النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: قصتي من سجن الإلحاد إلى حرية الإيمان! د. خالد سُليمان

  1. افتراضي قصتي من سجن الإلحاد إلى حرية الإيمان! د. خالد سُليمان

    منذ سنتين، 28 فبراير,2016

    أجد أن من المفيد أن أسرد عليكم قصة تحولي من الإلحاد إلى الإسلام، فلقد كنت أقرب إلى أبي جهل في يوم من الأيام، لعلها تنفع بعض الإخوة الذين تعبث برؤوسهم الشكوك والوساوس. كنت قد ولدت ونشأت في أسرة مسلمة، متدينة نوعا ما. بل إن فترة طفولتي قد تزامنت مع اتجاه المرحوم والدي إلى مزيد من التدين. تصادف أنني كنت أتمتع بصوت جميل، أجمل حتمًا من أصوات الكثير من المغنين الذين يغنون هذه الأيام؛ ما جعل والدي يشجعني على الذهاب إلى المسجد لتعلم التجويد والترتيل، بل إنه كان يجعلني أشارك في جلسات بيتية كان يعقدها مع بعض أصدقائه بحضور مقرئ متخصص لتعلم أحكام التجويد. فرحت بذلك طفلًا وفتىً، فقد أصبحت محط الإعجاب والتقدير في البيت والمدرسة والمسجد.

    لكن المشكلة أن البشر يأخذون الأديان التي ولدوا عليها شيئًا مسلَّمًا به، أو إرثًا ثقافيًّا، فلا يدرسونها دراسة جدية عميقة نقدية متأنية، لتصبح لمعظمهم مجرد طقوس شكلية وسلسلة من الأوامر والنواهي، وهذا كان شأني. المهم، قضيت طفولتي وصباي وأنا أعيش حياة أقرب للمثالية، تدور ضمن نطاق المسجد والدراسة والقصص والروايات الطفولية الناعمة؛ ما جعل مني شخصية حالمة، ربما يغلب عليها البراءة والسذاجة. وعندما ولجت المرحلة التي يسمونها بالمراهقة، أخذت أتأبط شرا وأتراجع عن اهتمامي بالشأن الديني، إذ بدأت أحس بالرغبة في التحرر من أجواء التدين والانضباط، وبت أضيق ذرعًا بالقيود والضوابط، وأتمنى أن أحظى ببعض ما يحظى به أترابي الأشقياء من مغامرات ومتع، كما أن سلوك الكثير من المتدينين عن جهل أو عن نفاق كان يبعث فيّ الإحباط والنفور والمغص.

    عندما أنهيت الثانوية العامة، كانت الخطة أن أسافر للولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة الدراسة هناك، غير أن أبي، رحمه الله، غيّر رأيه، متذرعًا بالظروف المالية، وبخشيته من أن أضيع أو أنحرف في بلاد “الفسق والضلال” على رأيه. كان معدلي يؤهلني للحصول على مقعد في إحدى الجامعات الحكومية، وبخاصة أن أبي كان قد خدم في الجيش قرابة ربع قرن، حيث كانت الدولة التي كنت أعيش فيها تمنح أبناء العسكريين نسبة من المقاعد الجامعية. ولكن، ولأسباب تتعلق بالفساد والمحسوبيات والتمييز، حرمت من التمتع بذلك المقعد. وبعد قرابة العامين من التخبط وانسداد الآفاق في وجهي، وجدت أن من الأفضل، ويا لحمقي، أن أقوم بأداء الخدمة العسكرية الإجبارية، التي كانت لمدة سنتين، على أمل أن أتابع دراستي بعد إنهائها.

    كانت تجربة الخدمة العسكرية أسوأ تجربة مررت وسأمر ويمكن أن أمر بها في حياتي، وكان من نتائجها المباشرة أن كفرت بالله، وبكل ما هو مقدس، لقد كرهت نفسي وكرهت أهلي وكرهت العرب وكرهت المسلمين وكرهت البشر أيامها. فقد التقيت هناك، وأنا الحالم الذي كنت أظن أن العالم جميل وخيّر عمومًا؛ بكائنات قبيحة وبشعة وشريرة ومريضة لم أكن أتخيل ولو في الكوابيس وجود مثلها على ظهر هذه الأرض، وكان عليّ أن أصبح عبدًا لمثل تلك الكائنات البغيضة لمدة عامين كاملين! لم أجد أحدا أصبّ عليه غضبي وقهري ونقمتي واكتئابي إلا الله، فقد حملته بمنتهى البساطة والطيش المسئولية عن معاناتي، على اعتبار أنه هو الذي خلق أولئك الأوغاد، وهو الذي وضعني في ظروف صعبة وقاسية أجبرتني على التصبح والتمسي بوجوههم العكرة، لذلك قررت الكفر به، أو شطبه من قاموس حياتي، أو عدم التفكير به في أفضل الأحوال!

    بعد انتهائي من المأساة العسكرية، قيض لي بعد جهد جهيد أن أدخل الجامعة، وفق نظام كان يمنح الحاصلين على الثانوية العامة من سنوات سابقة نسبة من المقاعد في الجامعات الحكومية. كنت أود دراسة الحقوق، ربما للإسهام في تخفيف الظلم في عالمنا القبيح، لكن مكتب تنسيق القبول اختار لي دراسة علم الاجتماع. ولكي أزيد الطين بلة، اخترت الفلسفة تخصصًا فرعيًّا! لسوء الحظ، كان معظم أساتذتي من الملحدين، أو من العلمانيين، أو من المسلمين الجهلة بالإسلام، لذلك عززوا بأفكارهم الوضعية وبالنظريات المادية التي كانوا يروجونها قناعاتي السلبية عن الدين، كأفيون للشعوب، وكأساطير اختلقها البشر لعجزهم عن فهم الظواهر والقوى الغامضة، ورغبتهم في السيطرة على بعضهم البعض عن طريق ادعاء الحديث باسم تلك القوى! لكن المثير أن توجهاتي الرافضة للدين لم تؤثر كثيرا في النزعة الدينية داخلي، دون أن أجرؤ على مواجهة نفسي لمحاولة فهم استمرار حيازتي لتلك النزعة، فقد بقيت مثلا أواظب على الصوم، كما لم أشرب من الخمر في حياتي إلا رشفة واحدة بصقتها سريعا لسوء مذاقها، ولا أدري كيف سقطت زجاجة المنكر من يدي، وكان ذلك آخر عهدي بها…

    ثم تابعت دراساتي العليا، وحصلت على عمل بحثي في الجامعة. كنت قانعًا بحياة الحرية التي أعيش، فمن دون إله يعبده المرء، يستطيع أن يصبح إله نفسه، وأن يعيش على حل شعره مختالا فخورًا، وأن يقرر لنفسه وبنفسه ما هو صواب وما هو خطأ! لقد كان الكبر يحركني إلى حد بعيد، فقد كنت أرفض أن أخضع لعبودية الله، مع أنني كنت في واقع الأمر عبدًا لأشياء كثيرة، منها رغباتي وطموحاتي وأهدافي الدنيوية التي كنت أصارع من أجل تحقيقها.

    ظل الوضع كذلك إلى أن حصلت بالصدفة على عمل جديد في أحد المراكز البحثية، وهنا كانت نقطة التحول التي غيرت حياتي، وأنقذتني من براثن الإلحاد أو اللاأدرية كما قد أسمي حالتي، أي عدم الجزم، أو عدم الاكتراث، بوجود إله من عدم وجوده، وقذفتني مجددا إلى حياض الإيمان. فقد كان المركز يقوم بتنفيذ مشروع بحثي عن التنمية في الوطن العربي، وكان يحتاج إلى شخص بمؤهلاتي لكي يشارك في إدارة فريق البحث، والطريف في الأمر أن الأستاذ الذي رشحني للوظيفة هو من الملحدين فيما أظن، لذلك أدعو له اليوم بالهداية لأنه كان، دون أن يدري أو يقصد، سببًا في هدايتي!

    هناك افتراض، بل يقين قوي، سائد لدى معاشر العلمانيين والمناهضين للأديان، الذين كنت منهم، يفيد بأن سبب تخلف العرب هو الإسلام، وأن الغرب لم يتقدم ولم يصبح متحضرا ومتفوقا إلا عندما نبذ الدين وراء ظهره، لذلك فإن الطريق الوحيد بل الأوحد للتقدم في المحيط العربي هو تقليد تجربة الغرب وإحداث قطيعة لا رجعة عنها مع الدين! كان من بعض أهداف المشروع البحثي الذي انخرطت فيه بحماس التحقق من صحة ذلك الافتراض، ولذلك وجدتني مضطرًا إلى قراءة ما لا حصر له من الكتب والدراسات عن تاريخ الأديان الرئيسية وتعاليمها وعلاقتها بالعلم والتنمية والنهضة.

    وأثناء قراءتي ونقاشي مع أعضاء الفريق البحثي، وجدتني دون أن أعي ذلك أو أكون متحمسًا له أعيد النظر في فكرة الله، لأكتشف أنني لم أكن يومًا منكرًا لوجود الله، لقناعتي بوجود ما لا حصر له من الأدلة الساطعة على وجوده، لكنني كنت في واقع الأمر غاضبًا منه ومقاطعًا له، وهذا حال كثير من الملحدين بالمناسبة. فهم يتذرعون بما يسمونها “أدلة علمية” لإنكار وجود الله، لكنهم يعلمون في قرارة أنفسهم، حتى وإن جبنوا عن الاعتراف بذلك، أنه موجود، وأنه لا يمكن تبرير أو تفسير كثير من الأمور، وفي مقدمتها وجودهم نفسه، إلا بإقرار وجوده.

    فالحقائق العلمية تؤكد أن الكون له بداية، وهذا يؤكد استحالة تولد هذا الكون البديع المنظم من العدم، أو تشكله بالصدفة، فلا بد من وجود قوة واعية حكيمة مقتدرة وقفت وراء إبداعه، تختلف عنه وتتجاوزه في الخصائص والصفات. تلك القوة الواعية الحكيمة هي صفة من صفات “الله” لدى من يؤمنون به، بينما يتفنن الملحدون في ابتكار حجج سخيفة واهية لتجنب الاعتراف به.

    فثلة من الملاحدة مثلا يزعمون أن هناك قوة بالفعل قد أوجدت الكون، ولكن لا علاقة لها بإله الرسالات السماوية الذي ينكرون وجوده، فهي قوة غير واعية أنشأت الكون ووضعت قوانين حركته، دون غرض معين، ودون أن تكون معنية بالتدخل في مجريات الأحداث فيه! زعم بائس ومناف لأي منطق هو، وهو أشد تهافتا من إضاعة الكثير من الوقت في مناقشته. فكيف يمكن تخيل قيام قوة عمياء بإيجاد هذا الكون الفسيح المذهل المحكم التنظيم! من أين جاءت تلك القوة “العمياء” بكل تلك القدرة والحكمة والعلم والمعرفة، التي تبدت في إقامة ذلك الكون المعجز وضمان استمراره مليارات السنين!

    ولماذا تجشمت تلك القوة عناء إيجاد الكون وما ومن فيه من مخلوقات إن لم يكن ذلك لأغراض معينة، بينما يخبرنا العقل والفهم السليم أن لكل شيء حولنا، سواء صنعناه بأنفسنا أو جئنا إلى الدنيا فوجدناه وظائف محددة! إن التفسير الوحيد العقلاني الممكن هو التفسير الذي يقدمه الدين، الذي يقول بوجود خالق حكيم عليم قوي واحد. فبما أن الكون موجود بالفعل، وليس بالشيء المتوهم، فإن هناك من أوجده حتمًا. والتسلسل لتتبع من أوجد الكون سيقود بالضرورة إلى موجد أول، كان موجودًا قبل الكون، وقبل المكان والزمان، وهو يتمتع بقدرات مطلقة وصفات خارقة.

    حتى أكون صادقًا، لم أكن سعيدًا بعودة فكرة الله إلى حياتي، إذ كنت قد اعتدت حياة الفوضى التي أعيش دون ضوابط أو قيود أو إلزامات دينية. لكن ثقتي بوجود الله، التي أعدت اكتشافها رغما عني عبر احترامي لعقلي ولنتائج بحثي، كانت تحتم عليّ البحث عن ذلك الإله، ومعرفة الدين الذي أرسله، لأن من السخف الافتراض بأنه خلقني من باب العبث أو التسلية، أو أنه خلقني وتركني لأعيش وألهو وآكل وأشرب كما البهائم ثم أموت وانتهى الأمر!

    لا أخفيكم أنني كنت ميالًا إلى بعض الأديان الأخرى، عندما لم أكن أعرف الكثير عنها، فقد استقرت في وعيي ذات يوم بوصفها أديانًا سهلة مسالمة، ليس فيها الكثير من الواجبات والتكاليف والالتزامات، إضافة لأني لم أكن قد نسيت بعد سخطي على “المسلمين” الأشرار الذين حولوا حياتي إلى جحيم، ولم أكن أود الرجوع واحدًا منهم!

    لكن البحث في تلك الأديان سرعان ما صرفني عنها، فبعضها لا يؤمن بوجود إله من الأساس، وبعضها يجعل من بعض المخلوقات العاجزة آلهة، وهو ما لا يمكن أن يقبل به المنطق السليم، أو أن ينسجم مع مفهوم الإله باعتباره خالقًا لا يمكن أن يخضع لما تخضع له مخلوقاته، وإلا بتنا نتحدث عن كائن آخر لا علاقة له بمفهوم الألوهية.

    لم يتبق إلا الإسلام كي ألتفت إليه بحرص، وكنت خلال قراءتي في سياق الدراسة المذكورة قد بدأت بتكوين صورة أوضح وأنقى عنه، صورة تحليلية موضوعية، بعيدة عن التحيز له أو ضده. فوجدته دينا عقلانيا منطقيا عمليا يعلي من شأن العقل والتفكير، بل يطالب الإنسان بألا يؤمن دون دلائل عقلية راسخة، وجدته دينا في منتهى البساطة والوضوح والتناسق، يتمتع بمستوى رفيع من الأخلاقية والعدل والقدرة على حل مشكلات البشرية، مع مراعاة الجوانب الروحية والمادية في الإنسان وعلاقاته باتزان واعتدال.

    وكلما كنت أقرأ المزيد عنه وعن تاريخه، وأدرك أن العرب الحفاة العراة لم يصبحوا شيئا يذكر في يوم من الأيام إلا بفضل اعتناقه، كنت أزداد إعجابًا به وانجذابًا إليه، وأزداد رغبة في ضرب نفسي بالشبشب العتيق، لأني كنت قد سمحت لعقلي بأخذ إجازة مفتوحة أعمتني عن الرؤية، وحرمتني لسنوات طويلة من التفيؤ تحت ظلال ذلك الدين الرائع، بما يوفره للمرء من سكينة وإحساس بالأمن والرضا وبصحبة الله ورحمته، وبأن للحياة معنى، خلافًا لحياة الخفة الهائمة التي كنت أحياها على غير هدى.

    كان ذلك منذ نحو خمس عشرة سنة، لم تزدني هي وما طالعته فيها من قراءات عن الإسلام، وعن غيره من الديانات، إلا ثقة وإيمانا بأنه الدين الحق من عند الله. فأنا لم أستسلم وأسلم به بسهولة، بل كنت أقرأ وأقرأ المزيد عنه وعن الشبهات التي تثار حوله، لعلي أجد ما يقنعني بتركه، إلا أنني لم أكن أزداد مع الوقت إلا يقينًا بصحته، وباستحالة أن يكون من مصدر بشري، وإلا لكان قد سقط حتما أمام فحصي الصارم المستمر لنصوصه وتعاليمه.

    من وحي قصتي المتواضعة، فإنني أنصح كل ملحد بأن يكون صادقا مع نفسه، وأن لا تأخذه العزة بالإثم. وليحدد ما إذا كان يكفر بالله عن اقتناع فعلا، أم أنه يفعل ذلك من باب الغضب منه وتحميله وزر ما يحدث في هذا العالم. فثمة فرق كبير، فمن يضع على الله مسؤولية الشر في العالم، عليه أن يقرأ القرآن جيدًا، وسيدرك بوضوح أن القدرة على فعل الشر هي جزء طبيعي وضروري من الامتحان الذي خلقنا الله لأدائه. فالله لا يصنع الشر، ولكنه أعطى البشر القدرة على صنعه، تماما كما منحهم القدرة على فعل الخير. ومن ثم؛ فإنهم وحدهم يتحملون إثم اقتراف الشر.

    أما من يظن بأنه يستند إلى أسس وذرائع علمية قوية تبرر إلحاده، فليسأل نفسه فقط: أي أسس علمية هذه والحجج التي يرددها الملحدون اليوم تتطابق مع ما كان الكفار الجهلة يرددون منذ أكثر من 1400 سنة، عندما كان العلم يكيل بالبتنجان! فقصة الإلحاد صدقوني ليست قصة دلائل علمية وبطيخ الشام، بل إنها قصة رغبة مسبقة ومبيتة لرفض وجود الله، وذلك لأسباب كثيرة، منها الجهل أو مرض القلب أو الغرور والكبر أو السخط على الدنيا وأهلها وموجدها أو السعي إلى الانفلات والتحرر من أية ضوابط أخلاقية دينية، ثم يتم الاستعانة بمقولات “علمية” فضفاضة وضبابية لا تثبت شيئا للتغطية على تلك الرغبة الشيطانية ومنحها الشرعية والتبرير!

    قصتي من سجن الإلحاد إلى حرية الإيمان (2)
    كما كنت أتوقع، أثارت مقالتي المعنونة بـ«قصتي من سجن الإلحاد إلى حرية الإيمان» العديد من التعليقات والملاحظات والاقتراحات، السلبية والإيجابية، التي أشكر أصحابها لتكرمهم بها، لأن المرء بحاجة دائمة لمراجعة أفكاره وتقييم مدى صوابها، ويصعب أن يفعل ذلك دون تلقيه النقد من الآخرين، مع أن بعض الناس مع الأسف الشديد لا يفرقون بين النقد الموضوعي البنّاء، الضروري والمحبذ، وبين الانتقاد الشخصي، المغرض والهدام، والمنطلق غالبًا من أمراض وانحرافات فكرية أو أخلاقية يعاني منها المنتقد. فالإنسان السوي، صاحب الشخصية النبيلة التي تسعى إلى الارتقاء بنفسها وبالآخرين، يحاول جاهدًا أن ينقد الأفكار لا أصحابها، وأن يحسن الظن بالناس، وأن لا يتسرع أو يتعسف في أحكامه، وألا يقفز إلى نتائج يختلقها أو يتوهمها لا علاقة لها بما يقرأ، وألا يسخّف جهود الناس أو يحقرها، وألا يدع توجهاته الإيديولوجية وانتماءاته وتحيزاته الذاتية توجه أفكاره وكلماته بعيدًا عن الحق والإنصاف، على كل حال، نحن بشر ولسنا ملائكة، وكلنا لا يخلوا من مثل تلك العيوب إلى درجة أو أخرى، ولكن من المهم أن نحاول علاجها ومقاومتها قدر المستطاع.

    أعود إلى موضوع المقالة الرئيس بعد ذلك الاستطراد الذي وجدت أن من المهم التعريج عليه. كانت المقالة الأولى مجرد فكرة عامة عن تجربتي، بخطوطها العريضة، دون الدخول في كثير من التفاصيل. ولذلك فإن من التعسف وقصر النظر الحكم بسطحية تجربة عمرها أكثر من ربع قرن، بالرجوع إلى مقالة قصيرة حاولت تغطية أهم محطاتها. فقد اشتملت تلك التجربة، ولو بحكم الوقت الذي استغرقته، على كثير من الجوانب والأبعاد والصراعات والمخاضات، ولم تكن حتمًا رحلة سطحية كما قد تبدو عليه باستعراضها عبر حفنة من السطور.

    فكما ذكرت، لقد كنت أسعى إلى الهرب من العودة إلى الإيمان أكثر بكثير مما كنت أسعى إلى الرجوع إليه. وكنت أكاد أفرح كلما وجدت شبهة تبدو قوية ومقنعة من تلك الشبهات التي درج الملاحدة على تسويقها، فالغارق في مستنقع الإلحاد مثله مثل المدمن الذي يخشى التخلي عما يتعاطاه ويظن أنه لا يقوى على الحياة بعيدًا عنه، ولذلك فإنه يتشبث بأية قشة قد تساعده على الغوص أبعد وأبعد فيما هو خائض فيه. ولذلك كنت أتلقف شبهات الملحدين باحتفاء وأدرسها بعناية، غير أن نتائج ذلك التقصي كانت تكاد تجعلني أشق ثيابي وألطم وجهي غيظـًا من التفاهة والضحالة الفكرية التي كنت أتخبط فيها، حينما سمحت لنفسي بأن أردد كالببغاء في يوم من الأيام مثل تلك السخافات! بدأت حينها أحلل موقفي ومواقف أصحابي ممن كانوا على شاكلتي، وكلهم من الأكاديميين الحاصلين على شهادات عليا، كي أفهم المنطلقات التي انطلقنا منها، أو الأسباب التي رمت بنا إلى جحيم الإلحاد، فوجدتها تتأطر بوجه عام ضمن عدة روافد، أجد أن من المهم جدًا تخصيص هذا المقال لاستعراض أبرزها:
    التأثر الأعمى بالغرب

    من الدوافع الأساسية للإلحاد التأثر الأعمى بالغرب، والانبهار بكل ما يأتي منه. فلو تأملت في خطاب معظم الملحدين لوجدتهم يجعلون من الغرب كعبتهم التي تحج إليها أفئدتهم، بوصفه رمزًا لكل ما هو متقدم ومتحضر وحداثي. وهذا كان حالي أنا وأصحابي، فقد كنا نعبد ماركس ونيتشه وفرويد وهايدجر وسارتر وفوكو وأبو رجل مسلوخة وسلومة الأعور وأمثالهم من دون الله، وننافس بعضنا بعضًا ونتباهى بترديد مقولات أولئك الضالين المضلين، كدليل على الوعي التقدمي الثوري!
    النزعة العبثية

    بعض الملاحدة ضلوا الطريق بسبب النزعة العبثية، وربما العدمية لديهم. أي بسبب انفجار ماسورة المعايير وتشظي منظومة المعاني لديهم ورفضهم الاعتراف بما تعارف وتواضع واصطلح عليه الناس من أفكار ومفاهيم، فعندما تتحاور مع واحد من هؤلاء تجده يرفض التسليم بأكثر الأمور وضوحًا ويقينية واستغناء عن البرهان، من قبيل وجود الأرض أو الشمس أو الكون أو حتى وجوده هو نفسه، فتلفيه يقول مثلًا: وما أدراني أنني موجود فعلًا، وأنني لست مجرد حلم أو وهم في عقلي أو في عقل غيري! كما هو واضح فإن من شبه المستحيل الوصول إلى نتيجة يعتد بها مع من يتبنى مثل ذلك الموقف المخاطي المطاطي، والأرجح أن ينتهي الحوار بنوبة قلبية للطرف المؤمن. فإذا كان صاحبنا غير متأكد من وجوده هو نفسه، فكيف يمكن أن يقتنع بوجود الله! على كل حال لقد نصحت واحدًا من أصدقائي من حملة تلك الأفكار الهائمة العائمة بأن يلقي بنفسه أمام القطار، وهو لن يتألم من الصدمة أو يموت حتمًا، بما أنه غير موجود، ولكنه سيتأكد بنفسه فقط مما إذا كان الله موجودًا أم لا! وإن جبن ولم يفعلها، ولن يفعلها، فسأبلغ عنه المختصين في السرايا الصفراء حتى يريحوه ويريحوا العالم من أفكاره الخنفشارية!
    الجهل

    تنطبق على الملحد صفة الجهل، حتى وإن حمل جائزة نوبل في العلوم. مما يدل على أنه ليس هناك علاقة جوهرية بين المستوى العلمي للفرد، وبين توجهه الديني! كما أن العلم في مجال معين لا يعني على الإطلاق الفهم أو الحذق في مجالات أخرى، فقد يكون المرء عالمًا عبقريًا بالفيزياء، بمستوى أينشتاين نفسه، وجاهلًا في الوقت ذاته في الاقتصاد أو السياسة، جهل المرحومة جدتي بهما. كما أن تعمق الإنسان في علم معين لا يعني بالضرورة امتلاك مفاتيح ذلك العلم واستكناه كل أسراره، فكلما زادت معارف علماء الفلك مثلًا، زاد وعيهم وإقرارهم بأنهم لا يعلمون إلا أقل القليل عن مجاهل الكون وخفاياه، فيما يشكل مصداقًا لقوله تعالى: «وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا»، وإذا كان العلماء، وبالرغم من كل التقدم الهائل الذي أحرزوه، لا يعلمون كثيرًا عن طبيعة الإنسان نفسه، ولا يفهمون حتى الآن تمامًا كيف يفكر ويشعر ويتعلم ويتذكر ويبدع ويمرض ويشفى ويموت…إلخ، فكيف يمكن للبعض أن يزعم بأن العلم يتعارض مع وجود الله أو ينفيه، كما يفعل ثلة من الملاحدة السذج. ولذلك فإن الملحدين هم ممن تنسحب عليهم الآيات الكريمة القائلة: «يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرًا من الناس بلقاء ربهم لكافرون».

    ومن يتأمل في حجج الملاحدة، يكاد فعلًا أن يضحك من سذاجتها وتعبيرها عن مستوى مريع من الجهل في أمور كثيرة، أولها اللغة العربية، التي لا يمكن ادعاء فهم الدين الإسلامي فهمًا عميقـًا إلا بالتمتع بمستوى متقدم منها. فبعضهم مثلًا يقول لك بما يشبه التشفي والزهو بنشوة الانتصار وكأنه جاء بالذئب من ذيله: كيف يقول ربك في القرآن: «حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة»؟ من يتساءل مثل ذلك السؤال الساذج، ويؤسس إلحاده على تساؤلات مشابهة لا تقل سذاجة، لا يعلم فيما يبدو عن وجود شيء يسمى المجاز في اللغة العربية، بل في كل اللغات، ولا يدرك أن الألفاظ لا تُؤخذ على نحو حرفي دائمًا. بل إن من الملاحدة من يبلغ به البؤس المعرفي درجة الزعم بأن هناك أخطاء نحوية في القرآن الكريم، غير مدرك أن كل علوم اللغة العربية قد تأسست بعد عشرات السنين من نزول القرآن، وأن القرآن كان هو المرجعية والمعيار والمسطرة التي تم الاستناد إليها لاستنباط القواعد، بمعنى أن القرآن هو القاعدة التي يقاس عليها، وليست قواعد اللغة المستلهمة من القرآن هي ما يمكن الحكم بواسطتها على القرآن!

    ولكن الملحد مثله مثل الذي يطيش على شبر ماء كما يقول المثل الشعبي، فبمجرد أن يصادف عبارة غير واضحة المعنى أو قد تخلق بعض اللبس عنده في ضوء جهله باللغة وبعلوم التفسير، أو يأخذها بالأحرى من إحدى المواقع الخبيثة الجاهلة المتخصصة بتشويه الإسلام، حتى يتعامل معها كدليل قاطع لا يقبل الدحض أو النقاش على وجود أخطاء في القرآن أو الحديث، دون أن يكون معنيًا، في أغلب الحالات، بمعرفة المعاني المختلفة المحتملة لتلك العبارة، ودون أن يكون مستعدًا حتى لتغيير رأيه، مهما كانت درجة قوة ووجاهة التفسيرات التي تقدم له!

    ويرتبط بمسألة الجهل المعرفي، الجهل بقدر الله وعظمته وجلاله. فحجم الكرة الأرضية كلها بالنسبة للكون قد لا تزيد عن حجم نقطة ماء في محيط، فتخيلوا قدرة وعظمة الخالق الذي أوجد ذلك الكون، الذي قد لا تمثل الأرض ومن عليها بالنسبة له ما يزيد عن جناح بعوضة. بعض الملحدين أو اللاأدريين بالأحرى يقولون قد يكون الله موجودًا، ولكنهم يتهمونه بالافتقار إلى الحكمة والعدل والرحمة! فما أجرأهم على الله وما أعظم جريمتهم، فهم والأرض التي يعيشون عليها بقضها وقضيضها لا يشكلون أكثر من نقطة في بحر من خلق الله، ثم نرى واحدهم ينسى نفسه ويريد أن يحتج على الله وأن يحاكمه وأن يعترض على إرادته وأحكامه وأقداره! ثم يتساءل بسماجة وبجاحة لماذا يستحق التخلد في جهنم السوداء بعد ذلك!

    حتى على الأرض وفيما بيننا نحن البشر، عندما يسيء شخص إلى آخر، تزداد العقوبة وتغلّظ كلما علت مكانة الشخص المساء إليه. فإذا ما أسأت إلى جارك الحلاق الأسطة صبحي، وشكاك إلى الشرطة، فقد ينتهي الأمر بقبلة رأس واعتذار. أما إن أسأت إلى الحاكم أو الملك، فقد تختفي خلف الشمس. فكيف إذا ما تجرأت وحاولت الإساءة إلى ملك الملوك الخالق المنتقم العزيز الجبار القهار. إنك تكون كمن يتم تعيينه في مؤسسة عملاقة، ليتنعم في خيرات مالك المؤسسة وكرمه وفضله غير المحدود، ثم نجده آخر النهار يتوجه بالسباب والجحود تجاه ذلك المالك، بل يحاول تدمير المؤسسة نفسها، بنشر سمومه وأفكاره الضالة فيها، والدعوة إلى عصيان صاحبها والتمرد عليه. ولو كان يستند إلى أسس شرعية معقولة فلربما التمسنا له عذرًا، لكنه يعتمد تمامًا على مقولات ساذجة واهية لا يمكن أن تصمد أمام أدنى اختبار عقلي. فهو يرى المؤسسة رأي العين، ويشاهد ما فيها من إبداع وحسن تصميم، بل يعيش ويعمل فيها، لكنه ينكر أن يكون لها موجد أو مالك أو مدير أو مدبر! كما أنه لا يستطيع أن يفسر لنا بصورة تحترم العقل من أين جاءت وكيف تكونت. فمرة يقول لك إن الأمر كان بالصدفة، وأخرى يقول لك إن مخلوقات فضائية جاءت وأنشأتها، وثالثة يقول لك إنه لا يدري، وإنه بانتظار العلم كي يكتشف الجواب!

    لقد خُلق الإنسان لمهمة أساسية قوامها عبادة الله. أي أن الوظيفة الأولى والأخيرة التي وجد من أجلها هي توحيد الله، وإعمار الأرض وفق أوامر الله. فإذا ما رفض الاعتراف بتلك المهمة، وبصاحبها، وجعل إلهه هواه فقرر ابتداع أهداف ومهام أخرى لوجوده على الأرض على مزاجه، بما يتعارض مع المهمة التي كُرس من أجل القيام بها؛ فإن الله يحذره بمنتهى الوضوح بأن مصيرة الخلود في الجحيم. لكنه تبارك وتعالى يبشره في المقابل، وفي الوقت نفسه، بأن مصيره الخلود في الجنة، إذا ما أبدى حرصًا جديًا مخلصًا على الالتزام بتنفيذ تلك المهمة، التي تضمن له السعادة والحياة الفضلى في الدنيا قبل الآخرة، فهل من حقه بعد ذلك الادعاء بأن الله ظلمه! عجبًا للإنسان، وصدق الله العظيم إذ قال فيه: «قُتل الإنسان ما أكفره»! فالله يقول له إن أمامه الاختيار بين طريقين لا ثالث لهما: طريق الهلاك وطريق النجاة، فنجده يمضي في طريق الهلاك المعبد بخطوات الشيطان ورفاقه عن سابق تصميم وإصرار وترصد، ثم يفغر فاه بالصراخ شاجبًا الحكم بمعاقبته بالجحيم الأبدي، وواصفـًا إياه بالظلم والقسوة والتسلط، مع أنه هو الذي اختار مصيره بنفسه!

    من حكم بماله ما ظلم كما يقال. ونحن وكل الدنيا من أملاك الله ومن صنعه، وهو صاحب الحق الحصري المطلق في التصرف بنا. وحياتنا القصيرة التافهة على الأرض، التي قد لا تتجاوز 100 سنة على أبعد تقدير، لا تذكر أمام الحياة الأبدية الخالدة التي يعدنا بها بعد الموت. فمعاناتنا على ظهر هذه الأرض مهما عظمت وبلغت، هي لا شيء في واقع الأمر، ولا يجعل من تلك المعاناة، بما يتضمن موت الأطفال ومرضهم وعذابهم، سببًا لاتهام الله بالظلم وعدم الرحمة إلا أخرق قصير النظر، ما دام الله قد تعهد بتعويضنا بدلًا منها بنعيم مقيم إلى أبد الآبدين. فالله الذي خلق طفلًا مريضًا أو معاقـًا أو تركه يتعرض لأقصى صور الاضطهاد الممكن تخيلها هو أرأف به منا، وهو قادر على أن ينسيه بغمضة عين كل ما لقيه من عذاب. وفي هذا السياق قد يكون من المفيد استحضار حديث نبوي مهم يقول: «يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من الكفار فيقال: اغمسوه في النار غمسة فيغمس فيها، ثم يقال له: أي فلان، هل أصابك نعيم قط، فيقول: لا ما أصابني نعيم قط، ويؤتى بأشد المؤمنين ضرًا وبلاءً فيقال: اغمسوه غمسة في الجنة، فيغمس فيها غمسة، فيقال له: هل أصابك ضر قط أو بلاء، فيقول: ما أصابني قط ضر ولا بلاء».

    لحسن الحظ، فإن علاج الجهل ممكن وسهل، وعلى الملحد أن يبحث في التفاسير المختلفة، المتوافرة اليوم على الأغلب مجانًا على الإنترنت، وأن يسأل أهل العلم الموثوق بهم للاستفسار بشأن ما يلتبس عليه ويعجز عن فهمه. وإذا كان الملحد، كما هو الأمر في معظم الحالات، لا يكاد يستطيع تركيب جملة عربية واحدة دون أخطاء، فليكن صادقـًا مع نفسه وليتساءل إذا ما كان من المنطق أو الإنصاف أن يتصور أنه قادر على تفسير آيات القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية على هواه كما قد تبدو لفهمه السطحي!؟ وهذا يقودنا إلى سبب آخر مهم قد يقف خلف الإلحاد، وهو:
    الكبر والغرور

    كما دأب بعض العلماء الأفاضل على القول فإن أول خطيئة عرفها التاريخ البشري هي خطيئة إبليس عندما رفض السجود لآدم عليه السلام، تكبرًا منه وغرورًا. وهذا ما يعاني منه كثير من الملحدين، فهم يرفضون فكرة العبودية لله، ويزعمون أن كرامتهم تأبى عليهم السجود لأحد! ولكن لو دققوا في حياتهم وتفاصيلها، لأدركوا كذب زعمهم، فهم في واقع الأمر عبيد لأسرهم، وهم عبيد لمدارسهم وجامعاتهم التي يدرسون فيها، وهم عبيد للشركات التي يعملون فيها، وهم عبيد للجيوش التي يخدمون فيها، دون أن يتجرأوا غالبًا على الغياب أو على عصيان الأوامر والتعليمات في تلك المؤسسات. ناهيك عن عبوديتهم لمطامحهم ولأهوائهم ونزواتهم وشهواتهم التي يوسوس لهم بها شياطين الجن والإنس. ولا أدري حقيقة لماذا يبدو الإنسان غالبًا كالأرنب أمام كثير من الهيئات التي تتحكم بحياته، التي يديرها بشر ضعفاء مثله، بينما يحاول أن يتعنتر ويظهر كالأسد عندما يتعلق الأمر بالله!

    إن الملحد، وبخاصة إذا كان من حملة الشهادات العلمية، واسألوا مجربًا ولا تسألوا طبيبًا، ينظر إلى جموع المؤمنين باستخفاف واستعلاء، حتى لا أقول باحتقار، فهو يرى فيهم مجرد أناس جهلة لا علاقة لهم بالعلم أو بالعقل، بعد أن أغرقوا أنفسهم في أساطير الأولين وترهاتهم! ولكن إذا ما تعمقت في أفكار صاحبنا ومنطلقاته، لوجدتها تبحر بعيدًا بعيدًا في عالم الأساطير والخرافات!

    وأرجو أن تشاهدوا هذا الفيديو، لأحد جهابذة الإلحاد المعاصرين، ريتشارد داوكنز، ودققوا في إجاباته، واحكموا بأنفسكم على نوعية العلم الذي ينطلق منه هو وأشياعه!
    https://youtu.be/H0A320svRB4


    علاج الكبر ليس بالسهل، فتضخم الأنا هو من أبرز المشكلات التي نعاني منها نحن البشر، لكنه ليس بالمستحيل. وقد يكفي للإنسان أن يتذكر من أين جاء وكيف خلق وكيف يعيش وكيف سيموت وأين سيذهب حتى يدرك حجمه الحقيقي. فقد تشكل ابن آدم من قطرات قذرة من المني خرجت من مجرى البول، وولد من فرج امرأة، وقضى شطر عمره في بيت الخلاء يتخلص من فضلاته، ولو لم يستحم لأيام فقط لتحول إلى جيفة تمشي على قدمين، وعندما يموت يدفن في الطين وتقتات عليه الحشرات! لقد خُلق الإنسان على ذلك النحو المقترن بالفضلات كدرس بليغ في التواضع للملحدين على وجه الخصوص، لتذكيرهم بأن التركيز على وجودهم المادي، وهم لا يؤمنون إلا بالمادة، لن يقودهم إلا إلى أن يصبحوا جزءًا لا يتجزأ من عالم الفضلات المادية التي تطوقهم أينما اتجهوا، ولتنبيههم بأن الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذهم من ذلك العالم المادي المنتن الفاني ويميزهم عنه هو التسامي بأرواحهم، ووصلها بالخالق الذي أوجدها ونفخ فيها من روحه وجعلها أهلًا للخلود.
    ضعف الإيمان

    بعض الناس يعبدون الله على حرف، أي يتصرفون فيما يتعلق بالإيمان والكفر وكأنهم يقفون على نقرة، وكأنهم يبحثون عن أدنى مبرر للتخلي عن إيمانهم. فإذا ما أصابت أحدهم مصيبة نسي أو تناسى أنه وجد في هذه الحياة كي يكون في حالة اختبار مستمر لإثبات صدق إيمانه وصبره وثقته بخالقه، وضرب بعرض الحائط قول الله: «ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون»، ودار يولول ويندب ويتهم الله بالظلم والقسوة!

    ومن مظاهر ضعف الإيمان الذي قد يفضي إلى الإلحاد عدم التمييز بين الدين وسلوك متبعيه، فصحيح مثلًا أن فتاوى بعض «المشايخ» و«الدعاة» هي جرائم نكراء، لتعارضها مع الدين والعقل والذوق السليم. ولكن ما علاقة الإيمان بدين معين بأخطاء من يدعون اتباعه، حتى نسارع إلى الكفر به، وكأنه يمثل شيئًا واحدًا هو وبعض الجهلة المتخلفين الذين يحاولون الحديث باسمه وبالنيابة عنه! وما الرابط بين الإلحاد وبين السلوك الانتهازي المنحرف لبعض التيارات السياسية التي تستغل الدين! فالإنسان يفترض أن يعبد الله، لا أن يعبد الناس كالإمعة، حتى إذا ما زاغوا عن الحق قلدهم وكفر بربه من أجلهم أو بسببهم!

    يقول الله تعالى في كتابه العزيز: «وما كان الله ليضيع إيمانكم»، فمن المستبعد تمامًا أن يضيع الله جهود المخلصين في البحث عنه وإيجاده، فهو يهديهم ويمهد لهم السبل حتى يؤمنوا به، مكافأة لصدقهم وإخلاصهم وجهدهم الحثيث للعثور على الحق والحقيقة. أما من يضل فلا يلومن إلا نفسه، لإن المشكلة فيه حتمًا، فهو يعاني إما من الجهل أو من الكبر أو من التقليد الأعمى أو من الرغبة في التحلل الأخلاقي، لذلك لن يزيده بحثه وهو بتلك العقلية والنفسية إلا ضلالًا ونفورًا من الحق.

    وأختم هذه المقالة بخبر مهم للملحدين المتشدقين بالعلم ومقولاته، يقول إن بحثًا قد أجري في جامعة أكسفورد، أفادت نتائجه بأن الأطفال يولدون وهم يؤمنون بالله بشكل فطري، قبل أن تؤثر في هذا المعتقد البيئة المحيطة، الأمر الذي ينسجم تمامًا مع ما جاء في حديث النبي عليه الصلاة والسلام القائل: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه…».

    فهل يتخلى الملحد عن عناده ويستفيق من سباته وإصراره على الباطل قبل أن يصحو بعد فوات الأوان ليجد نفسه في هذا الوضع المهين الذي يتحدث عنه القرآن الكريم بقوله: «وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير. إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقـًا وهي تفور. تكاد تميّز من الغيظ، كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير. قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير. وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم فسحقـًا لأصحاب السعير»!

  2. افتراضي

    احسنت القول اخي الكريم حفظك الله و ثبتك على الحق دائما

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء