في كتابه الموسوم بالإسلام بين الشرق والغرب ، في فصوله المعنية بالفن ، نجد علي عزت بيجوفيتش كثيراً ما يكرر و يستشهد بأقوالٍ تدل على أن الفن ما هو إلا انعكاس لشخصية الفنان ، فمثلاً يقول : " فكل عمل فني مرتبط على الدوام بشخصية الفنان " ، ويقول كذلك : " فمن رأي بيكاسو أن العمل الفني مهم فقط من حيث أنه انعكاس لشخصية الفنان . إن العمل الفني يعكس حتى حياة الفنان الأخلاقية " ويقول أيضاً : " فالعمل الفني هو الفنان نفسه " ، ومن هذا فإنه بإمكاننا بمجرد النظر في العمل الفني استنباط سمات الفنان ، ومن هذا المنطلق كان هذا المقال محاولة لاستنباط سمات الإنسان الحديث عن طريق تحليل الأغنية الحديثة ، ولستُ بدعاً من الناس في هذا فبالنظر في الإلياذة والأوديسة إستطاع المؤرخون معرفة نظرة اليونانيين آنذاك للكون وسماتهم ، وكذا الشعر الجاهلي استطاعوا عن طريقه الخلوص إلى نمط عيش العرب آنذاك وشيَمهم ، ولإسماعيل راجي الفاروقي فصلٌ ماتع في كتابه التوحيد مضامينه على الفكر والحياة بعنوان التوحيد والجمال ، تناول فيه تجليات التوحيد على طبيعة الفن الإسلامي ، ولكن قبل الخوض في استنباط السمات من الأغنية الحديثة ، أرى أنه من المهم التقديم ببعض المقدمات :

المقدمة الأولى : قد يعترض البعض ويقول : أوليس من المفترض أن السمات التي ستستنبطها تخص الفنان فقط فأنت تقول أن " العمل الفني هو انعكاس لشخصية الفنان " ؟ كيف يمكنك التعميم وأنت تقول أن الفن تجربة ذاتية ؟ ، أقول : الفن ذاتيُّ النشأة ، عالمي التأثير . والمقصد من هذه الجملة أن الفن من حيث أداءه لا يقبل مفهوم فريق العمل ، أي أن يعمل أكثر من فنان على لوحة معينة أو قصيدة ..الخ والمقصود بالعمل هنا من حيث تحقيق الفكرة لا من حيث المساعدة التقنية كأن يكون مع الفنان من يساعده بإعطاءه الأدوات حين الطلب وتوفيرها ، لأن العمل الفني كما ينقل علي عزت بيجوفيتش عن " كلاين " بأنه : جَيَشان نداء باطني خالص ، و كما قال علي عزت نفسه : " العلم جميعه - منذ بدايته إلى اليوم - هو في الغالب استمرارية آلية يأتي اللاحق فيكمل عمل السابق . لكن هذا مستحيل في الفن " ، أما بالنسبة للشطر الثاني من الجملة - أي قولنا " عالمي التأثير " - فالمقصود منه أن النفس البشرية فُطرت على وُجدانيات معينة تُفعَّل بحسب الواقع الذي يعيشه الفرد ، منطبقة من حيثُ الوجود على كل أفراد المعمورة عبر العصور ، مختلفة من حيثُ المقدار من فرد إلى فرد حسب محيط عيشه ، تربيته ، المناخ ..الخ ، وهذا تفسيرُ كوننا نجد أحداً ما قد يتفاعل مع أغنيةٍ ما ويجهش بالبكاء وآخر قد لا يلقي لها بالاً ، وما ذلك إلا لأن الأول كانت نفسه مشابهةً لنفس الفنان عند أداءه العمل الفني فكانت النفس قابلة للتأثُّر وأما الأخر فلا . وبجمع المقدمة هذي مع ما نراه من إقبالٍ شديد على الأغنية الحديثة ، فإنه يمكننا تعميم هذه السمات المُستنبَطة على كل من يتفاعل مع هذا العمل لأنه كما قلنا : ما كان ليتفاعل لولا أنه يحمل نفس سمات الفنان عند أداءه الأغنية .

المقدمة الثانية : بالنسبة لي ليس من الجيد وضع حد زمكاني تبدأ منه الأغنية الحديثة ، فالسمات التي تميز الأغنية الحديثة عن غيرها ظهرت في العالم الغربي مبكراً مقارنةً مع العالم العربي ، بل قد تجد لبعض السمات جذوراً ضاربة في قاع التاريخ الأوربي ، لذا لن أضع تعريفاً للأغنية الحديثة يحدها وإنما ستكون السمات التي سأذكرها تمييزاً لها عن غيرها .

المقدمة الثالثة : أما بالنسبة للأغاني موضع الإستنباط فهي بالترتيب من الأكثر مشاهداً إلى الأقل : أغنية Despacito بنسبة مشاهدة تعدت حاجز 4 مليار مشاهدة ، تليها أغنية see you again بنسبة مشاهدة 3.2 مليار ، تليها أغنية Gangnam style بنسبة مشاهدة 2.96 مليار . هذا بالإضافة لبعض الأغاني الأخرى المتداولة عالمياً وعربياً .

وبعد هذه المقدمات الثلاث نشرع في استنباط بعض السمات ، متخذين من الأغاني أعلاه وغيرها مادة للإستنباط :

1- الإيقاع السريع :
إن كان ثمة سمة تجمع جميع الأغاني أعلاه فهي إيقاعها السريع ، فكل تلك الأغاني لم تتجاوز الـ 5 دقائق ، والغريب في الأمر أنه بالرغم من أن أغنية " see you again " عبارة عن مرثية يُرثى فيها الفنان بول ووكر - بطل سلسلة أفلام fast and furious - إلا أنها مع ذلك لم تخلو من الإيقاع السريع .

2- الخواء :
قد يتساءل البعض ما الذي جعل أغنية " Gangnam style " تتربع على عرش الصدارة كل هذه السنوات ، ماهي هذه المعاني المبثوثة فيها التي جعلت قرابة ربع سكان المعمورة يعشقونها ؟ أقول : ليست هنالك أي معاني ، وإنما فقد خواء ، حتى وإن كان ثمَّة معنى يُمكن أن يُستنبط منها ، فهو بيان حالة الإنفصام التي يعيشها الإنسان الحديث ، وهذا مقطع من الأغنية - في ترجمتها الانجليزية - يبين ذلك :
‏I am a guy
‏A guy who is as warm as you during the day
‏A guy who one-shots his coffee before it even cools down
‏A guy whose heart bursts when night comes
‏That kind of guy

ونجد موقف الأغنية العربية الحديثة ليس ببعيد عن ذلك ، فنجد قائمة عريضة من الأغاني تحمل نفس السمة ، مثل : أغنية " طفشانة .. زهقانة " للمغنية حلا ترك ، وأغنية " بوس الواوا " للمغنية هيفاء وهبي ، هذا بجانب نمط الأغنية الجديد المسمى بـ " الزنق " في السودان . و يمكن إرجاع هذا الإقبال الشديد على مثل هذه الأغاني لحالة الخواء الوجداني التي يعيشها الإنسان الحديث .


3- الإباحية والبذاءة :
يقول د.كمال خلايلي : " درج مؤرخو الأدب على تقسيم هذا الشِعر (أي الغزل) إلى صنفين رئيسيين . أولهما غزل إباحي، يتسم بفتور العاطفة، وسرعة تحولها، وبالمجون . أما الصنف الثاني، ما اصطلح على تسميته الغزل العذري ... وهو شعر حب وغزلٌ قويُّ العاطفة، حافلٌ بالشوق والحنين " ، قديماً كان الصنف الثاني هو الشائع ، بل حتى من كان يستعمل الغزل الإباحي كان يحجب المعنى الصريح بكل ما يعرف من أدوات البلاغة ، وهذا ما لا نجده في الأغنية الحديثة مع شيوع الصنف الأول فيها ، فمثلاً هذا مقطع من أغنية ديسباسيتو - من الترجمة الانجيلزية - يبين ذلك :
‏I want you to show me
‏Your favorite places
‏Let me surpass you danger zones
‏To make you scream
‏And forget your name

أما بالنسبة للبذاءة فإنك قد تجد الكثير من الأغاني المشهورة عالمياً لا تخلو جملة منها من كلمة بذيئة ، مثل : أغنية too close ، أغنية cake by the ocean ، أغنية candy shop .

للأغنية الحديثة الكثير من السمات ، ولكن طبيعة المقال لا تسمح لنا بالتوسع في ذكرها ، ولكن يمكن سرد بعضها إجمالاً : التمرد ، الجرأة في البوح ، العنف في التعبير عن المشاعر ، انعدام الصور الجمالية ، الفردانية . كل هذه السمات وأكثر تجدها في الإنسان الحديث باختلاف المقدار من فردٍ لآخر .