أول آلية من الآليات الدفاعيّة التي سنعرضها ويستعملها الملاحدة أثناء حواراتهم مع المسلمين، أو أثناء نظرهم في الإسلام هي آلية الإسقاط Projection، وهي آليةٌ لاشعوريّةٌ، بمعنى أن وعيك النفسي أيها الشاكّ ويا أيها المخالفُ يستعملها بدون أن تشعر وبصفةٍ لا إراديّةٍ -وقد فصّلنا الأسباب في الجزء الأول من هاته السلسلة - ، وهاته الآلية يقوم فيها الفرد بإسقاط حالته النّفسيّة، دوافعه، عيوبه، أخطائه، على الغير، بحيث يدركها فيهم توهّماً ويسمهم بها بدلاً من أن يدركها في نفسه !


فمثلاً الشخص الذي يضمر في نفسه العداء لجاره، قد يسقط شعوره العدائي على جاره فيدرك – توهّما- أن ذاك الجار يعامله بعداءٍ! والملحدُ دائماً ما يتوهّم العداء والحقد والكراهية من طرف أهل الإسلام، فلو سألتَ ملحداً يعيش في بلدٍ غربيٍّ، لماذا تخفي إلحادك عن معارفك وجيرانك؟ لأجابك بالقول أنه يخاف على حياته من القتل ! وكأنّ المسلمين يحملون السيوف في الشوراع ليبحثوا عن ملحد كي يقطعوا عنقه !


فهذا في حقيقته آليةٌ نفسيّةٌ دفاعيّةٌ عند الملحد لأنّه يرى في الإسلام، مصدراً للحقد والكراهيّة، فألصقت هاته الصورة النمطيّة في لا وعيه، ولكي يحصّن نفسه فيما يتوهّمه هو كباطل، يلجأ لآلية الإسقاط ليدفع عن نفسه فكرة أن الإسلام ديانة رحمةٍ للعالمين وهدايةٍ وخيرٍ للبشريّة !


وقد ذكر لنا القرآن الكريم صنفاً من الكفار يستعملون هاته الآلية الدفاعية أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى في محكم تنزيله : { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون } ( المنافقون:4).


فالمنافقون الذين يبطنون الكفر ويعلنون الإسلام، ويتآمرون عليه ليل نهار، يظنون أن المسلمين يريدون أن يبطشوا بهم، وذلك نتيجة شعورهم العدائي نحو المسلمين، فيقومون بإسقاط هذا الشعور عليهم .


أو حينما مثلاً يتّهم أحد المخالفين محاوره المسلمَ، بالتعالي، وأنه متخلّفٌ، لا يفهم، وإن قرأ لا يفقه، وغيرها من تلك التهم المعلّبة، فكلّها تهمٌ تكون وراءها آلية الإسقاط تلك.


وباتّفاق علماء النفس فميكانيزم الدفاع هذا، لا يمكّن الإنسان من التقدّم الذاتي، وتحسين مواقفه ومعتقداته ومعارفه وشخصيّته، ولا أن يعمل على تجاوز عيوبه تلك، لأنه ببساطةٍ ليس واعياً بها، ويحسِب أنه غير متّصفٍ بها جملةً وتفصيلاً ! وهي حالةٌ من رفض رؤية الحقيقة أمامه، وبالتالي توقع أخطاء كبيرةٍ في التأويل interprétation، فيكون ذلك صارفاً له عن الحقّ !


هذا الميكانيزم الدفاعي لا يكون سببه الوحيد شعورٌ ذاتيّ لا يعي الشخص وجوده، بل قد يكون نتيجة تجارب حياتيّةٍ سابقةٍ عند الملحد ! فحينما يقول الملحد لداعيةٍ أنت " تحتقرني" "تستهزئ بي" " تخنقني بتفكيرك" " لا تهتم بأسئلتي" فليس ذلك قد يكون بالضرورة وصفاً لواقعٍ ! بل أساسه حقيقةٌ قديمةٌ، وواقعةٌ سابقةٌ : ألمٌ نتيجة عدم اهتمامٍ، استهزاءٌ قديمٌ في المدرسة، احتقارٌ في موقف في الماضي، معاناةٌ لم يتمّ التعامل معها ومع تكرّرها قديماً، وبالتالي لم يتحرّر ذاك الشخص منها في تلك الحقبة، لذلك دائماً ما تظهر عن طريق آلية الإسقاط .


ومن هنا على المسلم المتبصّر أثناء مواجهته لمخالفٍ يستعمل هاته الآلية، أن يبني جسر تواصلٍ سليمٍ، ويؤكّد للمخالف أن ما يحسّه ليس واقعاً وإنما توهّماتٌ دفاعيّة لما يظنّه مهدّداً لأسلوب تفكيره واعتقاده، لكنّ ذلك ينبغي أن يكون مسنوداً بإرادةٍ حقيقيّة منك أيها المخالفُ، لكي تتجاوز هذا الحائل الكبير أما التفكير السّليم، والخلاصات المستقيمة، والتأويل الحكيم، بأن تفكّر في تلك الاتهامات وتلك المشاعر، وتعيد النّظر في تلك المعتقدات المترتّبة عنها انطلاقاً من وضعيتك أنتَ كإنسانٍ عاقلٍ، بالغٍ راشدٍ، فأغلب الملاحدة العرب ممن حاورنا ودرسناَ اعتقنوا مذاهبهم الفكريّة في مرحلة المراهقة والمراحل الأولى الشبابيّة، فكانت نظرتهم لما يواجههم من منطلق أعمارهم تلك، فبنوا عليها خلاصات واستنتاجاتٍ وعايشوها، وانشرح صدرهم بها، حتى استطاع الوعي النفسي أن يقيم مجموعةً من الحواجز الدّفاعيّة اللاّشعورية لكلّ محاولةٍ تهدف إلى خلخلة هذا النّسق الفكريّ الاعتقاديّ!


إنه لمن المهم أيها المخالف – هداك الله وأصلحك- أن تقرأ عن هاته الآلية الدفاعيّة، وتعرفها، وتستطيع تمييزها في محيطك، لكن هل سبق أن وقفتَ وقفةً ونظرتَ في نفسك مجهريّاً ؟ لعلّك تطبّقها في منهج بحثك عن الحق؟ في حواراتك ومواقفك؟ في استنتاجاتك وخلاصاتك ؟ اسأل نفسك لعلّك أنت مصدر أحكام القيمة القبليّة التي تلصقها بأهل الإسلام؟ لعلّ تلك التهم جاءت نتيجة صداماتٍ سابقةٍ أثّرت عليك ؟


إنّ هدف المقال يا رعاك الله أن تعمل على تجاوز تلك الآلية التي تحجب عنك الرؤية السويّة؛ وتدفع عنك ذاك الإحباط نتيجتها، وكل هذا لا يتطلّب منك مجهوداً كبيرا، بل فقط إنصافاً، وإرادةً، وتجرّداً لقبول الحق . والله الموفق لما فيه الخير.