هذه مسألة طَريفة ومُفيدة ونَادرة ، لم أجد من أفاضَ الحديث حولها في المصنَّفات الحديثية والفقهية القديمة والمعاصرة .

وقد تجشمتُ الكتابة فيها لأهميِّتها وكثرة السؤالِ حولها ، ولأنها قد تكون باباً لفسخ العقد أو الإقالة بسبب عيب السِّلعة .

والظاهر أن العلماء لم يلتفتوا لتحرير المسألة ، لأنها من باب الوصف الطردي ، وهو عند الأصولييِّن وصف لا يتعَّلق به حُكم شرعي يُؤثِّر على البيع أو العقد في الجملة ، فمحلُّ النَّفاذ من عَدمه هو حال المبيع .

والتكيِّيف الفقهي لهذه المسألة يأتي في سِّياق الكلام حول الحذر من الغبن والغش في البيع ، ولها تعلق بخيارالتدليس في البيع ، وهو كتمان العيب.

ويُمكن أن تُطرح المسألة على وجهين : هل يجوز السؤال عن سبب البيع ؟ أو هل يصح السؤال عن سبب البيع؟ .

فالأول يفيد تأكيد الحكم التكليفي ، لبيان حُكم الإباحة أو غيرها من الأحكام ، والثاني يفيد تأكيد الحكم الوضعي ، لبيان صحته أو فساده عند العقد .

ويضاف أيضا أن الأول يُشترط فيه عِلم المكلَّف بحكم المسألة ، والثاني لا يُشترط فيه ، وعليه فقد يأثم إن قصَّر في معرفة حال السِّلعة عند البيع كما سيأتي .

ومِثلُ هذه المسألة إن لم يَرد دليل من الوحيين على المشروعية أو العكس ، فيستدلُّ لها المفتي أو المجتهد بقاعدة الإستصحاب وهي قاعدة أصولية مهمة لها ارتباط بهذه المسألة وغيرها من مثيلاتها .

وقد جرى العُرف والعادة أنه لا يُسئل عن سبب البيع ، مثل العرف الجاري بعدم السؤال عن سبب الإجارة ، وهذا مشهور بين كثير من أهل المهنة بل حتى من العوام أنفسهم ، فكل إنسانٍ حرٌّ في ماله ، ولم تظهر صورة المسألة إلا حين تغيَّرت نفوس الناس وضَعُفت أماناتهم .
والرسول صلى الله عليه وسلم عندما عرَّف الكسب الطيب قال : ” كل بيع مبرور ” أخرجه الإمام أحمد في مسنده بإسناد حسن.

يعني لا غش فيه ولا خيانة ، فبسبب تفشِّي الغش والخيانة درج كثير من الناس على العناية بمعرفة سبب البيع تلميحاً أو تصريحاً ، لمعرفة ملابسات حال السِّلعة من خلال كلام البائع .

سبب البيع العام هو التجارة ، لكن السُّؤال عن سبب بيع سلعة معينة عند عَرضها في المزاد أو الحراج هو المقصود من هذا المقال.

والسؤال عن السبب في العبادات مشروع كالسؤال عن سبب الصلاة والسؤال عن سبب الزكاة والسؤال عن سبب الصيام والسؤال عن سبب الحج وكذلك الجهاد ونحوها من العبادات.

والسؤال عن السبب في المعاملات مشروع في الجملة ، كالسؤال عن سبب الوكالة أو الكفالة ، والسؤال عن سبب الحجر والسؤال عن سبب الإقالة ، والسؤال عن سبب عقد الشَّركة والسؤال عن سبب الصلح ، والسؤال عن سبب الحوالة والسؤال عن سبب الرهن ، ونحوها من المعاملات . وكل ذلك موزون بميزان العقود وهو العدل والأمانة .

والذي يطالع مصنفات الفقه يَلحظ أن باب شروط البيع قبل باب الخِيار ، وباب التصرف في المبيع يأتي بعد الخيار . فيفهم من هذا أن معرفة حال المبيع أمرٌ لازم عند تحرير عقد البيع أو إمضائه ، فاحفظ هذا فإنه نفيس جداً.

وموضوع سبب البيع لا ارتباط له بباب الضمان كما يتوهَّم بعض الطلبة ، لأن الضمان استيثاق بمنزلة الرهن ، وهذه بمنزلة الإقراربالصحة ، لأن المقصود معرفة سبب الإقرار بصحته أو عدمه.
والمعروف من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يسألُ عن الصفةِ ولا يسأل عن السبب ، لأن معرفة الصفة تُغني عن معرفة السبب في العالب ، وهذا مطرد في كثير من النصوص .

ولعل في هذا تنبيه منهُ إلى أهمِّية معرفة حال السِّلعة قبل الكلام في البيع من أصله ، كما في تبويب البخاري في صحيحه : باب إذا باع الثِّمار ثم أصابته عاهة فهو من البائع . وكما في الحديث المرفوع: ” إذا بِعت فَكِل ، وإذا ابتعتَ فاكتل ” .أخرجه البخاري.

وقد صح في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بطعام فأدخل يده فيه فقال : ” يا صاحب الطعام أسفل هذا مِثلُ أعلاه ؟ ” أخرجه الطبراني بإسناد صحيح ، وفي الحديث : ” لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح مالم يضمن ولا بيع ما ليس عندك ” أخرجه أبو داود بإسناد صحيح ، ونحوها من الأحاديث.

لأن البيع نفسه إما أن يكون الخِلافُ فيه حول الثمن أو حول السِّلعة ، فخشية الوقوع في الحرج يسأل بعض الناس عن سبب البيع.

وقديماً – وربما هو موجود الآن في بعض القُرى- كان بيع الجُزاف معمولًا به لحاجة الناس ، وهو بيع بالتخمين ، مثل بيع التمر بالثياب أو بيع التمر بالحطب ، وهذا جائز في الجملة لاختلاف الجنس الآخر ولأنه لا ربا فيه ، لكن لشبهة الغرر فيه وإمكانية الخداع في صفته ، مال بعضُ الفقهاء إلى منعه إحتياطاً. والله أعلم .

والسؤال عن سبب البيع مُقدَّر بَقدره بحسب معرفة حال السِّلعة وتوفر القرائن أو انعدامها الموجبة عند البيع ، فلا يُمنع مطلقاً ولا يُطلب مطلقاً.

وأحيانا قد يكون السُّؤال عن سبب البيع باباً إلى معرفة حكم المبيع ، ففي المواقع الإلكترونية الآن تكثر عروض بيع القِطط والذئاب والقرود والضِّباع ، ونحوها مما هي دائرة بين تحريم بيعها أو كراهيتها ، فإما أن تُردَّ إلى صاحبها لعدم إنعقاد البيع وإما أن يصح لجواز الإنتفاع .

والمنفعة لها ضوابط وهي : أن تكون ظاهرة لا خفاء فيها ، وأن يكون لها غرض صحيح في العُرف ، وأن لا تكون نادرة الوقوع .

والواجب على المسلم إذا شعر بخطورة السُّوق أو المزاد ، أن يشترط على البائع بخيار الشرط ، إن امتنع من توضيح عيوب السِّلعة ، أو لم يتيسر له معرفة حال السِّلعة ، والخيار ثلاثة أيام إن لم يتفق العاقدان على أقلَّ من ذلك كما في حديث حبَّان بن منقذ المشهور في الصحيحين.

وأبو حنيفة رحمه الله تعالى حكم بفساد بيع المضطر ، وهو بيعه شيئاً من ماله بثمن أقل من ثمن السوق . فهذا المثال عند الأحناف يُقاس عليه كثير من الصورة المعاصرة التي يقع بها أو بمثلها الفساد للمشتري.

وقد ورد في الشرع مشروعية ردُّ المبيع بسبب : عيبه أو اختلاف الصفة أو التدليس والغِش ، والنصوص في هذا كثيرة جداً.

والسؤال عن سبب البيع يُلاحظ كثيراً في مزاد السيارات ، لأن خطر الغِش والغَبن فيها أعظم من غيرها وقد يؤدِّي ذلك إلى خسائر لا تُحمد عقباها .

والبيع قد يكون بسبب السفر أو عدم الحاجة أو لظرف عائلي ، أو للمال نفسه ، ونحوها من الأسباب .
والسيارات مثل غيرها لا يُسئل عن سبب بيعها إلا عند الرِّيبة ، لأن السُّؤال من غير ريبة قدحٌ في ذِّمة البائع أو سلعته .

وقد ورد في النوازل الفقهية للوزاني ( 3/213 ): ” يجوز بيع الأب على ولده لسببٍ ولغير سبب ” ، وفي المعيار المعرب والجامع المغرب للونشريسي( 7/194 ): ” بيع القمح إذا خاف فساده ” مقصوده : أنه جواب لمن سأل عن سبب بيعه .

لكن لو كان السُّؤال عن سبب البيع القصدُ منه رفع الشكِّ في المبيع إن حُفَّت به قرائن أو أمارات غشٍ لإستدراج البائع ، فلا حرج في ذلك بل هو من تمام العقل .

ويُلحق بهذا إذا كان البائعُ له شريكٌ أو شفيعٌ في ماله كما في الحديث المرفوع : ” من كان له شريكٌ في رُّبعةٍ أو نخلٍ فليس له أن يبيع حتى يُؤذِن شريكه ” أخرجه مسلم في صحيحه .

ومثله من يبيع شيئاً لا يَقدر على تسليمه ، ويلُحق به بيع الدَّين بالدَّين ، وهو بيع ما في الذِّمة إلى أجل للحديث : ” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الدَّين بالدَّين ” أخرجه الطبراني بإسناد حسن.

والخلاصة مما تقدَّم أن معرفة سبب البيع إنما تصح في حالتين : خوفُ الغبن بعد الشراء ، أو خوف الوقوع في الضرر على المسلمين . فدليل الأول حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه مرفوعاً : ” البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا ” متفق عليه ، ودليل الثاني حديث عمران بن حصين رضي الله عنه : “نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السِّلاح في الفتنة ” أخرجه البخاري .

فالسؤال عن سبب البيع قد ينفعُ البائعَ أحياناً أكثر من منفعة المشتري ، عند كفِّ الضرر ومعرفة حكم المبيع المختلف فيه .

والذي تبيَّن لي من خلال َسبر المسألة وبحثها : أن سؤال المشتري للبائع عن سبب البيع هو بمنزلة تعليق البيع بالشرط ، أو بشرط البراءة من العيبِ كما يُسمِّيه أهل المزادات ،وهو صحيح في مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى ، وقد رجَّح الصِّحة ابن قيِّم الجوزية ( 751هـ ) رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين ( 3/400) فليراجع فإنه مهم جداً.

فَيُستفادُ مما مضى أن السُّؤال عن سبب البيع أحياناً قد يكون رافعاً للرِّيبة ، ومفتاحاً لمعرفة حكم المبيع ورحمة للمتبايعين في الصُّور الغامضة التي يخفى الحكم الشرعي فيها ، كأن يقول البائع :

بعتك السِّلعة بألفين نسيئة وبألفٍ نقداً ، فإن امتنع البائع عن تحديد نوع الصفقة بالنقد أو النسيئة بطل البيع ، لأنه بيعتين في بيعة . ومثل أن يقول بِعتُك عمارتي أو فُلَّتي على أن تبيعني أرضك الفلانية ، فلا يصح البيع ،لأن في ذلك غرراً وغبناً في الثمن . والله الموفِّق .

نسألُ الله الفِقه في الدِّين والإعتصام بحبله المتين .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

د/ أحمد بن مسفر العتيبي
http://ahmad-mosfer.com/2162