفي ذَلِك على الْجَهْل بِهِ وبأسمائه وَصِفَاته فنازعوه تَدْبيره وقدحوا فِي حكمته وَلم ينقادوا لحكمه وعارضوا حكمه بعقولهم الْفَاسِدَة وآرائهم الْبَاطِلَة وسياساتهم الجائرة فَلَا لرَبهم عرفُوا وَلَا لمصالحهم حصلوا وَالله الْمُوفق
وَمَتى ظفر العَبْد بِهَذِهِ الْمعرفَة سكن فِي الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة فِي جنَّة لَا يشبه فِيهَا إِلَّا نعيم الْآخِرَة فَإِنَّهُ لَا يزَال رَاضِيا عَن ربه وَالرِّضَا جنَّة الدُّنْيَا ومستراح العارفين فَإِنَّهُ طيب النَّفس بِمَا يجْرِي عَلَيْهِ من الْمَقَادِير الَّتِي هِيَ عين اخْتِيَار الله لَهُ وطمأنينتها إِلَى أَحْكَامه الدِّينِيَّة وَهَذَا هُوَ الرِّضَا بِاللَّه رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دينا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا وَمَا ذاق طعم الْإِيمَان من لم يحصل لَهُ ذَلِك وَهَذَا الرِّضَا هُوَ بِحَسب مَعْرفَته بِعدْل الله وحكمته وَرَحمته وَحسن اخْتِيَاره فَكلما كَانَ بذلك أعرف كَانَ بِهِ أرْضى فقضاء الرب سُبْحَانَهُ فِي عَبده دائر بَين الْعدْل والمصلحة وَالْحكمَة وَالرَّحْمَة لَا يخرج عَن ذَلِك الْبَتَّةَ كَمَا قَالَ فِي الدُّعَاء الْمَشْهُور اللَّهُمَّ إِنِّي عَبدك ابْن عَبدك ابْن أمتك ناصيتي بِيَدِك مَاض فِي حكمك عدل فِي قضاؤك أَسأَلك بِكُل اسْم هـ لَك سميت بِهِ نَفسك أَو أنزلته فِي كتابك أَو علّمته أحدا من خلقك أَو استأثرت بِهِ فِي علم الْغَيْب عنْدك أَن تجْعَل الْقُرْآن ربيع قلبِي وَنور صَدْرِي وجلاء حزني وَذَهَاب همي وغمي مَا قَالَهَا أحد قطّ إِلَّا أذهب الله همه وغمه وأبدله مَكَانَهُ فرجا قَالُوا أَفلا نتعلمهن يَا رَسُول الله قَالَ بِلَى يَنْبَغِي لمن يسمعهن أَن يتعلمهن

من كتاب الفوائد للعلامة ابن القيم